مشاركة: هل كان نيوتن عبقريا أم.................؟
ونفدت الطبعة الأولى من " المبادئ " سريعاً ولكن لم تظهر طبعة ثانية إلا في 1713. وعزت نسخه حتى أن عالماً نسخ الكتاب كله بيده. واعترف القراء بأنه عمل فكري من أرفع طراز ولكن بعض ملاحظات النقد كدرت صفو الثناء عليه. فرفضت فرنسا النظام النيوتني لتشبثها بدوامات ديكارت إلى أن عرضه فولتير في 1738 عرضاً ملؤه الإعجاب والتبجيل. واعترض كاسيني وفونتنيل بأن الجاذبية ليست سوى قوة أو صفة غيبية تضاف إلى القوى الماضية وقالا أن نيوتن شرح بعض العلاقات بين الأجرام السماوية ولكنه لم يكشف عن طبيعة الجاذبية التي ظلت سراً خفياً كسر الله. وقال ليبنتز بأنه ما لم يستطع نيوتن بيان المكنية التي تستطيع الجاذبية أن تؤثر بها خلال فضاء يبدو فارغاً في أجسام تبعد عنها ملايين الأميال فإنه لا يمكن قبول الجاذبية على أنها شيء أكثر من مجرد كلمة.
ولم تحظ النظرية الجديدة بالقبول السريع حتى في إنجلترا. وزعم فولتير أن المرء كان بالجهد يجد عشرين عالماً يرضون عنها بعد أن نشرت لأول مرة بأربعين عاماً. وبينما شكا النقاد في فرنسا من أن النظرية ليست ميكانيكية بالقدر الكافي إذا قيست بدوامات ديكارت البدائية كانت الاعتراضات عليها في إنجلترة في أغلبها دينية فأسف جورج باركلي في كتابه " مبادئ المعرفة الإنسانية " (1710) لأن نيوتن يرى الفضاء والزمان والحركة مطلقة سرمدية فيما يبدو وموجودة مستقلة عن المساندة الإلهية. فالميكانيكية تطغى على النظام النيوتوني طغياناً لا يترك فيه مكاناً لله.
فلما وافق نيوتن بعد ما عهد فيه من تسويفات على أن يعد طبعه ثانية الكتاب حاول أن يهدئ من ثائرة نقاده. فأكد لليبنتز والفرنسيين أنه لا يفترض قوة تعمل عن بعد خلال الفضاء الفارغ وأنه يعتقد بوجود ناقل متخلل رغم أنه لن يحاول وصفه صم اعترف بصراحة أنه لا يفقه طبيعة الجاذبية. وبهذه المناسبة كتب في الطبعة الثانية كلماته التي كثيراً ما ياء فهمها وهي أنه " لا يضع فرضاً " وأضاف " يجب أن تتسبب الجاذبية من عامل يعمل بثبات وفق قوانين معينة ولكني أترك لقرائي النظر في هل هذا العامل مادي أو غير مادي ".
ورغبة في المزيد من الرد على الاعتراضات الدينية ألحق بالطبعة الثانية تعقيباً عاماً عن دور الله في نسقه.
فقصر تفسيراته الميكانيكية على العالم المادي ورأى حتى في ذلك العالم أدلة على وجود خطة إلهية فالآلة الكبرى تتطلب مصدراً أول لحركتها لا بد أن يكون هو الله ثم إن في النظام الشمسي شذوذات في المسلك يصححها تعالى دورياً كلما ظهرت. ولكي يفسح نيوتن مجالاً لهذه التدخلات الخارقة نزل عن مبدأ عدم فناء الطاقة. وافترض الآن أن آلة العالم تفقد بعض طاقتها بمضي الوقت وستفقدها كلها إن لم يتدخل الله ليرد عليها قوتها. واختتم بهذه العبارة " إن هذا النظام البديع نظام الشمس والكواكب والمذنبات لا يمكن أن ينبعث إلا من مشورة كائن ذكي قوي ومن رحابه ".
