رد: الموسـيقى في الإســلام ..!!
الرد على من قال بتحـريمه ..!!
قال تعالى ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث) الآية ..
وأن ابن مسعود اقسم على ان لهو الحديث هو الغناء
قيلَ: لَهو الحَديثِ فسرَهَ مُجاهدٌ بالطبلِ، وهُوَ من المعازِفِ.
ونقولُ: هذا التفسيرُ لم نَقِف عليهِ من وَجهِ عن مُجاهِدِ، وإنما وَرَدَ عَتهُ بلفظ: "اللهو: الطبلُ ". ولم يَقل: (لهو الحديث: الطبل).
هذا من ناحية المتن..
أما من ناحية السند.. فتخريج الرواية كالتالي:
" أخرجه ابن جرير في تفسيره.. عن طريق "عبد الله بن أبي نَجيح، عن إبراهيمَ بن أبي بكر، عن مجاهد، وأخرَجَه من طَريقِ ابنِ أبي نَجيح عن مُجاهِدِ دونَ واسِطَة وَلا سَماع، فالأشبَهُ أن يَكونَ ابنُ أبي نَجيحِ حَمَلَة. عن إبراهيمَ هذا، وابراهيمُ حِجازي مَغمور غير مَشهور.
والأشبَهُ أيضاً أن يَكونَ ابنُ جُريج حمَلَه عنهُ عن مُجاهدِ فدلسَه، فقد أخرَجه أيضاً ابنُ جَرير من طَريقِ حَجاح الأعْوَرِ، عَنِ ابنِ جُرَيج، عَن مُجاهدٍ . وإسنادُهُ ضَعيف.. ابنُ جُريج أحَدُ الأئمةِ، لكنه كانَ قبيحَ التدليسِ، لا يَكادُ يُدلسُ إلا عن مَجروح، وَقالَ يحيى بنُ سَعيدِ القطانُ: "لَم يَسمَع من مُجاهِدِ إلا حَديثاَ واحداً: فطَلقوهُن في قُبُلِ عِدَّتِهِن) (تقدمَة الجَرح والتعديل، لابن أبي حاتم: ص: 245)."
ومِن جِهَةِ الدّرايةِ، فهذا التفسيرُ المدعى على مُجاهِد تَخصيص للعامٌ بغيرِ بُرهانٍ من اللّه وَرَسولِهِ ، وَيرِدُ عليهِ ما أوردناهُ على الآية السابقَةِ وزِيادة، فإن المناسَبَةَ بينَ (لَهوِ الحَديثِ) و (الطَّبل) أو (صَوت الطبل) في غايةِ الضعفِ، فهذا ليسَ بحَديث يُضافَ اللهوُ إليهِ، إلا على وَجهٍ من العُجمَةِ لا نَفهَمُهُ!
فتأويلُ (لَهو الحَديث) بالآلةِ أو صَوتِها ليسَ بلِسانِ عَربي مُبينِ.
أما تَفسيرُهُ بالغِناءِ، فهوَ منقولٌ مَعقول، حيثُ ورَدَ في الآية وُجوة من التأويلِ أشهَرُها هذا التفسير، وصَح عَن عَبد اللّه بنِ مسعود وغيرِهِ.
لكن هذا معَ صِحتِهِ رِواية عَن بعضِ أصحابِ النبي وطائفةِ بعدَهُم، ومعَ صحته درايَةَ من جِهَةِ اندراجِهِ تحتَ مسمى (لَهو الحَديثِ)، فإنه تَفسير غيرُ حاصرِ لدَلالَةِ هذا اللفظِ، والقولُ بأنهُ الغِناءُ خاصَّة لا يُسَلَّمُ بالأثرِ، بل يَحتاجُ إلى تَنصيصٍ ، وعُموماتُ القرآنِ والسُّنةِ لا يُخصصُها تَفسيرُ الصحابي، على أقوى قولَي الأصوليينَ، وهوَ قولُ مالكِ والصحيحُ عَنِ الشافعي.
على أنا نَرى إعمالَ قولِ الصحابي هَهُنا، وإنما نَقولُ: لا يَصحُّ أن يَكونَ تَفسيرُهُ هوَ المعنى حَصْراً دونَ ما سِواهُ.
فلنُحَرر معنى اللهو في لِسانِ العَرَبِ واستِعمالِ الشرعِ، ثُم ننظُر دَلالتَه في الآية:
أصلُ (اللهو) كَما يَقولُ ابنُ فارسِ في (مقاييس اللغة): "كُل شَيءٍ شَغَلَكَ عن شَيءِ، فقد ألهاكَ ". وهذا واسِع يدخُلُ فيهِ الحَق والباطلُ، لكنكَ إذا تأملتَ استِعمالَ هذا اللفظ في نُصوصِ الكِتابِ والسنة، فإنكَ لا تَجدُ تسميةَ مَن صلى أو قراً القرآنَ لاهياً، إنما ترى اللهوَ يأتي دائما مقروناَ بذكرِ الدنيا ومَتاعِها، كما قالَ تعالى:
(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) ) سورة العنكبوت
وقالَ: ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ..) سورة الحديد 20
وسائرُ أهلِ اللغَةِ ذَهبوا إلى تفسيرِهِ بمَعانٍ مندَرجَة في عُمومِ ما ذكَرَهَ ابنُ فارِس، لكنهُم تأثروا في تعريفِهِم بالحَقيقَةِ الشرعيَّةِ في اسْتِعمالِ هذا الَلفْظِ، والتي تُخْرِجُ الاتشِغالَ بالحَقٌ من عُمومِ اللهو.
