فصل
فى الأغاليط التى وقع فيها بعض العلماء فى إحرام النبى صلى الله عليه وسلم
وغلط فى إحرامه خمسُ طوائف .
إحداها : مَن قال : لبَّى بالعُمرة وحدَها ، واستمر عليها .
الثانية : مَن قال : لبَّى بالحَجِّ وحده ، واستمر عليه .
الثالثة : مَن قال : لبَّى بالحَجِّ مُفرداً ، ثم أدخل عليه العُمْرة ، وزعم أن ذلك خاص به .
الرابعة : مَن قال : لبَّى بالعُمرة وحدها ، ثم أدخل عليها الحَج فى ثانى الحال .
الخامسة : مَن قال : أحرم إحراماً مطلقاً لم يعيِّن فيه نُسُكاً ، ثم عيَّنه بعد إحرامه .
والصوابُ : أنه أحرم بالحَجِّ والعُمرة معاً مِنْ حين أنشأ الإحرام ، ولم يحلَّ حتى حلَّ منهما جميعاً ، فطاف لهما طوافاً واحداً ، وسعى لهما سعياً واحداً . وساق الهَدْى ، كما دلَّت عليه النصوصُ المستفيضة التى تواترت تواتراً يعلمُه أهلُ الحديث .. واللَّه أعلم .
فصل
فى أعذار القائلين بهذه الأقوال ، وبيان منشأ الوهم والغلط
أما عُذر مَن قال : اعتمر فى رجب ، فحديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما ، أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر فى رجب متفق عليه . وقد غلَّطته عائشةُ وغيرُها ، كما فى ((الصحيحين )) عن مجاهد ، قال : دخلتُ أنا وعُروةُ بن الزبير المسجد ، فإذا عبد اللَّه بن عمر جالساً إلى حُجْرَةِ عائشة ، وإذا ناسٌ يُصلُّون فى المسجد صلاةَ الضحى ، قال : فسألناه عن صلاتهم . فقال : بدعة . ثم قُلنا له : كم اعتمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أربعاً . إحداهن : فى رجب ، فكرهنا أن نَرُدَّ عليه . قال : وسمعنا استنانَ عائشةَ أُمِّ المؤمنين فى الحُجْرَةِ ، فقال عروةُ : يا أُمَّه أو يا أُمَّ المؤمنين ألا تسمعينَ ما يقولُ أبو عبد الرحمن ؟ قالت : ما يقولُ؟ قال : يقول : إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربَع عُمَرٍ ، إحداهن فى رجب . قالت : يرحَمُ اللَّهُ أبا عبد الرحمن ، ما اعتمر عُمْرةً قطُّ إلا وهو شاهِدٌ ، وما اعتمر فى رجب قط . وكذلك قال أنس ، وابنُ عباس : إن عُمَرَه كُلَّها كانت فى ذى القِعْدة ، وهذا هو الصواب .
فصل
فيمن قال إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر فى شوَّال
وأما مَنْ قال : اعتمر فى شوَّال ، فعذُره ما رواه مالك فى (( الموطأ )) ، عن هشام بنِ عُروة ، عن أبيه ، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لم يعتمر إلا ثلاثاً ، إحداهُنَّ فى شوَّال ، واثنتين فى ذى القِعْدة . ولكن هذا الحديث مرسل ، وهو غلط أيضاً، إما مِن هشام ، وإما مِن عُروة أصابه فيه ما أصاب ابن عمر . وقد رواه أبو داود مرفوعاً عن عائشة ، وهو غلط أيضاً لا يَصِحُّ رفعُه . قال ابنُ عبد البر : وليس روايته مسنداً مما يُذكر عن مالك فى صحة النقل . قلت : ويدلُّ على بطلانه عن عائشة : أن عائشة ، وابن عباس ، وأنسَ بنَ مالك قالوا : لم يعتَمِرْ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا فى ذى القِعْدة . وهذا هو الصواب ، فإن عُمْرة الحُدَيْبِيَةِ وعُمرة القَضِيَّة ، كانتا فى ذى القِعْدة ، وعُمرة القِران إنما كانت فى ذى القِعْدة ، وعُمرة الجِعْرَانَة أيضاً كانت فى أوَّل ذى القِعْدة ، وإنما وقع الاشتباه أنه خرج من مكة فى شوَّال للقاء العدو ، وفرغ من عدوه ، وقسم غنائِمَهم ، ودخلَ مكة ليلاً معتمِراً من الجِعرانة ، وخرج منها ليلاً ، فخفيت عُمْرتُه هذه على كثير من الناس ، وكذلك قال مُحرِّشٌ الكعبىُّ .. واللَّه أعلم .
