فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الإِسراعُ بتجهيز الميت إلى اللّه، وتطهيره، وتنظيفِه، وتطييبه، وتكفيِنه في الثياب البيض، ثم يؤتى به إليه، فيُصلِّي عليه بعد أن كان يُدعى إلى الميت عند احتضاره، فيُقيم عنده حتى يقضي، ثم يحضر تجهيزه، ثم يُصلِّي عليه، ويشيِّعه إلى قبره، ثم رأى الصحابةُ أن ذلك يشقُ عليه، فكانوا إذا قض الميتُ، دعوه، فحضر تجهيزه، وغسله، وتكفينَه. ثم رأوا أن ذلك يشقُّ عليه، فكانوا هم يُجهِّزون ميتهم، ويحملونه إليه صلى الله عليه وسلم على سريره، فيُصلي عليه خارِج المسجد.
ولم يكن من هديه الراتب الصلاةُ عليه في المسجد، وإنما كان يُصلي على الجنازة خارج المسجد، ورُبما كان يصلي أحياناً على الميت في المسجد، كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد ولكن لم يكن ذلك سنتَه وعادتَه،،، فقد روى أبو داود في ((سننه)) من حديث صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى على جَنَازَة في المَسْجِد فَلاَ شَيء له)). وقد اختلف في لفظ الحديث، فقال الخطيب في روايته لكتاب السنن: في الأصل ((فلا شَيءَ عَلَيْهِ)) وغيرُه يرويه ((فَلاَ شَيءَ لَهُ)) وقد رواه ابن ماجه في ((سننه)) ولفظه: ((فَلَيْسَ لَهُ شَيء)). ولكن قد ضعف الإِمام أحمد وغيره هذا الحديث، قال الإِمام أحمد: هو مما تفرد به صالح مولى التوأمة، وقال البيهقي: هذا حديث يعدُّ في أفراد صالح، وحديث عائشة أصح منه، وصالح مختلَف في عدالته، كان مالك يجرحه، ثم ذكر عن أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما، أنه صُلِّي عليهما في المسجد.
قلت: وصالح ثقة في نفسه، كما قال عباس الدُّوري عن ابن معين: هو ثقة في نفسه. وقال ابن أبي مريم ويحيى: ثقة حجة، فقلت له: إن مالكاً تركه، فقال: إن مالكاً أدركه بعد أن خَرِفَ، والثوري إنما أدركه بعد أن خَرِفَ، فسمع منه، لكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يَخرَفَ. وقال علي بن المديني: هو ثقة إلا أنه خَرِفَ وكَبِرَ فسمع منه الثوري بعد الخرف وسماع ابن أبي ذئب منه قبل ذلك. وقال ابن حبان: تغير في سنة خمس وعشرين ومائة، وجعل يأتي بما يُشبه الموضوعات عن الثقات، فاختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز، فاستحق الترك انتهى كلامه.
وهذا الحديث: حسن، فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه، وسماعه منه قديم قبل اختلاطه، فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حدَّث به قبل الاختلاط. وقد سلك الطحاوي في حديث أبي هريرة هذا، وحديث عائشة مسلكاً آخر، فقال: صلاةُ النبي صلى الله عليه وسلم على سُهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة، وترك ذلك آخر الفعلين من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة، وما كانوا لِيفعلوه إلا لما علموا خلافَ ما نقلت. ورَد ذلك على الطحاوي جماعة، منهم: البيهقي وغيره. قال البيهقى: ولو كان عند أبي هريرة نسخُ ما روته عائشة، لذكره يوم صلِّيَ على أبي بكر الصديق في المسجد، ويوم صُلِّيَ على عمر بن الخطاب في المسجد، ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد، ولذكره أبو هريرة حين روت فيه الخبر، وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز، فلما روت فيه الخبر، سكتوا ولم يُنكروه، ولا عارضوه بغيره.
قال الخطابي: وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما صُلِّىَ عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم الإِنكار الدليلُ على جوازه، قال: ويحتمِل أن يكون معنى حديث أبي هريرة إن ثبت، متأولاً على نقصان الأجر، وذلك أن من صلى عليها في المسجد، فالغالبُ أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه، وأن من سعى إلى الجنازة، فصلى عليها بحضرة المقابر، شهد دفنه، وأحرز أجر القيراطين، وقد يؤجر أيضاً على كثرة خُطاه، وصار الذي يُصلي عليه في المسجد منقوصَ الأجر بالإِضافة إلى من صلي عليه خارج المسجد.