فقالَ الجَوهَريُّ وغيرُهُ: "اللهو: اللعبُ " (القاموس المحيط).
وَقالَ الخَليلُ بنُ أحمَدَ: "اللهو: ما شَغَلَكً من هَوى وطَرَبٍ ".
كما قالَ بعضُهُم: اللهو: النكاح، قالَ امرؤُ القَيسِ:
ألا زَعَمَتْ بَسْباسَةُ اليوْمَ أنًنِي * كَبِرْتُ، وأن لا يُحْسِنَ اللهو َأمْثالي
وكَذا فسروا اللهو في قولِهِ تعالى: ( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا ..) سورة الأنبياء 17
فعلى هذه المقدمَةِ، فتَفسيرُ اللهو بالغِناءِ تَفسير صَحيح، فإن الغِناءَ وَتوابِعَهُ من زينَةِ الدنيا وعمَلِها، ولَيسَ هوَ بقُربَةٍ في نَفسِهِ، فالانشِغالُ بهِ لَهْو، وقد سَمَّاهُ النبي لَهواً في الحَديثِ الصحيحِ:
فعَن عائشةَ،رضي الله عنها: أئها زَفَّتِ امرأة إلى رَجُلِ من الأنصارِ، فقالَ نَبِي الله : "يا عائشةُ، ما كانَ مَعَكُم لَهو؟ فإن الأتصارَ يُعجِبُهُمُ اللهو". وهذا و هذا اللهو مُفَسَّر في عدَةِ أخبارٍ صَحيحَة بأنهُ الغِناءُ وضَربُ المعازِفِ، كما سنذكُرُ من بعدُ.
وَجميعُ ما يكونُ من اللعبِ كذلكَ في الأصلِ هوَ لَهو، بل تَفسيرُ اللهوِ باللعب أقرَبُ ما يدل عليهِ الاستِعمالُ، وعَطفُهُما في بعضِ نُصوصِ القرآنِ على بعضِهِما هوَ من باب عَطفِ الخاصٌ على العام أو العَكْس، وذلكَ للتَنبيهِ على معنى زائدِ فيهِ، فإن وَرَدَ مورِدَ الذمٌ فاللَّعبُ آكَدُ من غيرِهِ من أنواعِ اللهو في وقوعِ الذمّ له.
فإذا كانَ النص في قولهِ تعالى: (و من الناس من يشتري لهو الحديث) عاما في كُل لَهو، لم يدُل على ذم بتَحريمٍ أو كَراهَةٍ بمفرَدِهِ، من جِهَةِ أن الشريعةَ جاءَت في اللهو على مراتِبَ، بل هوَ في التحقيقِ مُنقَسم على الأحكامِ الخَمسَةِ: الوُجوبِ، والندب، والإباحَةِ، وَالكَراهَةِ، والتحريمِ.
فالندبُ كلَهوِ العُرسِ، فإنَّ الشريعةَ جاءَت بالحَضً عليه، لا مُجرَّدِ الإذنِ فيهِ، بل جُعِلَ علامَةً شرعية فاصلة بينَ النكاحِ والسفاحِ، وذلكَ لِما فيهِ من إعلانِ النكاح وإظهارِهِ، كَما في حَديثِ مُحمدِ بنِ حاطِبِ الجُمَحي، قالَ: قالَ رَسولُ اللّه : "فَصلُ ما بينَ الحَلالِ وَالحَرامِ الدف والصوت في النكاحِ " (حديث حسن).
كما نَرى في حَديثِ عائشَةَ المتقدمِ حَض النبي على ذلكَ، ولا يَرِدُ مثلُ هذا في مُجرَدِ الإباحَةِ.
والوُجوبُ كتعلمِ الرمايَةِ عندَما تتعينُ للجِهادِ في سَبيلِ الله، فهيَ من لَهوِ الحَقً، والوَصفُ له باللهو من جِهَةِ أصلِهِ والانشِغالِ بهٍ مجرَّداً عن القَصدِ المطلوبِ، وتقييدُهُ بـ (حَق) مُخرِج له من اللهو الباطِلِ.
وليسَ هذا الوَصفُ اجتهاديا، بل ثَبَتَ بهِ الحَديثُ عن رَسولِ اللّه ، فإنهُ قالَ: "لَيسَ من اللهو إلا ثَلاث: تأديبُ الرجُلِ فَرَسَهُ، ومُلاعَبَتُهُ امرأتَهُ، ورَميُهُ بقَوسِهِ"، وفي رِوايةِ: "كُل شَيءِ يَلهو بهِ ابنُ آدَمَ فهوَ باطل، إلاً ثَلاثاً: رَميَهُ عن قوسِهِ، وتأديبَهُ فرَسَهُ، ومُلاعَبَتَهُ أهلَهُ، فإنهُن من الحَق " (حديث حسن).
