الموضوع: أعرابي في حمام
عرض مشاركة واحدة
قديم 01-14-2009, 02:31 AM   #3
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية خالد
خالد غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 15661
 تاريخ التسجيل :  Jan 2009
 أخر زيارة : 04-24-2010 (05:49 AM)
 المشاركات : 693 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: أعرابي في حمام



ودنوت من كوّة السجن فأعطيته قروشاً كانت معي وقلت له: هذه لأولادك من بعدك، لهم الله فلا تحزن، فلم يقبضها حتى عدّها فرآها كثيرة فردّ إليّ بعضها وقبل بعضاً، فلم أحلف عليه وأخذتها منه وأخذت معها ورقة صفراء أعطانيها لم أدر ماهي، ولكنني لم أشأ كسر قلبه بردّها، ووضعت ذلك كلّه في كمي وعدت إلى الكوّة لأدخل منها فوجدتها عالية، فوثبت فأصبت بقدمي وجه رجل ممّن كان هناك، فما باليته وقلت سأعتذر إليه، وقد رأيت أهل المدن يؤذون إيذاء العدوّ، ثمّ يعتذرون اعتذار الصديق.

وأدخلت رأسي في الكوّة، فصاح السجين صياحاً أرعبني والله، شبّهته بصراخ كلب ديس على ذنبه، وأجلب الناسُ، وطفقوا يشدّون برجلي وثيابي، وأنا أرفس بقدمي رفساً لا أبالي موقعه من أجساد النّاس، والسجين اللئيم الذي أحسنت إليه يدفع برأسي ويشدّ بشعري، ولم يكن عضو من أعضائي إلا وهو مشغول، فيداي أتمسك بهما، ورجلاي أذود بهما عن نفسي، ولم أجد ما أدفع به أذاه عني إلاّ أن بصقت في وجهه، فأقبل يضربني فعضضت يده، ثمّ دنوت من وجهه فعضضت أنفه.. وكان أنفاً ذليلاً لا يزال خبث طعمه على لساني.

ثمّ أخرجوني قسراً وجبراً، وجاء مماليك السلطان فحجزوا بيني وبينهم، وأخذوا الورقة الصفراء، وأدخلوني من باب كان هناك إلى بهو واسع صحّ معه ما كنت قدرت من أن سنمة هذا سلطان البلد..ورأيت النّاس قد صفّوا كراسيهم كصفّ الصلاة، وإذا بعضهم يولي بعضاً دبره، فقلت: ما ألأمَ أهل المدن، والله ما كنت مولياً مسلماً ظهري إلا في الصلاة، وعمدت إلى الكرسي لأديره فإذا هو مثبت بمسامير من حديد، فتركته واستدرت أنا، فجلست على قفاه، وجعلوا يضحكون مني، فما ألقي لهم بالاً، حتى جاءت امرأة، فجلست قبالتي، فقلت: يا أمة الله استتري. فأقبلوا يزبرونني، وإذا هي ـ فيما قالوا ـ شاب وليس امرأة، فجعلت أعجب.

ولبثت أنتظر خروج السلطان فإذا بالمماليك يديرونني فيجلسونني من حيث يجلس النّاس، فلم أملك إلا الطاعة، وقعدت أنتظر فلم أنشب أن جاء مملوك آخر، فقدّم إليّ صفحة من خشب قد صفّ عليها فراني وشطائر وقال: تريد؟ قلت: أريد والله.. وهل يأبى الكرامة إلا اللئيم؟ وأقبلت آكل فأجد طعاماً هشّاً تحت الأسنان، حلواً في الحلق، خفيفاً على البطن، فقلت: هذه هي البقلاوة التي وصفوها لنا، وجعلت آكل فلا أشبع، وهو يقدم إلي متعجباً حتى استنفدت ما كان معه، فمسحت شفتي بيدي وقلت: الحمد لله، جزاك الله خيراً.

فظلّ واقفاً ولم يمض، فقلت: الحمد لله، لقد شبعت. قال: يَدك على الفلوس؟ قلت: ويحك ماذا تريد؟ قال: أكلت ثلاثين قطعة كلّ قطعت منها بسبعة قروش فهذه مئتان وعشرة..

قلت: قبحك الله من عبد لئيم! تأخذ من ضيوف السلطان ثمن القِرى؟

وكان ما أكلت قد شدّ ظهري فوثبت إليه ووثب إليّ، وقام النّاس، وزلزل البهو بأهله، وكادوا والله يطردونني لولا أن ظهر صاحبي فانفرد بالمملوك فأرضاه عني، وجاء فقعد معي.

وإنا لكذلك ياشيخ، وإذا بالأنوار تنطفئ، وإذا بالخيل تهجم علينا مسرعة حتى كادت والله تخالطنا. فقلت: لك الويل ياصْلَبى، ثكلتك أمّك، إنَّه الغزو فما قعودك؟ وقفزت قفزاتي في البادية، وصرخت وهجمت أدوس على أجساد النَّاس وهم يضجُّون ويصخبون، فلما كدت أبلغ الخيل اشتعلت الأنوار وفرّ العدو من خوف بطشي هارباً، وجاء عبيد السلطان ليخرجوني فردّهم عني صاحبي وكلّمهم.

فقلت: هذا والله العجز والذل، فقبّح الله من يقيم عليهما. ترون العدوّ قد خالطكم وتلبثون قعوداً؟ ما أكرهكم إليّ يا أهل المدن، ما ظننت والله إلا أنّكم ستحملون إليّ صلة السلطان على أن رددت عدوّكم وهزمته..

فضحك اللئام، وجعل صاحبي يحذِّرني العودة إلى مثلها؛ ولم ألبث حتى أطفئت الأنوار كرّة أخرى، ففزعت ونظرت فما أحسست إلا امرأة قد قبض عليها رجل خبيث يحاول أن ينال منها على مرأى منا ومسمع؛ وهي تستغيث وأنا أسمع صياحها ولا من مغيث؛ فثارت الحمية في رأسي وسللت الخنجر وأقبلت أريده، فاختفي والله كأن لم يكن هنالك من أحد. وعادت الأضواء، ورجع الصخب؛ فقلت: والله ما أقيم، وجعلت أصيح: أخرجوني.. ويلكم.. أخرجوني..

قال صْلَبى: فخرجت وقد علمت أنّ جرائدكم يا أهل المدن تنشر الفجور وتهتك ستر الله عن النّاس وتفضحهم، وأنَّ شبابكم بنات، وأنّ أمراءكم سحرة يسحرون أعين النّاس حتى يروهم ما لايُرى.. ثمّ إنّكم لا تغارون على أعراضكم ولا تبالون كشف عورات أبنائكم وبناتكم.. لا والله ما أحبكم..

وذهب مولياً عني مسرعاً يمشي بين تلك المواخير القذرة: تريانون وليدو وأولميبيا.. تلقاء سوق الحميدية والأموي حيث المدن الطاهرة الفاضلة.. حيث دمشق التي سمّاها شوقي "ظئر الإسلام"!




--------------------------------------------------------------------------------

بقلم/ علي الطنطاوي رحمه الله ، وهي من كتابه: صور وخواطر


 

رد مع اقتباس