بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 15661
|
تاريخ التسجيل : Jan 2009
|
أخر زيارة : 04-24-2010 (05:49 AM)
|
المشاركات :
693 [
+
] |
التقييم : 1
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
رد: أعرابي في حمام
أعرابي في السينما نشرت عام 1940 م
وطالت غيبة " صْلَبي ", فنسيته و طرحت همه من عاتقي ,و عدت أدور مع الحياة كما تدور الساقية , مغمض العينين , أطوف في مفحص قطاة , فلا غاية أبلغ و لا راحة أجد , أغدو إلى كد العقل و عذاب النفْس , و جفاف الريق و انقطاع النفَس , و أروح و ما بقي فيّ بقية لعمل , و لا طاقة على كتابة , فألقي بنفسي على كرسيٍ أو سرير , أنتظر عذاب اليوم الجديد .
و إني لغادٍ إلى المدرسة ذات يوم , و إذا أنا بأعرابي في شملته يشير إليّ ... و هو يسير بين تلك المواخيز – تريانون , و ليدو , و لُوزايس – حائراً يتلفت , فقلت : لعله ضال أحب أن يستهديني و وقفت له فلما دنا و تبينته , لم أملك من الفرح فمي ... فصحت في السوق وسط الناس , و ما لي لا أصيح و قد وجدت " صلَبي " بعد طول الغياب ... و حييته و حياني تحية ذاكر للصحبة , حافظ للود , و طفق يحدثني حديثه .
قال : أتذكر يا شيخ ما بتلاني به الله من أمر الحمام ؟ لقد وقعت في داهيةٍ أدهى ... و لقد والله كرهت الحضر , و عفت المدن , و أصبحت أخشى فيها على نفسي , فما أدري ماذا سيكون من أمري بعد الذي كان ؟
.... قدمت الشام , قدمة أخرى , فكان أول ما صنعت أن قصدت صاحبي , وكنت قد عرفت داره في ( الميدان ) .. فأكرمني و أحسن استقبالي , أحسن الله إليه , و ذبح لي خروفاً , و لم يكتفِ بذلك من اكرامي بل أزمع أن يأخذني إلى سِنَمَه .. قلت : و لكني لا أعرف سِنمه هذا ؟ , و لا أدري من هو ؟ فكيف تأخذني إليه ؟ قال : لا بد من ذلك ,فاستحييت منه و كرهت أن أخالفه بعد الذي صنع في إكرامي ... و قلت في نفسي , لولا أن سنمة هذا صديق له عزيز عليه , ما سار بي إليه ولقد قال المشايخ من قبيلتنا : صديق صديقك , صديقك ... فرضيت و قلت له : على اسم الله .!
و لكن الرجل لم يُسر بل أدركه لؤم الحضر فصاح بابنه أن هات الجرائد حتى نرى الرواية , فتوجسّت خيفة الشر , و قلت : إن الرجل قد جُنّ , و إلا فما بال الجرائد ؟ و هل تراه يضربني بها ؟ إذن و الله لأريّنه عزّ الرجال و لضربنه ضرباً يبلغ مستقر اللؤم في نفسه ... و خشيت أن أتريّث أو أتلوم فأخيب و أفشل و ذكرت حكمة حَمَدْ بن علْوي : " الغلبة لمن يبدأ " فشد ذلك من عزمي و صرخت " يا هُو ... " و وثبت وثبة أطبقت بها على عنقه , و قلت : سترى لمن الجرائد و السياط , ألابن المدينة الخوار الفرار , أم لابن البر الحر ؟
فأرتاع و أبيك و جعل يصيح من جبنه : أدركوني , أنقذوني ! النجدة , العون , يا فلان ( لابنه ) أقبل ... و يلك يا صْلَبي ... يا مجنون , كف عني , ويلك ماذا اعتراك ؟
فأخذتني به رأفة فكففت عنه , و قعت محاذراً أرقب أهل المنزل , وقد اجتمعوا ينظرون إليّ بعيون من يهم بفرْي جلدي , فقال : ما أردت بهذا ويلك ؟ و بم أسأت إليك حتى استحققت منك هذا الصنيع ؟ قلت : بالجرائد ... أمثلي يضرب بالجرائد لا أمّ لك ؟ .
