مشاركة: هل كان نيوتن عبقريا أم.................؟
وتخللت حياته العملية عام 1692 سنتان من المرض الجسمي والعقلي. فقد كتب إلى بيبيس ولوك رسائل يشكو فيها من الأرق والسوداء ويعرب على مخاوف الاضطهاد ويتحسر على فقده " تماسك ذهنه القديم ". وفي 16 سبتمبر 1693 كتب إلى لوك يقول: سيدي: إن ظني أنك حاولت توريطي في علاقات نسائية وبطرق أخرى أثر في نفسي تأثيراً شديداً حتى أنني أجبت حين أخبرني أحدهم بأنك مريض ولن تعيش بأن من الخير أن تموت.
وأود أن تغتفر لي هذه القسوة لأنني الآن مقتنع بأن ما فعلته صواب وأسألك الصفح عن إساءتي الظن بك في هذا الأمر وعن قولي أنك أصبت الفضيلة في الصميم بمبدأ وضعته في كتاب " الأفكار " الذي ألفته ونويت أن تواصله في كتابه آخر وعن أنني حسبتك خطأ من أنصار هوبز. كذلك أسألك الصفح عن قولي أو ظني بأن هناك خطة لبيعي منصباً أو لتوريطي...
وأني خادمك الخاضع المنكود الحظ إسحاق نيوتن وذكر بيبيس في خطاب تاريخه 26 سبتمبر 1693 " اضطراباً في... الرأس أو العقل " تدل عليه رسالة تلقاها من نيوتن. وقد خلف هويجنز عند وفاته (1695) مخطوطة فيها دون فيها تحت يوم 29 مايو 1694 أن " مستر كولين وهو رجل اسكتلندي أنبأني أن عالم الهندسة الشهير إسحاق نيوتن أصابه لوثة قبل ثمانية عشر شهراً " ولكنه استعاد صحته فبدأ يفهم كتابه " المبادئ ". وأرسل هويجنز التقرير إلى ليبنتز في رسالة مؤرخة 8 يونيو 1694 قال فيها: " إن الرجل الطيب المستر نيوتن أصيب بنوبة من الخبل لازمته ثمانية عشر شهراً وقيل أن أصحابه شفوه منها بالعقاقير وإبقائه محبوساً " وظن البعض أن هذا الانهيار العصبي صرف نيوتن عن العلم إلى سفر الرؤيا ولكنا لا نستطيع الجزم بهذا. وقيل " أنه لم يركز قط كما ألف أن يركز ولم يقم بأي جهد جديد " ومع ذلك ففي 1696 حل على الفور تقريباً مسألة حسابية اقترحها يوهان برنوللي " على أذكى الرياضيين في العالم " وكذلك فعل بمسألة وضعها ليبنتز عام 1716.
وقد أرسل رده على برنوللي غفلاً من الاسم بطريق الجمعية الملكية ولكن برنوللي حزر على الفور أن صاحبه نيوتن إذ تبين " الأسد من مخلبه " على حد قوله. وفي عام 1700 اكتشف نظرية آلة السدس ولم يكتشف النقاب عنها إلا بخطاب لهالي ووجب أن يعاد اختراعها عام 730. ويبدو أنه شرف المناصب العسيرة التي بادرت الدولة بتعيينه فيها.
وكان لوك وبيبيس وغيرهما من أصدقاء نيوتن قد فاوضوا حيناً للحصول له على منصب حكومي يخرجه من سجن حجرته ومختبره في كمبردج. وفي عام 1695 أقنعوا اللورد هاليفاكس بأن يعرض عليه وظيفة أمين دار سك النقود. ولم تكن الوظيفة شرفية ولا صدقة إذ أرادت الحكومة أن تفيد من علم نيوتن بالكيمياء والمعادن في ضرب عملة جديدة. ففي 1695 انتقل إلى لندن حيث عاش مع ابنة أخته كاترين بارتون خليلة هاليفاكس. وقد خيل إلى فولتير أن افتتان هاليفاكس ببنت الأخت هذه حمل هاليفاكس وهو وزير للخزانة على أن يعين نيوتن مديراً لدار سك النقود في 1699 ولكن هذه الشائعة لا تكاد تفسر استمرار نيوتن في شغل ذلك المنصب طوال الثمانية والعشرين عاماً الباقية له في أجله وشغله على نحو حاز الرضاء العام.
