![]() |
|
|
التسجيل | التعليمـــات | التقويم | مشاركات اليوم | البحث |
رياض الصالحين على مذهب أهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||||||
|
||||||||
![]()
فصل
[فى ذكر سَرِيَّة قُطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم وكانت فى صفر سنة تسع] قال ابن سعد: قالُوا: بعث رسولُ الله قُطبة بن عامر فى عشرين رجلاً إلى حيٍّ مِن خثعم بناحية تَبَالة، وأمره أن يَشُنَّ الغارة، فخرجوا على عشرة أبعِرة يعتقِبُونها، فأخذوا رجلاً، فسألوه، فاستعجمَ عليهم، فجعل يصيحُ بالحاضرة ويحذِّرهم، فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضرة، فشنُّوا عليهم الغارة، فاقتتلوا قِتالاً شديداً حتى كَثُر الجرحى فى الفريقين جميعاً، وقَتَل قُطــبةُ بن عامر مَن قتل، وساقُوا النَّعَم والنساءَ والشَّاء إلى المدينة، وفى القصة: أنه اجتمع القوم وركبوا فى آثارهم، فأرسل اللهُ سبحانه عليهم سيلاً عظيماً حال بينهم وبين المسلمين، فساقُوا النَّعَم والشاءَ والسبى، وهم ينظرون لا يستطيعون أن يعبروُا إليهم حتى غابوا عنهم . فصل [فى ذكر سَرِيَّة الضحاك بن سفيان الكلابى إلى بنى كلاب فى ربيع الأول سنة تسع] قالوا: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى بنى كلاب، وعليهم الضحاك بن سفيان بن عوف الطائى، ومعه الأصْيَدُ بن سلمة، فلقوهم بالزُّجِّ ((زُجِّ لاوة))، فدعَوْهم إلى الإسلام، فأبَوْا، فقاتلوهم، فهزموهم . فلحق الأصْيَد أباه سلمة، وسلمة على فرس له فى غدير بالزُجِّ، فدعاه إلى الإسلام، وأعطاهُ الأمان، فسبَّه وسبَّ دينه، فضرب الأصْيَد عرقوبى فرس أبيه، فلما وقع الفرس على عرقوبيه، ارتكز سلمة على الرمح فى الماء، ثم استمسك حتى جاءه أحدُهم فقتله، ولم يقتله ابنه . فصل [فى ذكر سرِيَّة علقمة بن مُجَزِّز المدلجى إلى الحبشة سنة تسع فى شهر ربيع الآخر] قالوا: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ناساً من الحبشة تراياهم أهلُ جدة، فبعث إليهم علقمة بن مُجَزِّز فى ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة فى البحر، وقد خاض إليهم البحر، فهربُوا منه، فلما رجع تعجَّل بعض القوم إلى أهليهم، فأذن لهم، فتعجَّل عبد الله بن حذافة السهمى، فأمَّره على مَن تعجَّل، وكانت فيه دُعابة، فنزلوا ببعض الطريق، وأوقدوا ناراً يصطلُون عليها، فقال: عزمتُ عليكم إلا تواثبتم فى هذه النار، فقام بعضُ القوم، فتجهَّزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا إنما كُنتُ أضحكُ معكم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((مَنْ أَمَرَكُم بِمَعْصِيَةٍ فلا تُطِيعُوهُ)) . قلت: فى (( الصحيحين )) عن علىّ بن أبى طالب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّة، واستَعملَ عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويُطيعوا، فأغضبوه، فقال: اجمعوا لى حطباً، فجمعوا، فقال: أوقدوا ناراً، ثم قال: ألم يأمْركُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لى؟ قالوا: بلى . قال: فادخلوها، فنظر بعضُهم إلى بعض، وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانُوا كذلك حتى سكن غضبُه، وطُفئت النار، فلما رجعوا، ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَداً))، وقال: ((لا طَاعَة فى مَعْصِيَة الله، إنَّمَا الطَّاعَةُ فى المَعْروف)) . فهذا فيه أنَّ الأمير كان من الأنصار، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى أمَّره، وأنَّ الغضب حمله على ذلك . وقد روى الإمام أحمد فى ((مسنده)) عن ابن عباس، فى قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 99] ، قال: نزلت فى عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدى، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سَرِيَّة، فإما