فصل
فى خطأ مَن ظن أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر من التنعيم بعد الحج
وأما مَن ظن أنه اعتمر مِن التنعيم بعد الحج ، فلا أعلم له عُذراً ، فإن هذا خلافُ المعلومِ المستفيض من حَجَّته ، ولم ينقلْه أحدٌ قط ، ولا قاله إمامٌ ، ولعل ظانَّ هذا سَمِع أنه أفرد الحَجَّ ، ورأى أن كلَّ مَنْ أفرد الحَج مِن أهلِ الآفاق لا بُد له أن يخرُج بعده إلى التنعيم ، فنَزَّل حَجَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وهذا عينُ الغَلَطِ .
فصل
فى عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر فى حَجته أصلاً
وأما مَن قال : إنه لم يعتمرْ فى حَجته أصلاً ، فعذرُه أنه لما سمع أنه أفرد الحج ، وعلم يقيناً أنه لم يَعتمِرْ بعد حَجته قال : إنه لم يعتمِرْ فى تلك الحَجة اكتفاءً منه بالعُمْرة المتقدِّمة ، والأحاديثُ المستفيضة الصحيحة ترُدُّ قولَه كما تقدَّم من أكثر من عشرين وجهاً ، وقد قال : (( هذه عمرةٌ استمتعنا بها )) وقالت حفصة : ما شأن الناسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ أنت من عُمرتك ؟ وقال سراقة بن مالك : تمتَّعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قال ابن عمر ، وعائشة ، وعِمران بن حصين ، وابن عباس ، وصرَّح أنس ، وابن عباس ، وعائشة ، أنه اعتمر فى حَجته وهى إحدى عُمَرِهِ الأربع .
فصل
فى عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر عُمْرة حلَّ منها
وأما مَن قال : إنه اعتمر عُمْرة حلَّ منها ، كما قاله القاضى أبو يعلى ومَنْ وافقه ، فعذرُهم ما صحَّ عن ابن عمر وعائشة ، وعِمرانَ بنِ حصين وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم تمتَّع ، وهذا يحتمِل أنه تمتُّعٌ حَلَّ منه ، ويحتمل أنه لم يَحِلَّ ، فلما أخبر معاويةُ أنه قصر عن رأسه بمِشْقَص على المروة ، وحديثه فى (( الصحيحين )) دلَّ على أنه حَلَّ من إحرامه ، ولا يُمكنُ أن يكونَ هذا فى غير حَجَّةِ الوداع ، لأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح ، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يكن زمن الفتح مُحرِماً ، ولا يمكن أن يكون فى عُمْرة الجعْرانةِ لوجهين :
أحدهما : أن فى بعض ألفاظ الحديثِ الصحيح : (( وذلك فى حَجَّته )) .
والثانى : أن فى رواية النسائى بإسناد صحيح : (( وذلك فى أيام العشر )) ، وهذا إنما كان فى حَجته ، وحمل هؤلاء رواية مَن روى أن المتعة كانت له خاصة ، على أن طائفةً منهم خصُّوا بالتحليل من الإحرام مع سَوْق الهَدْى دون مَنْ ساق الهَدْىَ من الصحابة ، وأنكر ذلك عليهم آخرون ، منهم شيخُنا أبو العباس. وقالوا : مَن تأمل الأحاديث المستفيضة الصحيحة ، تبيَّن له أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَحِلَّ ، لا هو ولا أحدٌ ممن ساق الهَدْى .