وكان خليقاً بشيخوخته أن تكون سعيدة. فقد كرمته الدولة بوصفه أعظم العلماء الأحياء ولم يحظ رجل من رجال العلم حتى وقتنا هذا بمثل ما حظي به من ثناء عريض. وقد انتخب رئيساً للجمعية الملكية عام 1703 وظل ينتخب سنوياً بعد ذلك حتى وفاته. وفي عام 1705 خلعت عليه الملكة آن لقب الفروسية. وحين ركب عربته مخترقاً شوارع لندن تفرس الناس برهبة في وجهه الوردي وقد فاض جلالاً وطيبة تحت لمة من الشعر الأبيض. ولم يستطيعوا طوال الوقت أن يلحظوا أنه قد عرض بأكثر مما يتناسب مع طوله المتواضع. وكان يستمتع براتي طيب بلغ 1.200 جنيه في العام وقد استثمر مدخراته بحكمة حتى أنه خلف عند وفاته 2.000 جنيه رغم سخائه في الهدايا والصدقات. وقد أفاق من خسارته في انهيار شركة " ساوث سي ".
على أنه كان منقلب المزاج وأحياناً سريع الغضب سيئ الظن كتوماً ودائماً شديد التهيب رغم كبريائه. كان يجب اعتزال الناس ولا يصنع الأدقاء بسهولة. وفي عام 1700 عرض الزواج على أرملة غنية ولكن العرض لم يسفر عن نتيجة ولم يتزوج قط. وإذ كان عصبي المزاج. حساساً بشكل مرضي فقد كان لا يطيق النقد إلا متألماً ويغتاظ منه غيظاً شديداً ويرد الصاع صاعين في الجدل. وكان يعرف قدر عمله وكفايته ولكنه عاش عيشاً متواضعاً إلى أن أتاح له راتبه ومدخراته أن يستخدم ستة خدم ويستمتع بمكان مرموق في المجتمع اللندني.
فلما بلغ التاسعة والسبعين بدأ يرد دينه للطبيعة. فأصابته الأمراض التي لا تقيم للعبقرية وزناً - حصاة المثانة وسلس البول وحين بلغ الثالثة والثمانين أصيب بالنقرس وفي الرابعة والثمانين بالبواسير. وفي 19 مارس 1727 اشتدت به آلام الحصاة حتى فقد وعيه. ولم يفق قط ومات في الغد وقد بلغ الخامسة والثمانين ودفن في كنيسة وستمنستر بعد أن شيع بجنازة تصدرها رجال الدولة والنبلاء والفلاسفة وقد سجى في نعش حمله الأدواق والايرلات. وأغرقه الشعراء بمراثيهم وألف بوب قبرية شهيرة قال فيها: " إن الطبيعة وقوانينها كان يلفها ظلام الليل وقال الله ليكن نيوتن فأصبح الكل ضياء " ولم يملك فولتير عواطفه حتى في شيخوخته وهو يروي كيف شاهد أثناء منفاه في إنجلترا رياضياً يدفن بمظاهر تكريم الملوك.
وبلغ صيت نيوتن ذرى أشرفت على السخف. فقد ليبنتز أن إسهامات منافسه في الرياضة تعدل في قيمتها كل المؤلفات السابقة في ذلك العلم. وذهب هيوم إلى أن نيوتن " أعظم وأندر عبقري ظهر ليشرف النوع الإنساني ويعلمه " ووافقه فولتير في تواضع. ووصف لجرانج كتاب المبادئ بأنه " أعظم إنتاج أنتجه الذهن البشري " وضمن له لابلاس إلى الأبد " مكان الصدارة على جميع إنتاجات العقل البشري " وأضاف أن نيوتن أوفر الناس حظاً لأنه ليس هناك سوى كون واحد وليس سوى مبدأ مطلق واحد له وقد اكتشف نيوتن ذلك المبدأ. ومثل هذه الأحكام لا ثبات لها لأن " الحقيقة " حتى في العلم تذبل كالزهرة.
ولو أننا قسنا عظمة إنسان بأقل المقاييس ذاتية وهو انتشار تأثيره وطول بقاء هذا التأثير لما وجدنا لنيوتن نظيراً إلا في مؤسسي الأديان العالمية والفلسفات المحورية. لقد كان تأثيره على الرياضة الإنجليزية - حيناً - تأثيراً ضاراً لأن " فروقه وتنويتها كانا أقل يسراً من حساب التفاضل والتنويت اللذين هيمن بهما ليبنتز على القارة. ويبدو أن نظريته في جسيمات الضوء عاقت تقدم البصريات قرناً وإن وجد بعض الطلاب الآن عوناً كبيراً في نظرية نيوتن. أما في الميكانيكا فقد أثبت عمله أنه خلاق إلى غير حدود. كتب ارنسنت ماخ يقول: " إن كل ما أنجز في الميكانيكا منذ أيامه لا يعدو أن يكون تطويراً إستنتاجياً شكلياً رياضياً... على أساس قوانين نيوتن ".
وقد خشي اللاهوتيين لأول وهلة من تأثير كتاب " المبادئ " على الدين ولكن محاضرات بويل التي ألقاها بنتلي (1692) بتشجيع من نيوتن حولت النظرة الجديدة إلى العالم إلى تأييد الإيمان لأنها أكدت على وحدة الكون ونظامه وعظمته الواضحة أدلة على حكمة الله وقوته وجلاله.
|