وأخيراً تحرك صوب الفلسفة يمكن أن تفسر بمعنى حيوي أو تفسر بمعنى ميكانيكي قال: " وقد نضيف الآن شيئاً يتصل بروح غاية في الدقة روح تنتشر وتختفي في جميع الأجسام الكبيرة وبقوتها وفعلها تتجاذب جزيئات الأجسام في المسافات القريبة وتتماسك إذا تجاوزت وتعمل الأجسام الكهربية إلى أبعاد أعظم فتصد وتجذب الجزيئات المجاورة ويرسل الضوء ويعكس ويكسر ويثني ويسخن الأجسام وكل إحساس يثار وتتحرك أعضاء الأجسام الحيوانية بأمر الإرادة أعني بتموجات هذه الروح مبثوثة بالتبادل على خيوط الأعصاب المتينة من أعصاب الحس الخارجة إلى المخ ومن المخ إلى العضلات.
على أن هذه أشياء لا يمكن تفسيرها في بضع كلمات ثم أننا لم نزود بما يكفي من التجارب التي يتطلبها التقرير والإيضاح الدقيقان للقوانين التي تعمل وفقاً لها هذه الروح الكهربية المرنة ".
ترى ماذا كان إيمانه الديني الحقيقي لقد تطلبت أستاذيته في كمبردج الولاء للكنيسة الرسمية وكان يختلف بانتظام إلى الخدمات الكنسية الأنجليكانية. أما صلواته الخاصة فيقول فيها سكرتيره " لا أستطيع أن أقول عنها شيئاً وأميل إلى الاعتقاد بأن دراساته المفرطة حرمته من النصيب الأفضل ". ومع ذلك فقد درس الكتاب المقدس بنفس الغيرة التي درس بها الكون.
وقد أثنى عليه رئيس أساقفة بقوله " إنك تعرف من اللاهوت أكثر مما نعرف كلنا مجتمعين " وقال لوك عن معرفته بالأسفار المقدسة " لست أعرف من أمثاله إلا القليلين " وقد خلف كتابات لاهوتية يفوق حجمها كل مؤلفاته العلمية.
وقادته دراساته إلى نتائج أشبه بالأريوسية وهي قريبة الشبه بنتائج ملتن ومجملها أن المسيح وإن كان ابن الله إلا أنه ليس مساوياً لله الآب في الزمن أو القوة. وفيما عدا ذلك كان نيوتن أو أصبح مستقيم العقيدة تماماً. ويبدو أنه آمن بكل كلمة من كلمات الكتاب المقدس على أنها كلمة الله وأنه قبل سفري دانيال ورؤيا يوحنا على أنهما الحقيقة بحذافيرها. لقد كان أعظم علماء عصره صوفيا نسخ في شغف فقرات طويلة من يعقوب بومي وطلب إلى لوك أن يناقش معه معنى " الحصان الأبيض " الوارد في سفر الرؤيا. وقد شجع صديقه جون كريج على كتابه " الأسس الرياضية للاهوت المسيحي " (1699) الذي حاول أن يثبت بالرياضة تاريخ مجيء المسيح الثاني والنسبة بين أقصى ما يمكن بلوغه من السعادة الأرضية وسعادة المؤمن التي يجزي بها في الفردوس. وقد كتب تعليقاً على سفر الرؤيا وزعم أن المسيح الكاذب المتنبأ به في السفر هو بابا روما. لقد كان ذهن نيوتن مزيجاً جمع بين ميكانيكا جاليليو وقوانين كبلر وبين لاهوت بومي. ولن يطالعنا الزمان بمثله عن قريب.
- الأصيل لقد كان بمعنى آخر مزيجاً شاذاً رجلاً مستغرقاً بشكل واضح في النظرية الرياضية والصوفية وهو مع ذلك ذو مقدرة عملية وفطرة سليمة اختارته جامعة كمبردج عام 1687 ليذهب مع
آخرين للاحتجاج لدى جيمس الثاني على محاولة هذا الملك أن يفرض على الجامعة أن تمنح راهباً بندكتياً درجة جامعية دون أن يحلف الإيمان العادية التي يستحيل على الكاثوليكية أن يقبلها. وفشلت البعثة في ثني الملك عن قراره ولكن لا بد أن الجامعة رضيت عن رئاسة نيوتن لها لأنه اختير عضواً ممثلاً لكمبردج في برلمان 1689. وظل عضواً حتى حل البرلمان عام 690 ثم أعيد انتخابه عام 1701 ولكنه لم يشارك في السياسة بدور مذكور.
|