فصل
فى أعذار الذين وهموا فى صفة حَجَّته
أما مَن قال : إنه حجَّ حجاً مفرداً ، لم يعتمِرْ فيه، فعذره ما فى (( الصحيحين )) عن عائشة ، أنها قالت : خرجنا مَعَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عامَ حَجَّةِ الوداع ، فَمِنَّا مَنْ أهلَّ بعُمْرة ، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بحَجٍّ وعُمْرة ، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بحَج ، وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحَجِّ . وقالوا : هذا التقسيمُ والتنويع ، صريح فى إهلاله بالحَجِّ وحده .
ولمسلم عنها : ((أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أهلَّ بالحَجِّ مُفرداً )).
وفى (( صحيح البخارى )) عن ابن عمر : ((أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبَّى بالحجِّ وَحْدَهُ )).
وفى (( صحيح مسلم )) ، عن ابن عباس : ((أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحج )).
وفى (( سنن ابن ماجه )) ، عن جابر (( أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أفرد الحج )).
وفى (( صحيح مسلم )) عنه (( خرجنا مَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نَنْوِى إلا الحَجَّ ، لسنا نعرِفُ العُمْرَةَ )).
وفى (( صحيح البخارى )) ، عن عُروة بن الزبير قال : ((حَجَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأخبرتنى عائشةُ أنَّ أوَّل شئ بدأ به حين قَدِمَ مكة ، أنه توضَّأ ، ثم طافَ بالبيت ، [ ثم لم تكن عُمْرَةٌ ] ، ثم حجَّ أبو بكر رضى اللَّه عنه ، فكان أوَّل شئ بدأ به ، الطَّوَافُ بالبيت ، ثم لم تكُن عُمرةٌ ، ثم عُمَرُ رضى اللَّه عنه مِثلُ ذلك ، ثم حجَّ عُثمانُ ، فرأيتُه أوَّلُ شئ بدأ به الطُوافُ بالبَيْتِ ، ثم لم تَكُن عُمرةٌ ، ثم مُعاوية ، وعبد اللَّه بنُ عمر ، ثم حججتُ مع أبى : الزبيرِ بن العوّام ، فكان أوَّل شئ بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تَكُن عُمرةُ ، ثم رأيتُ فعل ذلك ابنُ عمر ، ثم لم ينقُضْها عُمْرَةً ، وهذا ابن عُمر عندهم ، فلا يسألُونَه ولا أحد ممن مَضَى ما كانُوا يبدؤون بشئ حين يَضَعُون أقدامهم أوَّلَ من الطَّواف بالبيت ، ثم لا يَحِلُّون ، وقد رأيتُ أُمى وخالتى حين تَقْدَمَانِ ، لا تبدآن بشئ أوَّل مِن البَيْتِ تطُوفان به ، ثم إنهما لا تَحِلاَّنِ ، وقد أخبرتنى أُمِّى أنها أهلَّت هى وأُختُها والزُبيرُ ، وفلانٌ ، وفلانٌ بعُمْرة ، فلما مسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا.))
وفى (( سنن أبى داود )) : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، ووُهَيْبُ بنُ خالد ، كلاهما عن هشام بن عُروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت (( خرجْنَا مع رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُوَافِين لِهلالِ ذىِ الحِجَّة ، فلما كان بذى الحُليفةِ قال: ( مَنْ شَاءَ أَنْ يُهلَّ بحَجٍّ فَلْيُهِلَّ ، ومَنْ أرادَ أَنْ يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بعُمْرَةِ ))) ، ثم انفرد وُهَيْب فى حديثه بأن قال عنه صلى الله عليه وسلم : (( فإنِّى لولا أنِّى أَهْدَيْتُ ، لأَهْلَلْتُ بعُمْرَةٍ )) . وقال الآخر : (( وأَمَّا أنا فأُهِلُّ بالحَجِّ )) . فصحَّ بمجموع الروايتين ، أنه أهلَّ بالحَجِّ مفرداً .
|