أن يكونا واقعتين، أو يكون حديث علىّ هو المحفوظ .. والله أعلم . فصل [فى ذكر سَرِيَّة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى صنم طيئ ليهدمه فى هذه السنة] قالوا: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علىَّ بن أبى طالب فى مائة وخمسين رجلاً من الأنصار على مائة بعير، وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض إلى الفُلس، وهو صنم طيئ ليهدمه، فشنوا الغارَة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموه، وملؤوا أيديَهم من السبى والنَّعَم والشاء، وفى السبى أختُ عدى بن حاتم، وهرب عدى إلى الشام، ووجدوا فى خزانته ثلاثة أسياف، وثلاثة أدراع، فاستعمل على السبى أبو قتادة، وعلى الماشية والرِّثَّةِ عبد الله بن عتيك، وقسم الغنائم فى الطريق، وعزل الصفى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقسم على آل حاتم حتى قَدِمَ بهم المدينة . قال ابن إسحاق: قال عدى بن حاتم: ما كان رجل من العرب أشدَّ كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم منى حين سمعتُ به صلى الله عليه وسلم وكنت امرءاً شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير فى قومى بالمرباع، وكنت فى نفسى على دين، وكنت ملكاً فى قومى، فلما سمعتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم، كرهتُه، فقلت لغلام عربى كان لى، وكان راعياً لإبلى: لا أبا لك ؛ اعدد لى من إبلى أجمالاً ذللاً سماناً فاحبسها قريباً منى، فإذا سمعتَ بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذِنِّى، ففعل، ثم إنه أتانى ذات غداة، فقال: يا عدى ؛ ما كنتَ صانعاً إذا غشيتكَ خيلُ محمد، فاصنعه الآن، فإنى قد رأيتُ رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوشُ محمد . قال: فقلت: فقرِّب إلىَّ أجمالى، فقرَّبها، فاحتملتُ بأهلى وولدى، ثم قلت: ألحق بأهل دينى مِن النصارى بالشام، وخلفتُ بنتاً لحاتم فى الحاضرة، فلما قدمتُ الشام، أقمتُ بها، وتحالفنى خيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتُصيبُ ابنة حاتم فيمن أصابت، فَقُدِمَ بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سبايا من طيئ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربى إلى الشام، فمرَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ؛ غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، ما بى من خدمة، فَمُنَّ علىَّ، مَنَّ اللهُ عليك، قال: ((مَن وافدك))؟ قالت: عدىُّ بن حاتم . قال: ((الذى فَرَّ من الله ورسوله))؟ قالت: فَمُنَّ علىَّ . قال: فلما رجع ورجل إلى جنبه يُرى أنه علىّ، قال: سليه الحملان، قالت: فسألتُه، فأمر لها به . قال عدى: فأتتنى أُختى، فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلُها، ائته راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، قال عدى: فأتيتُه وهو جالس فى المسجد، فقال القومُ: هذا عدىُّ بنُ حاتم، وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفِعْتُ إليه، أخذ بيدى، وقد كان قبل ذلك قال: ((إنى أرجو أن يجعل الله يدَه فى يدى))، قال: فقام لى، فلقيَتْهُ امرأة، ومعها صبى، فقالا: إنَّ لنا إليكَ حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجـتهما، ثم أخذ بيدى حتى أتى داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها، وجلستُ بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((ما يُفِرُّكَ؟ أيُفِرُّكَ أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله))؟ قال: قلت: لا . قال: ثم تكلم ساعة، ثم قال: ((إنما تَفِرُّ أن يقال: الله أكبر، وهل تعلم شيئاً أكبرُ من الله))؟ قال: قلت: لا . قال: ((فإنَّ اليهود مغضوبٌ عليهم وإنَّ النصارى ضالون)) قال: فقلت: إنى حنيف مسلم . قال: فرأيتُ وجهه ينبسِطُ فرحـاً . قال: ثم أمرنى فأُنزلتُ عند رجل من الأنصار، وجعلتُ أغشاه، آتيه طرفى النهار، قال: فبينا أنا عنده، إذ جاء قوم فى ثياب من الصوف من هذه النمار، قال: فصلَّى وقام، فحثَّ عليهم، ثم قال: ((يا أيُّهَا النَّاسُ ؛ ارْضَخوا منَ الفَضْل ولَوْ بصَاع، ولَوْ بنِصْفِ صَاع، وَلَوْ بقَبْضَةٍ، وَلَو بِبَعْضِ قَبْضَةٍ، يقى أحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ أَو النَّارَ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرةٍ، فَإنْ لَمْ تَجِدوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإنَّ أَحَدَكُم لاقى الله، وقائلٌ لَهُ مَا أَقُولُ لَكُمْ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالاً وَوَلَداً؟ فيقول: بَلَى، فيقول: أيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، فَيَنْظُرُ قُدَّامَهُ، وبَعْدَهُ وعَنْ يمينِهِ وعَنْ شِمَالِهِ، ثم لا يَجدُ شَيْئاً يقى به وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ، لِيقِ أحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّار وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فإنْ لَمْ يَجدْ فَبكلمةٍ طيِّبةٍ، فإنى لا أخافُ عَلَيْكُم الفَاقَة، فإنَّ الله نَاصِرُكُم ومُعْطيكم حَتَّى تَسيرَ الظَّعِينةُ مَا بَيْنَ يَثْرِبَ والحيرة، وأكثر ما يُخَافُ عَلَى مَطيَّتها السُّرّق))، قال: فجعلتُ أقول فى نفسى: فأين لصوص طيئ؟، فصل [فى ذكر قصة كعب بن زهير مع النبى صلى الله عليه وسلم وكانت فيما بين رجوعه من الطائف وغزوة تَبُوك] قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، كتب بُجَيْر ابن زُهَيْر إلى أخيه كعب يُخبره أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأنَّ مَن بقى من شعراء قريش ابن الزَّبَعْرَى، وهُبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كلِّ وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة، فَطِرْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً مسلماً، وإن أنت لم تفعل، فانج إلى نجائك، وكان كعب قد قال: أَلا أَبْلِغَــا عَنِّى بُجَيْراً رِسَالَـةً *** فَهَلْ لَكَ فيما قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا فبَيِّنْ لَنَا إنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِــلٍ *** عَلى أىِّ شَىءٍ غَيْر ذَلِكَ دَلَّكَــا عَلَى خُلُـق لَمْ تُلْفِ أُمَّاً ولا أبـاً *** عَلَيْهِ ولَمْ تُدْرِكْ عليه أخَـاًلَكــَا فَـإنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بآسفٍ *** وَلاَ قَائِـــلٍ إمَّا عَثَرْتَ لَعًالَكَا سَقَــاكَ بِهَا المَأْمُونُ كَأْسَاً رَويَّةً *** فَأَنْهَلَكَ المَأْمُــونُ مِنْهَا وَعَلَّكَـا قال: وبعث بها إلى بُجير، فلما أتت بُجيراً، كره أن يكتمها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأنشده إياها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((سَقَاكَ المَأْمُونُ، صَدَقَ وإنَّهُ لَكَذُوبٌ، أَنَا المَأْمُونُ))، ولما سمع: ((عَلَى خُلُق لَمْ تُلْفِ أُما وَلا أَباً عَلَيْهِ))، فقال: أجل. قال: لم يلف عليه أباه ولا أُمه، ثم قال بجير لكعب: مَـنْ مُبْلِغٌ كَعْباً فَهَلْ لَكَ فى الَّتِى *** تَلُومُ عليها بَاطِــلاً وهى أحـزَمُ إلى الله لا العُزَّى ولا اللاتِ وَحْدَهُ *** فَتَنْجُـو إذَا كَانَ النَّجَاءُ وتَسْلَـمُ لَدَى يَوْمَ لا يَنْجُو وليس بِمـُفْلِتٍ *** مِنَ النَّاسِ إلا طَاهِرُ القَلْبِ مُسْلِمُ فَــدِينُ زُهَيْرٍ وهو لا شَىءَ دِينُهُ *** ودِينُ أبى سُلْمى عَلىَّ مُحَـــرَّمُ فلما بلغ كعباً الكتاب، ضاقت به الأرضُ، وأشفق