وتأولت طائفة معنى قوله: ((فلا شيء له))، أي فلا شيء عليه، ليتحد معنى اللفظين، ولا يتناقضان كما قال تعالى: {وإن أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، أي: فعليها، فهذه طرق الناس في هذين الحديثين. والصواب ما ذكرناه أولاً، وأن سُنَّته وهديه الصلاةُ على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر، وكلا الأمرين جائز، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد. واللّه أعلم.
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تسجيةُ الميت إذا مات، وتغميضُ عينيه، وتغطيةُ وجهه وبدنه، وكان رُبما يُقبِّل الميت كما قبَّل عثمانَ بن مظعون وبكى وكذلك الصِّدِّيقُ أكبَّ عليه، فقبَّله بعد موته صلى الله عليه وسلم.
وكان يأمر بغسل الميت ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر بحسب ما يراه الغاسِل، ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة، وكان لا يُغسَل الشهَداءَ قَتلَى المعركة، وذكر الإِمام أحمد، أنه نهى عن تغسيلهم، وكان ينزع عنهم الجلودَ والحديدَ ويَدفِنُهم في ثيابهم، ولم يُصلِّ عليهم.
وكان إذا مات المُحرِمُ، أمر أن يُغسل بماء وسِدْر، ويُكفن في ثوبيه وهما ثوبا إحرامه: إزاره ورداؤه، وينهى عن تطييبه وتغطية رأسه وكان يأمر من ولي الميتَ أن يُحسن كفنه، ويُكفنه في البياض، وينهى عن المغالاة في الكفن، وكان إذا قصَّرَ الكفنُ عن سَتر جميع البدن، غطَّى رأسه، وجعل على رجليه من العُشب.
فصل
وكان إذا قُدِّم إليه ميت يُصلِّي عليه، سأل: هل عليه دَين، أم لا؟ فإن لم يكن عليه دَين، صلَّى عليه، وإن كان عليه دين، لم يصل عليه، وأذِن لأصحابه أن يُصلوا عليه، فإن صلاته شفاعة، وشفاعتُه موجبة، والعبد مرتَهَنٌ بدَينه، ولا يدخل الجنة حتى يُقضى عنه، فلما فتح اللّه عليه، كان يُصلي على المدِين، ويتحمَّل دينه، ويدع ماله لورثته
فإذا أخذ في الصلاة عليه، كبر وحَمِدَ اللّه وَأَثنَى عَليْهِ، وصلى ابن عباس على جنازة، فقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب جهراً، وقال: ((لِتَعْلَمُوا أنها سُنَّة)) وكذلك قال أبو أُمامة بنُ سهل: إنَّ قراءة الفاتحة في الأولى سنَّة. ويُذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمر أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. ولا يصح إسناده. قال شيخنا: لا تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، بل هى سنة، وذكر أبو أمامة بنُ سهل، عن جماعة من الصحابة، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة وروى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد المقبُري، عن أبي هريرة، أنه سأل عُبادَة بنَ الصامت عن الصلاة على الجنازة فقال: أنا واللَّهِ أُخبرُك: تبدأ فتكبِّر، ثُمَّ تُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم، وتَقُول: اللَّهُمَّ إنَّ عَبْدَكَ فَلاناً كَانَ لا يُشْرِكُ بِك وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، إنْ كَانَ مُحْسِناً، فَزِدْ في إحسَانِهِ، وإنْ كَانَ مُسِيئاً، فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، اللَّهُمً لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تُضِلَّنَا بَعَدَهُ.
فصل
ومقصودُ الصلاة على الجنازة: هو الدعاء للميت، لذلك حفظَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونُقِلَ عنه ما لم يُنقل مِنْ قراءة الفاتِحة والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
فحُفِظَ من دعائه: ((اللَّهُمَّ اغفِرْ لَهُ، وارْحَمْهُ، وعَافِهِ، واعَفُ عَنهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَه، وَوَسِّعْ مَدْخَلَه، واغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، ونَقِّهِ مَنَ الخطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وأَبْدِلْهُ دَارَاً خَيْراً مِنْ دَارِه، وَأَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وأَدْخِلْهُ الجَنةَ، وَأَعِذْهُ مِن عَذَابِ القَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَارِ)).
