قال الطبراني: لم يروه عن مطرِّف إلا محمد بن أنس. انتهى.
وهذا الإِسناد وإن كان لا تقوم به حُجة، فالحديث صحيح من جهة المعنى، لأن القنوت هو الدعاء، ومعلوم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يُصل مكتوبة إلا دعا فيها، كما تقدم، وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صح أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، ونحن لا نشك ولا نرتاب في صحة ذلك، وأن دعاءه استمر في الفجر إلى أن فارق الدنيا.
الوجه الرابع: أن طرق أحاديث أنس تُبين المراد، ويصدق بعضها بعضاً، ولا تتناقض. وفي ((الصحيحين)) من حديث عاصم الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة؟ فقال: قد كان القنوت، فقلت: كان قبلَ الركوع أو بعده؟ قال: قبله؟ قلتُ: وإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت: قنت بعدَه. قال: كذب، إنما قلت: قنتَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً. وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول تفرد به عاصم، وسائر الرواة. عن أنس خالفوه، فقالوا: عاصم ثقة جداً، غيرَ أنه خالف أصحابَ أنس موضع القنوتين، والحافظ قد يهم، والجواد قد يعثُر، وحكوا عن الإِمام أحمد تعليله، فقال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل -: أيقول أحد في حديث أنس: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع غيرَ عاصم الأحول؟ فقال: ما علمتُ أحداً يقوله غيرُه. قال أبو عبد اللّه: خالفهم عاصم كُلَّهم، هشام عن قتادة عن أنس، والتيمي، عن أبي مجلز، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قنت بعد الركوع، وأيوبُ عن محمد بن سيرين قال: سألت أنسا. وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه. وأما عاصم فقال: قلت له؟ فقال: كذبوا، إنما قنتَ بعد الركوع شهراً. قيل له: من ذكره عن عاصم؟ قال: أبو معاوية وغيره، قيل لأبي عبد اللّه: وسائر الأحاديث أليس إنما هي الركوع؟ فقال: بلى كلها عن خُفاف بن إيماء بنِ رَحْضَة، وأبي هريرة.
قلت لأبي عبد الله: فلم ترخص إذاً في القنوت قبل الركوع، وإنما صح الحديثُ بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوتر يُختار بعد الركوع، ومن قنت قبل الركوع، فلا بأس، لفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، واختلافهم، فأما في الفجر، فبعد الركوع.
فيقال: من العجب تعليلُ هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته، ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ، والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي، وقيس بن الربيع، وعمرو بن أيوب، وعمرو بن عبيد، ودينار، وجابر الجعفي، وقل من تحمَّل مذهباً، وانتصر له في كل شيء إلا اضطر إلى هذا المسلك.
فنقول وبالله التوفيق: أحاديث أنس كلها صحاح، يُصدِّق بعضُها بعضاً، ولا تتناقضُ، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غيرُ القنوت الذي ذكره بعده، والذي وقته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالةُ القيام للقراءة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَفْضلُ الصَّلاَةِ طُولُ القنُوتِ)) والذي ذكره بعده، هو إطالةُ القيام للدعاء، فعله شهراً يدعو على قوم، ويدعو لقوم، ثم استمرَّ يُطيل هذا الركنَ للدعاء والثناء، إلى أن فارق الدنيا، كما في ((الصحيحين)) عن ثابت، عن أنس قال: إني لا أزال أُصلي بكم كما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بنا، قال: وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائلُ: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة يمكُث، حتى يقول القائلُ: قد نسي. فهذا هو القنوتُ الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا.
ومعلوم أنه لم يكن يسكُت في مثل هذا الوقوف الطويل، بلَ كان يثني على ربه، ويُمجِّده، ويدعوه، وهذا غيرُ القنوتِ الموقَّت بشهر، فإن ذلك دعاء على رِعل وذَكوان وعُصيَّة وبني لِحيان، ودُعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة. وأما تخصيصُ هذا بالفجر، فبحسب سؤال السائل، فإنما سأله عن قنوت الفجر، فأجابه عما سأله عنه. وأيضاً، فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة، وكان كما قال البراء بن عازب: ركُوعُه، واعتداله، وسجودُه، وقيامُه متقارباً. وكان يظهرُ مِن تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك. ومعلوم أنه كان يدعو ربه، ويثني عليه، ويمجده في هذا الاعتدال، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وهذا قنوتٌ منه لا ريبَ، فنحن لا نشكُّ ولا نرتابُ أنه يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.
ولما صار القنوتُ في لِسان الفقهاء وأكثرِ الناس، هو هذا الدعاء المعروف: اللهم اهدني فيمن هديت... إلى آخره، وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وكذلك الخلفاءُ الراشدون وغيرهم من الصحابة، حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم، ونشأ مَن لا يعرف غيرَ ذلك، فلم يشك أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كانوا مداومين عليه كلَّ غداة، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهورُ العلماء، وقالوا: لم يكن هذا من فِعله الراتب، بل ولا يثبُت عنه أنه فعله.
وغاية ما رُوي عنه في هذا القنوت، أنه علمه للحسن بن علي، كما في ((المسند)) و ((السنن)) الأربع عنه قال: علَّمني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهن في قُنوت الوترِ: ((اللَّهُمّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لِي فِيمَا أَعْطيْتَ، وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإنَكَ تَقْضِي، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّه لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ))) قال الترمذي: حديث حسن، ولا نعرف في القنوت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أحسنَ من هذا، وزاد البيهقي بعد ((وَلاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ))، ((وَلاَ يَعِزُّ مَن عَادَيْتَ)).
