شرح حديث: فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا

ً

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: (إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلاَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثاً، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ).


ألفاظ الحديث:
• (فَلاَ يُدْخِلُ يَدَهُ): المراد باليد هنا الكف دون ما زاد عليها وعند البخاري " فليغسل يده " بلفظ الأمر.
• (فِي الإِنَاءِ): المراد به الإناء الذي فيه وضوئه، ويلحق به إناء غسله لأنه وضوء وزيادة.
• (فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ): أي أن النائم لا يدري أين كانت يده حين نومه، فاليد بعد الاستيقاظ مشكوك في سلامتها فقد تكون لامست نجاسة وإذا أدخلت في الوضوء أثرت في الماء وهذه الجملة تعليلية للأمر بالغسل ثلاثاً.

من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في الحديث دلالة على نهي الإنسان أن يغمس كفه في الإناء إذا قام من النوم حتى يغسلها ثلاثاً وهذا بإجماع العلماء وهل النهي هنا للتحريم أم للكراهة؟ على قولين:
القول الأول: أن النهي للتحريم، وعليه من تعمد غمس يده فإنه يأثم، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة واستدلوا: بحديث الباب حيث نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، والنهي يقتضى التحريم حتى يأتي صارف يصرفه للكراهة ولا صارف عن التحريم، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: " وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " متفق عليه.


والقول الثاني: أن النهي للكراهة، وهو قول جمهور العلماء ورواية عن الإمام أحمد.
واستدلوا:
أ- عموم قوله تعالى: ﴿ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ (سورة المائدة: 6).
ووجه الدلالة: أن الله أمر بالوضوء ولم يأمر بغسل الكفين في أوله، والآية عامة والقيام من النوم داخل في هذا العموم.


ب- قول النبي صلّى الله عليه وسلّم " فإنه لا يدري أين باتت يده " وهذا تعليل يدل على استحباب عدم إدخال اليد في الإناء، لأن نجاسة اليد مشكوك فيها، وأما طهارتها فهو اليقين ولا يزول اليقين بالشك مما يدل على أن الأمر للاستحباب في غسل اليد قبل إدخالهما في الإناء.


الفائدة الثانية: ظاهر الحديث يدل على أن المقصود بالنوم هنا نوم الليل لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم " أين باتت يده " والبيتوتة: اسم لنوم الليل وعليه فلو استيقظ من نوم النهار فلا يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء، ويدل عليه أيضاً لفظ أبي داود: " إذا قام أحدكم من الليل.....) الحديث، وهذا يدل على أن الحكم مخصوص بنوم الليل، وهذا القول هو مذهب الحنابلة.
والقول الثاني: أنه لا فرق بين نوم الليل ونوم النهار، وهو قول جمهور العلماء.
واستدلوا: بحديث الباب حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه" والنوم هنا مطلق لا تقييد فيه فيشمل الليل والنهار، وأيضاً العلة المذكورة في الحديث فإن من نام ليلاً أو نهاراً لا يدري عن يده أين كانت، وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم " أين باتت يده " فهو على الأكثر الغالب في النوم، وعند الأصوليين أن ما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم.
قال الخطابي: " وفي الحديث من العلم أن الأخذ بالوثيقة والعمل بالاحتياط في باب العبادات أولى " [انظر: "معالم السنن" ( 1/ 90 )] قال النووي: " ما لم يخرج عن حد الاحتياط إلى حد الوسوسة " [انظر: "شرح مسلم للنووي" ( 2/ 146 )].


الفائدة الثالثة: لو غمس القائم من نوم الليل يده في الإناء فإنه يسلبه الطهورية على قول المذهب وحينئذ هذا الماء الذي في الإناء يعتبر طاهراً غير مُطهِّر وهذا هو قول الحنابلة، ورواية أخرى عن الإمام أحمد أنه نجس، وهذان قولان مرجوحان، والصحيح أن الماء باقٍ على طهوريته لأن الماء لا ينجس إلا إذا تغيرت صفة من صفاته بنجاسة تحدث فيه، والنبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن غمس اليد ولم يتعرض للماء ولو كان نجساً لبيَّنه النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولأن الأصل في الماء أنه طاهر باقٍ على طهوريته واليقين لا يمكن رفعه إلا بيقين مثله لا بالشك.


الفائدة الرابعة: في الحديث أدب النبي صلّى الله عليه وسلّم وحياؤه حيث استعمل ألفاظ الكنايات في قوله " فإنه لا يدري أين باتت يده " ولم يصرح لأن السامع لقوله صلّى الله عليه وسلّم يفهم المعنى الذي أراده النبي صلّى الله عليه وسلّم ونظائر هذه الكنايات في السنة كثير وكذلك في القرآن العزيز، وهذا إذا كان المعنى مفهوم لدى السامع، وأما إذا كانت الكناية تحدث لبساً وفَهْماً للمعنى على غير مراده فلا بد من التصريح وعليه يُحمل ما جاء مُصَّرحاً به في الأدلة.
قال النووي: قال الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى في معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم " لا يدري أين باتت يده " أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن يطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على بُثرة أو قملة أو قذر أو غير ذلك " [انظر: "شرح مسلم" للنووي ( 2/ 146 )].