حل القحط ، وشمل الجدب والغلاء، وضاقت سبل العيش في الشام
فرحل سيدنا ابراهيم الى مصر، تصحبه زوجته سارة، وهبط ارضها حين
كان القابض على زمامها والمسيطر على امورها احد ملوك العرب العمالقة
الذين استبدوا بالملك آونة من الدهر.
اسم سارة القديم ساراي
وقال الله لابراهيم ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة
كانت سارة ذات جمال باهر، فوشى بها احد بطانة السوء الى الملك
واغراه بجمالها، وزين لها حسنها، وحبب اليه الاستحواذ عليها فصادفت
هذه المقالة رغبة في نفسه، وهوى في فؤاده فدعا ابراهيم اليه، وسأله
عما يربطهما من سبب، وما يصل بينهما من قرابة.
ففطن ابراهيم الى مأربه، وعرف مقصده، وخاف ان اخبره انها زوجته
يبيت الشر له وعمل على الايقاع به لتخلص له من دونه ويستأثر بها
من بعده.
فقال له:: هي أختي.
فهم الملك انها ليست بذات بعل، فأمر ان يذهبوا بها الى قصره ويسوقوها
الى مخدعه ورجع ابراهيم الى زوجته فأخبرها بقصته وطلب اليها ان تكون
مصدقة لقوله مؤكدة لخبره ثم اسلمها لعين الله تحرسها وعناية الله
ترعاها وتحفظها.
وادخلت الى قصر الملك وزينت بأفخر الثياب وثمين الحلى ولكنها لم
تأبه بهذا الزخرف البراق ولا بذاك البذخ الخلاب ولم تعن بما احيطت به
من نعمة وما رأت من سعة السلطان وبسطة العيش ولم ينسها كل
ذلك الوفاء لزوجها والاستمساك بدينها وجلست مكتئبة حزينة انتبذت
مكانا قصيا.
ولما اقبل الملك عليها ورأى ما بها من لوعة واسى حاول ان يخفف من
حزنها ويؤنس وحشتها ويزيل اكتئابها فجفلت وانتكس الملك يحس
اضطرابا في نفسه ووجيبا في قلبه واراد ان يعيد الكرة فعاد اليه اضطرابه
وعاوده انتكاسه فأوجس خيفة منها واوى الى فراشه وغط في نومه
ورأى رؤية استبان بها وجه الحق وتبين منها سبيل الرشد وعرف ان لها
بعلا وان عليه ان يخلي سبيلها ويتركها وشأنها ولا يمسها بسوء او
يقربها بإثم..
فلما افاق من نومه رأى ان لا مناص من اطلاق سراحها، فوهبها هاجر
خادمة لها، واسلمها الى زوجها.
فهل ترى محنة اشد وفتنة اعظم من ذلك؟؟ رجل غريب يفد الى بلد
يسعى فيه لجلب الرزق، فتسلب منه زوجته ويفرق بينه وبين اهله
ولكن الذي نجى ابراهيم من حر النار وسعيرها، حفظه من وصمة العار
ونجاه من الظلم والعدوان.
نسبها:
هي آسية بنت مزاحم بن عبيد الديان بن الوليد الذي كان فرعون مصر
في زمن يوسف- عليه الصلاة السلام- وقيل إنها كانت من بني إسرائيل
من سبط موسى- عليه الصلاة السلام- وقيل بل كانت عمته
حياتها:
كانت تعيش في أعظم القصور وأفخمها إذ كان قصرها مليئاً بالجواري
والعبيد والخدم أي أنها كانت تعيش حياة مترفة منعمة، فقد كانت آسية
زوجة للفرعون الذي طغى واستكبر في زمانه وادعى الألوهية وأمر
عبيده بأن يعبدوه ويقدسوه هو لا أحد سواه، وأن ينادوه بفرعون الإله
-معاذ الله- .
وما أن يذكر اسم آسية امرأة فرعون حتى يتراود لنا قصة سيدنا
موسى- عليه السلام- وموقفها عندما رأته في التابوت، فقد كان
لوجهه المنير الذي تشع منه البراءة أثر كبير في نفسها، فهي من
أقنع الفرعون بالاحتفاظ به، وتربيته كابن لهما ، في البداية لم يقتنع
بكلامها ولكن إصرار آسيه جعله يوافقها الرأي وعاش نبينا موسى -
عليه السلام- معهما وأحبته حب الأم لولدها.
وعندما دعا موسى- عليه السلام- إلى توحيد الله تعالى آمنت به
وصدقته، ولكنها في البداية أخفت ذلك خشية فرعون و ما لبثت حتى
أشهرت إسلامها واتباعها لدين موسى- عليه السلام-، وجن جنون
الفرعون لسماعه هذا الأمر المروع بالنسبة له، وحاول عبثاً ردها عن
إسلامها وأن تعود كما كانت في السابق ، فتارة يحاول إقناعها بعدم
مصداقية ما يدعو له موسى- عليه السلام- وتارة يرهبها بما قد يحل
بها من جراء اتباعها لموسى- عليه السلام- ولكنها كانت ثابتة على
الحق ولم يزحزحها فرعون في دينها وإيمانها مقدار ذرة.
سأل فرعون الناس عن رأيهم في مولاتهم آسية بنت مزاحم فأثنوا
عليها كثيراً وقالوا أن لا مثيل لها في هذا العالم الواسع، وما أن
أخبرهم بأنها اتبعت دين موسى- عليه السلام- حتى طلبوا منه بأن
يقتلها فما كان عقابها من الفرعون إلا أن ربط يديها ورجليها بأربعة
أوتاد وألقاها في الشمس، حيث الحر وأشعة الشمس الحارقة
ووضعوا صخرة كبيرة على ظهرها . فمن كان يصدق بأن الملكة التي
كانت تعيش في أجمل القصور بين الخدم والحشم هي الآن مربوطة
بالأوتاد تحت أشعة الشمس الكاوية ، ومع ذلك فقد صبرت وتحملت
الشقاء طمعاً بلقاء الله -عز وجل- والحصول على الجنة، وذلك لاعتقادها
القوي بأن الله لا يضيع أ جر الصابرين. وقبل أن تزهق روحها الطاهرة
وإحساسها بدنو أجلها دعت المولى عز وجل بأن يتقبلها في فسيح
جناته وأن يبني لها بيتاً في الجنة قال تعالى:" وضرب الله مثلا للذين
ءامنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني
من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين"
فمن ملاحظتنا لآية السابقة فقد قدمت (عندك) على (في الجنة)
ولهذا سر عظيم ألا وهو( أنها طلبت القرب من رحمة الله والبعد من
عذاب أعدائه ثم بينت مكان القرب بقولهم: "في الجنة" أو أرادت
ارتفاع الدرجة في الجنة وأن تكون جنتها من الجنان التي هي أقرب
إلى العرش وهي جنات المأوى فعبرت عن القرب إلى العرش
بقولها: "عندك".)
أجرها وثوابها وفضلها :
كان لآسية ما تمنت فقد بني لها عنده بيتاً في الجنة،
( واستحقت أن يضعها الرسول- صلى الله عليه وسلم- مع النساء
اللاتي كملن، وذلك عندما قال: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من
النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة
على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام").
(وروي عن ابن عباس قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
خطوط أربع في الأرض وقال أتدرون ما هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم
فقال- صلى الله عليه وسلم- أفضل نساء الجنة أربع- خديجة بنت خويلد،
وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)
كما روي أنها ومريم بنت عمران ستكونان من أزواج الرسول- صلى الله
عليه وسلم- في الجنة