وممّا يدل على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيامُ للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب: حدثنا أبو هلال، حدثنا حنظلة إمامُ مسجد قتادة، قلت: هو السدوسي، قال: اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح، فقال قتادة: قبل الركوع، وقلت، أنا: بعد الركوع، فأتينا أنس بن مالك، فذكرنا له ذلك، فقال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فكبر، وركع، ورفع رأسه، ثم سجد، ثم قام في الثانية، فكبر، وركع، ثم رفع رأسه، فقام ساعة ثم وقع ساجداً. وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء، وهو يُبين مراد أنس بالقنوت، فإنه ذكره دليلاً لمن قال: إنه قنت بعد الركوع، فهذا القيام والتطويل هو كان مرادَ أنس، فاتفقت أحاديثُه كلُها، وباللّه التوفيق. وأما المروي عن الصحابة، فنوعان:
أحدُهما: قنوت عند النوازل، كقنوتِ الصديق رضي اللّه عنه في محاربه الصحابة لمسيلِمة، وعِند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنوتُ عمر، وقنوت علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام.
الثاني: مطلَق، مرادُ من حكاه عنهم به تطويلُ هذا الركن للدعاء والثناء، واللّه أعلم.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود السهو
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُوني)).
وكان سهوه في الصلاة من تمام نعمة اللّه على أمته، وإكمالِ دينهم، ليقتدوا به فيما يشرعُه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في ((الموَطأ)): ((إِنَّمَا أنْسَى أوْ أنَسَّى لأَسُنَ)).
وكان صلى الله عليه وسلم ينسى، فيترتب على سهوه أحكامٌ شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة، فقام صلى الله عليه وسلم من اثنتين في الرُّباعية، ولم يجلس بينهما، فلما قض صلاته، سجد سجدتين قبل السلام، ثم سلم، فأخذَ من هَذا قاعدة: أن من ترك شيئاً من أجزاء الصلاة التي ليست بأركان سهواً، سَجد له قبل السلام، وأخذَ من بعض طرقه أنه: إذا ترك ذلك وشرع في ركن، لم يرجع إلى المتروك، لأَنه لما قام، سَبَّحُوا، فأشار إليهم: أن قوموا.
واختلف عنه في محل هذا السجود، ففي ((الصحيحين)) من حديث عبد اللّه بن بُحَيْنَة، أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثْنَتَيْنِ من الظهر، ولم يَجْلس بينهما، فلما قضى صلاته، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثم سلًّم بعد ذلكَ.
وفي رواية متفق عليها: يكَبِّر في كل سجدة وهو جالِس قبل أن يُسَلِّمَ.
وفي ((المسند)) من حديث يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن زياد بن عِلاقة قال: صلَّى بنا المغيرةُ بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلِس، فسبَّح به مَن خلفه، فَأشار إليهم: أن قوموا، فلما فَرَغَ من صلاته، سلَّم، ثم سجد سجدتين، وسلَّم، ثم قال: هكذا صنع بنا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، وصححه الترمذي
وذكر البيهقي من حديث عبد الرحمن بن شمَاسَة المَضري قال: صلَّى بنا عقبة بن عامر الجُهني، فقام وعليه جلوسٌ، فقالَ الناس: سُبحانَ اللَّهِ، سبحان اللَّه، فلم يجلس، ومضى على قيامه، فلما كان في آخر صلاته، سجد سجدتي السَهو وهو جاَلس، فلما سلَّم، قال: إني سمعتكم آنفاً تقولون: سبحانَ اللَّهِ لكيما أجلس، لكِنَّ الَسُّنَّةَ الَّذِي صنَعْت وحديث عبد اللّه بن بُحينة أولى لثلاثة وجوه.
أحدها: أنه أصحُّ من حديث المغيرة.
الثاني: أنه أصرح منه، فإن قول المغيرة: وهكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجوز أن يرجع إلى جميع ما فعل المغيرة، ويكون قد سجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا،السهو مرة قبل السلام، ومرة بعده، فحكى ابن بُحينة ما شاهده، وحكى المغيرةُ ما شاهده، فيكون كِلا الأمرين جائزاً، ويجوز أن يُريد المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم قام ولم يرجع، ثم سجد للسهو.
الثالث: أن المغيرة لعله نسي السجود قبل السلام وسجده بعده، وهذه صفة السهو، وهذا لا يمكن أن يقال في السجود قبل السلام، واللّه أعلم.
فصل
وسلّم صلى الله عليه وسلم من ركعتين في إحدى صلاتي العَشِيِّ، إما الظُّهرِ، وإما العَصْرِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ، ثُمَّ أتَمَّهَا، ثُمَّ سلَّم، ثمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بعد السَّلامِ والكلام، يُكبِّر حِين يسجدُ، ثمَّ يُكبِّر حين يرفع.
وذكر أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى بهم، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلَّم، وقال الترمذي: حسن غريب.
وصلى يوماً فسلَّم وانصرف، وقد بقي مِن الصلاة ركعة، فأدركه طلحةُ بن عبيد اللّه، فقال: نسيتَ من الصلاة ركعة، فرجع فدخل المسجد، وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى للناس رَكْعَةً ذكره الإِمام أحمد رحمه اللّه.
وصلى الظهر خمساً، فقيل له: زِيدَ في الصلاة؟ قال: وما ذاكَ؟ قالوا: صليتَ خمساً، فسجَدَ سجدتين بعدما سلم. متفق عليه.
وصلى العصر ثلاثاً، ثم دخل منزله، فذكَّره الناس، فخرج فصلى بهم ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم.
|