هذه الصوَرُ مُستَثناة من اللهو الباطِلِ، لا باعتِبارِ أصلِها، بل باعتِبارِ القَصدِ فيها، فرَميُ القَوسِ وتأديبُ الفَرَسِ لمعنى الجِهادِ في سَبيلِ الله والاستِعدادِ للقاءِ العَدوٌ ، ومُلاعَبةُ الزوجَةِ لمعنى حُسنِ العِشرَةِ، وتَحقيقِ مُقوماتِ بناءِ البَيتِ والأسرَةِ، معَ مُراعاةِ طَبائعِ النساءِ وحاجَتِهن إلى ذلكَ، وهذهِ مَعانٍ حَسَنَة، بل جَليلَة مَظنون بالشريعَةِ العَظيمَةِ الكامِلةِ شَريعَةِ الإسلامِ أن تأتيَ بمثلِها.
فبهذا الاعتِبارِ صَح أن توصفَ بالحَق، وهذا الوَصفُ كافي للإبانَةِ عن نَدبِها على أقل الدرَجاتِ، لأن وَصفَ (الحَق) لمعانيها المتصلةِ بها أخرَجها من بابِ المباحِ فما دونَهُ.
والرمايَةُ كما تقدمَ سَبَبْ مطلوب في جِهادِ العَدو بحَسَبِ ما تَقتَضيهِ الحاجَةُ، وهذا مُتردد بينَ الندب والوجوبِ، وَيرجُحُ جانبُ الوُجوبِ إذا توقفَ عليها تَحقيقُ الواجبِ في الجِهادِ، للأصلِ المعروفِ (ما لا يتم الواجبُ إلا بهِ فهوَ واجب)، ودَليلُهُ هَهُنا قولُهُ تعالى: (و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و رباط الخيل) سورة الأنفال: 60.
وَعَن عُقبَةَ بنِ عامرِ قالَ: سَمِعتُ رَسولَ اللّه وَهُوَ عَلى المنبَرِ يَقولُ:
"(و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة) : ألَا إن القُوةَ الرميُ، ألَا إن القُوةَ الرميُ، ألَا إن القُوةَ الرميُ ".
وفي رِوايَةِ: "سَتفتح عَليكُم أرَضونَ، وَيَكفِيكُمُ اللهُ، فَلا يَعْجَزْ أحَدُكم أن يَلهُوَ بِأسهُمِهِ ".
فإذا كانَ المعنى هوَ الذي صيَّرَ اللهو مندوباً أو واجباَ، فهوَ كذلكَ في المحرمِ والمكروهِ ولا بُد، حيثُ لا فَرقَ.
فحَرمَتِ الشريعةُ القِمارَ، وهوَ لَهو، لمَا تَرَجحَ فيهِ جانبُ المفسَدَةِ، كما قالَ تعالى: ( يسئلونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما) البقرة: 219..
وقال: (يأيها الذينَ آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رِجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون(90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلاة فهل أنتم منتهون(91)) المائدة: 90-91.
والانشِغالُ بِما يفوت المصالحَ الدينية من اللهوِ يَصيرُ إلى درَجَة من الذم تترَددُ بينَ الكَراهَة والتحريم، فإن فوت واجِباَ صارَ بالتفويتِ إلى مُقابلهِ، وهوَ المحرم وَلا بُد؟َ لأن الواجبَ مطلوبُ الفعلِ على جهَةِ الإلزامِ وعَدَمِ التخيير، وَما كانَ كذلكَ رَجَعَ إلى أصلِ (الأمرُ بالشيءِ نَهيٌ عن ضِدهِ)، ولذلكَ صَح ترتبُ الإثم على تَركِ الواجب، ومُقتَضاهُ استِحقاقُ الإثمِ بفِعلِ المحرم.
وعليهِ يتفرعُ حُكمانِ:
الأول: كُل لَهو يُسَببُ تركَ الواجبِ فهوَ مُحرم.
والثاني: كُل لَهوِ يُسَبًبُ فعلَ الحرامِ فهوَ محرم .
فان حَصَلَ بهِ تفويتُ مَصلحةٍ دينيةٍ مندوبَةِ، صارَ بفاعلِهِ إلى ضِد الندب، وهوَ الكَراهةُ، وَيبقى الأصلُ في اللهو إذا تَجرَّدَ من تلكَ المعاني على الإباحَةِ.
هذا مُقْتَضى الأصُولِ.
وبهِ يظهَرُ تفسيرُ (اللهو) و تأصيلُهُ حيثُ ورَدَ، وبقيَ توضيحُ المعنى في إضافَةِ اللهوِ في الآية إلى (الحَديثِ)، ثُم المرادِ بهذا التركيبِ في الآية.
|