فضحك و جعل يكركر حتى لقد شبهت بطنه بقربة جوفاء أدخلتها الماء , و ضحك كل من كان حاضراً من أهله و بنيه ضحكاً ما شككت معه أن القوم قد أصابهم طائف من الجن , فقلت : قبحكم الله من قوم , و قبحني إذ أنزل بمثلكم و هممت بالانصراف . فصاح بي و عزم عليّ إلا ما رجعت فبررت بيمينه و قفلت راجعاً فقال لي :
و أنت حسبت الجرائد مما يضرب به ؟ ألم تبصر جريدة قط ؟ قلت : و يحك فكيف إذن ؟ أنا من بلاد النخيل , تبوك حاضرتي . قال : و تحسبها جرائد نخيل ؟ قلت : إذن فجرائد ماذا ؟ قال : خذ هذه هي الجرائد .
و ألقى إليّ صحفاً سوداء بها من دقيق الكلم مثل دبيب النمل , فعجبت منها و سألته أن يقرأ عليّ ما فيها فأستفيد علماً ينفعني في أخرتي , فإن الرجل لا يزال عالماً ما طلب العلم . فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل , و لقد سمعت أنه جاء في الأثر " كن عالماً , أو متعلماً , أو مستمعاً , و لا تكن الرابعة فتهلك " .
فضحك و قال : هل تظنها كتب علم ؟ قلت : فماذا بها فيها مما ينفع الناس ؟ قال : فيها أخبار البشر , من سافر منهم أو حضر , أو تزوج أو ولد له ولد , فما يصنع أحد من شيء إلا دون فيها , و لا ينبغ من عالم أو أديب أو يقدم مغن أو تجي قينة أو تأمر الحكومة أو تنهى إلا ذكر ذلك فيها , حتى إن فيها صفة الخمر و الإعلان عن الميسر , و أخبار دور الدعارة , و الدعوة إلى الروايات الخليعة ...
فلما سمعت ذلك طار عقلي و أخذت هذه الجرائد و مزقتها شر ممزق , وعلمت أن الله مهلك هذه القرية , و عزمت على مفارقتها و نويت ألا أعود إليها بعد الذي سمعت من خبر جرائدها ... و ما ظننت أن مثل ذلك يكون , ولم يجتزيء صاحبي بما أعلمني من علمها حتى وصف لي أخرى تكون في أيدي الصبيان و البنات فيها صور قوم عراة تبدو عوراتهم , و نساء ما يسترهن من شيء إلا شيء ليس بساتر , قلت : فهل يرضى الحضري بها ؟ قال : نعم ... فسقط و الله من عيني و قلت , هذا القرنان الذي لا تأخذه على أهله غيرة , و ما كنت أحسب أن رجلاً يؤمن بالله و اليوم الأخر يفعل ذلك .
و لست مطيلاً عليك الحديث ...
... و ذهبنا نزور سنمة فسرنا حتى بلغنا قصراً عظيماً على بابه كثير , و له دهليز تسطع فيه الأضواء , فقلت , هذا قصر أمير البلد , هذا الذي يدعونه رئيس الجماهير ... و ألهاني ما رأيت و شغلني ففقدت صاحبي وسط الزحمة ... و لكني لم أُبالِ , و أقبت أصعد الدرج فمنعني أغلمة بثياب ضيقة حمر ما رأيت مثلها , وعلى رؤوسهم كُمَمٌ لها رواق من فوق عيونهم كالذي يوضع على عينيّ بغلة العجلة ... و أفخاذهم مكشوفة فعل أهل الفسوق و التهتك , فهممت أن آخذ ثلاثة منهم فأكركبهم على الدرج فأزحلق مِعدهم عن مواضعها , ثم قلت : ترفق يا صلبي لا تُجن فما أنت في البادية , أنت في قصر الأمير و هؤلاء مماليكه و إنك إن مسستهم لم تجد أمامك إلا ضرب العنق ... و و ضعت يدي على عنقي أتحسسها فعلمت أني لا أزال أحتاجها .
و لو أنني في السوق أبتاع مثلها ××× وجدك ما باليت أن أتقدما .
و سألت الغلمان الكاشفي ماذا يريدون مني أن أصنع , فأشاروا إلى كوة ازدحم عليها الناس فعلمت أن الدخول من هناك , فأقبلت أزاحم و أدافع و هم يردونني حتى بلغت الكوة , فإذا هي غرفة ضيقة كأنها القفص و إذا فيها رجل محبوس و الناس يتصدقون عليه , فقلت في نفسي , هذا رجل ضرب مماليك الأمير فحبسه هنا لتضرب عنقه في غداة الغد , و حمدت الله على السلامة , و توجهت بوجهي إلى رجل توسمته أسأله : متى تضرب عنق السجين ؟ فنظر إلي و لم يجب , ثم ولاني قفاه و انصرف , فعلمت أن الأمير يمنع الناس من الكلام في هذا , و لولا ذلك لأجابني .
بقلم/ علي الطنطاوي رحمه الله ، وهي من كتابه: صور وخواطر
|