وحُفِظَ من دعائه: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا، وكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا، وأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبنَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحيَيْتَهُ مِنَّا، فأَحْيهِ عَلَى الإِسْلاَم، وَمَنْ تَوفَّيْتَهُ مِنَّا، فَتَوَفَّه عَلَى الإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تَفتِنَّا بَعْدَهُ)).
وحُفِظَ مِن دعائه: ((اللَّهُمَّ إنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ في ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مَنْ فِتْنَةِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّار، فأَنْتَ أَهْلُ الوَفَاءِ وَالحَق، فَاغفِرْ لَهُ وَارْحَمهُ، إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)).
وحُفِظَ مِن دعائه أيضاً: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنتَ رَزَقْتَهَا، وأَنْتَ هَدَيْتَهَا للإِسْلامِ، وَأَنْتَ قَبضْتَ رُوحَهَا، وتَعْلَمُ سِرَّهَا وَعَلانِيَتَهَا، جئْنَا شفَعَاءَ فَاغفِرْ لَهَا)).
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإخلاص الدعاء للميت، وكان يُكبرِّ أربعَ تكبيرات، وصح عنه أنه كبَّر خمساً، وكان الصحابة بعده يُكبِّرون أربعاً، وخمساً، وستاً، فكبَّر زيد بن أرقم خمساً، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبرها، ذكره مسلم.
وكبر علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه على سهل بن حُنيف ستاً، وكان يُكبر على أهل بدر ستاً، وعلى غيرهم من الصحابة خمساً، وعلى سائر الناس أربعاً، ذكره الدارقطني.
وذكر سعيد بنُ منصور، عن الحكم بن عُتيبة أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمساً، وستاً، وسبعاً. وهذه آثار صحيحة، فلا موجب للمنع منها، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يمنع مما زاد على الأربع، بل فعله هو وأصحابُه من بعده.
والذين منعوا من الزيادة على الأربع، مِنهم من احتج بحديث ابن عباس، أن آخر جنازة صلَّى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، كبَّرَ أربعاً قالوا: وهذا آخر الأمرين، وإنما يؤخذ بالآخِر، فالآخر مِن فعله صلى الله عليه وسلم هذا. وهذا الحديثُ، قد قال الخلال في ((العلل)): أخبرني حرب: قال: سئل الإِمام أحمد عن حديث أبي المليح، عن ميمون، عن ابن عباس، فذكر الحديث. فقال أحمد: هذا كذب ليس له أصل، إنما رواه محمد بن زياد الطحان وكان يضع الحديث. واحتجوا بأن ميمون بن مهران روى عن ابن عباس، أن الملائكة لما صلَت على آدم عليه الصلاة والسلام، كبَّرت عليه أربعاً، وقالوا: تِلك سنتكم يا بني آدم. وهذا الحديث قد قال في الأثرم: جرى ذكر محمد بن معاوية النيسابوري الذي كان بمكة، فسمعتُ أبا عبد اللّه قال: رأيت أحاديثه موضوعة، فذكر منها عن أبي المليح، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، أن الملائكة لما صلَّت على آدم، كبَّرت عليه أربعاً، واستعظمه أبو عبد الله وقال: أبو المليح كان أصح حديثاً وأتقى لله من أن يَرويَ مثلَ هذا.
واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث يحيى، عن أبيّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الملائكة لما صلَّت على آدم، فكبرت عليه أربعاً، وقالت: هذه سنتكم يا بني آدم، وهذا لا يصح وقد روي مرفوعاً وموقوفاً.
وكان أصحاب معاذ يُكبِّرون خمساً، قال علقمة: قلتُ لعبد اللّه: إن ناساً من أصحاب معاذ قدموا من الشام، فكبَّروا على ميت لهم خمساً، فقال عبد اللّه: ليسَ على المِّيت في التكبير وقتٌ، كبِّر ما كبَّرَ الإِمام، فإذا انصرفَ الإمام فانصرِفْ.
|