على نفسه، وأرجف به مَن كان فى حاضِره من عدوه، فقال: هو مقتول، فلما لم يجد من شىء بُداً، قال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جُهينة، كما ذُكِر لى، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلَّى الصبح، فصلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا رسولُ الله، فقم إليه فاستأمِنْه، فَذُكِرَ لى أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه، فوضع يده فى يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرِفُه، فقال: يا رسول الله؛ إنَّ كعب ابن زهير قد جاء ليستأمِنَك تائباً مسلماً، فهل أنتَ قابلٌ منه إن أنا جئتُك به؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)). قال: أنا يا رسولَ الله كعب بن زهير. ![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
![]() |
#2 |
![]() ![]() |
![]()
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، أنه وثب عليه رجل من الأنصار، فقال: يا رسولَ الله؛ دعنى وعدو الله أضربْ عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه عنك، فقد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه)) قال: فغضب كعب على هذا الحى من الأنصار لما صنع به صاحبُهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال قصيدته اللامية التى يصف فيها محبوبته وناقته التى أولها:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِى اليَوْمَ مَتْبُـــولُ *** مُتَيَّــمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُــولُ يَسْـعَى الغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُــمُ *** إنَّكَ يَا ابْنَ أبى سُلْمَى لَمَقْتُـــولُ وَقَـالَ كُلُّ صَـدِيقٍ كُنْتُ آمُلُـهُ *** لا أُلْهِيَنَّكَ إنى عَنْكَ مَشْغُـــولُ فَقُلْتُ خَلُّوا طَرِيقِى لاَ أَبَا لَكُــم *** فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُـــولُ كُلُّ ابن أُنْثَى وإن طَالَتْ سَــلاَمَتُه *** يَوْماً عَلَى آلةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُـــولُ نُبِّئْتُ أنَّ رَسُــــولَ اللهِ أَوْعَدَنى *** والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُـــولُ مَهْلاً هَدَاكَ الَّذى أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الــ *** ــقُرْآنِ فيهَا مَوَاعيظٌ وَتَفْصِيــلُ لاَ تَأْخُذَنِّى بِأَقْوَالِ الوُشَـاةِ ولَــمْ *** أُذْنِبْ ولو كَثُـرَتْ فىَّ الأَقَاويــلُ لَقَدْ أَقُـــومُ مَقَاماً لَوْ يَقُـومُ بِهِ *** أرى وأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الفِيــلُ لَظَلَّ تُرْعَدُ مِنْ خَــوْفٍ بـَوادِرُه *** إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَسُولِ اللهِ تَنْوِيــلُ حَـتَّى وَضَعْتُ يَمِينِى مَا أُنَازِعُهَـا *** فى كَفِّ ذِى نَقِماتٍ قَوْلُه القِيــلُ فَلَهْـوَ أَخْوفُ عندى إذ أُكَلِّمُــه *** وقيلَ إنَّك منســـوبٌ ومسؤولُ مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَراءِ الأَرْضِ مُخْـدَرُهُ *** فى بَطْنِ عَثَّـــرَ غِيلٌ دُونَه غِيـلُ يَغْـدُوُ فيُلْحِمُ ضِرغـَامَيْن عَيْشُهُمَا *** لَحْمٌ مِنَ النَّاسِ، مَعْفُورٌ خَرَادِيــلُ إذا يُسَـاورُ قِرْناً لاَ يَحِـــلُّ لَهُ *** أَنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إلاَّ وَهو مَفْلُــولُ مِنْـهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الجَوِّ نَافِــــرَةً *** وَلا تَمَـــشَّى بوَادِيهِ الأرَاجِيـلُ وَلا يَزَالُ بِوَادِيهِ أخُو ثِقَـــــةٍ *** مضرَّج البَزِّ والدُّرْسَـــانِ مَأْكُولُ إنَّ الرَّسُـولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِــهِ *** مُهَنَّــدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُـولُ فى عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلـُـهُمْ *** بِبَطْنِ مَكَّةَ لما أسْلَمُــوا زُولُــوا زَالُوا فَما زَالَ أَنْكَاسٌ ولا كُشُـفٌ *** عِنْدَ اللِّقَـاءِ وَلا مِيلٌ مَعَازِيـــلُ يمْشُونَ مَشْىَ الجِمالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُم *** ضَرْبٌ إذَا عَرَّدَ السُـودُ التَّنابِيـلُ شُـــمُّ العَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُـهُمُ *** مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فى الهَيْجا سَرَابيــلُ بيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لها حَلَــقٌ *** كَأنَّهَا حَلَقُ القَفْعـاءِ مَجْـــدُولُ لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُــمُ *** قَوْمَاً ولَيْسُوا مَجَازِيعاً إذا نِيلُــوا لاَ يَقَع الطَّعْنُ إلاَّ فى نُحُـورِهــمُ *** وَمَا لَهُمْ عَنْ حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيـلُ قال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب: ((إذاَ عرَّدَ السُودُ التَّنابِيلُ)) وإنما عنى معشر الأنصار لِما كان صاحبنا صنع به ما صنع، وخص المهاجرين بمدحته، غضبت عليه الأنصارُ، فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار فى قصيدته التى يقول فيها: مَنْ سَـــرَّهُ كَرَمُ الحَيَـاةِ فَلاَ يَزَلْ *** فى مِقْنَبٍ مِنْ صَالحى الأنْصَـــارِ وَرِثُوا المَكَارِمَ كَابِـــراً عَنْ كَابِـرٍ *** إنَّ الخِيَارَ هُمُ بَنُو الأَخْيـــــارِ البَاذِلِينَ نُفُوسَهـــــمْ لِنَبِيِّهـمْ *** يَوْمَ الهِيَاجِ وسَطْوَةِ الجَبَّـــــارِ وَالذَّائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِــــم *** بِالمَشْــرَفِىِّ وبِالقَنَا الخَطَّـــارِ والبَائِعِينَ نُفُوسَهْمُ لِنَبِيِّهِـــــمْ *** لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعانُقٍ وَكِــــرارِ يَتَطَهَّـــــرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكاً لَهُمْ *** بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكُفَّــــارِ وَإذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إلَيْهِــــم *** أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الأعْفَـــارِ قَوْمٌ إذا خَوَتِ النُّجُومُ فَإنَّهُــــم *** لِلطــــارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَـارِى وكعب بن زهير من فحول الشعراء، هو وأبوه، وابنه عقبة، وابن ابنه العوام بن عقبة، ومما يُستحسن لكعب قوله: لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَىءٍ لأَعْجَبَنـى *** سَعْــىُ الفَتَى وهو مَخْبُوءٌ له القَدَرُ يَسْعَى الفَتَى لأُمُورٍ لَيْسَ يُدْركُهَــا *** فَالنَّفْسُ وَاحِـــدَةٌ وَالهَمُّ مُنْتَشِـرُ وَالمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْـــدُودٌ لَهُ أمَلٌ *** لاَ تَنْتَهِى العَيْنُ حَتَّى يَنْتَهى الأَثَــرُ ومما يُستحسن له أيضاً قوله فى النبى صلى الله عليه وسلم: تُحْدى بِهِ النَّاقَةُ الأَدْمَاءُ مُعْتَجِـراً *** لِلبُرْدِ كَالبَدْرِ جُلِّى لَيْلَة الظُّلَـمِ ففى عِطافَيْهِ أو أَثْنَــاءِ بُرْدَتِـهِ *** مَا يَعْلَمُ اللهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَـرَمِ فصل [فى غزوة تَبُوك وكانت فى شهر رجَب سنةَ تسع] قال ابن إسحاق: وكانت فى زمن عُسْرَةٍ مِنَ الناس، وجَدْبٍ من البلاد، وحين طابت الثمارُ، والناس يُحبون المُقام فى ثمارهم وظِلالهم، ويكرهون شُخوصهم على تلك الحال، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يخرج فى غزوة إلا كنَّى عنها، وورَّى بغيرها، إلا ما كان مِن غزوة تَبُوك، لبُعْد الشُّقة، وشِدة الزمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم، وهو فى جَهَازه للجَدِّ بنِ قيس أحد بنى سلمة: ((يا جَدُّ؛ هَلْ لَكَ العَامَ فى جِلاَدِ بَنى الأَصْفَرِ))؟ فقال: يا رسول الله؛ أَوَ تأذنُ لى ولا تَفْتِنِّى؟ فواللهِ لقد عرف قومى أنه ما مِن رَجُلٍ بأشدَّ عجباً بالنساء منى، وإنِّى أخشى إن رأيتُ نساءَ بنى الأصفر أن لا أصبِرَ، فأعرضَ عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((قَدْ أَذِنْتُ لَكَ))، ففيه نزلت الآية: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائذَنْ لِّى وَلا تَفْتِنِّى} [التوبة: 49] وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفِرُوا فى الحَرِّ، فأنزل الله فيهم: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ} الآية [التوبة: 81]. ثُم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جدَّ فى سفره، وأمر الناسَ بالجَهَاز، وحضَّ أهلَ الغِنَى على النفقة والحُملان فى سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغِنَى واحتسبُوا، وأنفق عثمانُ بن عفانُ فى ذلك نفقةً عظيمة لم يُنفِقْ أحدٌ مِثلها. قلت: كانت ثلاثمائة بعير بأحْلاسها وأقتابِها وعُدَّتها، وألفَ دينار عَيْناً. وذكر ابنُ سعد قال: بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الرومَ قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هِرَقْل قد رَزَق أصحابَه لسنة، وأجلبت معه لَخْمٌ، وجُذام، وعَامِلَة، وغسان، وقدَِّموا مقدماتهم إلى البلقاء. وجاء البكَّاؤون وهم سبعة يستحمِلُون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا أجدُ مَا أَحْمِلُكم عَلَيْه))، فتولَّوْا وأعينُهم تفيضُ من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما يُنفقون، وهم سالمُ بن عُمير، وعُلْبَةُ بنُ زيد، وأبو ليلى المازنى، وعمرو بن عَنَمَة، وسلمة بن صخر، والعِرباض بن سارية. وفى بعض الروايات: وعبد الله بن مُغَفَّل، ومعقِلُ بن يسار. وبعضهم يقول: البكَّاؤون بنو مُقَرِّن السبعة، وهم من مُزينة. وابن إسحاق: يعدُّ فيهم عَمْرو بن الحُمام بن الجَموح. وأرسل أبا موسى أصحابُه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيحمِلهم، فوافاه غضبان، فقال: ((واللهِ لا أحملكم، ولا أَجدُ ما أحمِلُكم عليه))، ثم أتاه إبل، فأرسل إليهم، ثم قال: ((مَا أَنَا حمَلْتُكُم، ولَكِنَّ الله حَمَلَكُم، وإنِّى وَاللهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرَاً مِنْهَا، إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى وَأَتَيْتُ الَّذى هُوَ خَيْرٌ)). فصل [فى ما كان من أمر عُلْبَة بن زيد] وقام عُلبة بن زيد فصلَّى من الليل وبكى، وقال: اللَّهُمَّ إنَّك قد أمرتَ بالجهاد، ورغَّبتَ فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوَّى به مع رسولك، ولم تجعل فى يد رسولك ما يحمِلُنى عليه، وإنى أتصدَّق على كل مسلم بكل مَظْلِمَةٍ أصابنى فيها مِن مال، أو جسد، أو عِرض، ثم أصبح مع الناس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ((أيْنَ المُتَصَدِّقُ هذِهِ اللَّيْلَة))؟. فلم يقم إليه أحد، ثم قال: ((أَيْنَ المُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ))، فَقَام إليه، فأخبرَه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ((أَبْشِرْ فَوالذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فى الزَّكَاةِ المتَقَبَّلَة)). وجاءَ المعذِّرُونَ من الأعرابِ ليؤذن لهم، فلم يَعْذِرْهم. قال ابن سعد: وهم اثنان وثمانون رجلاً، وكان عبدُ الله بنُ أُبَىّ بن سَلول قد عسكر على ثنية الوَداع فى حُلفائه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكره بأقلِّ العسكرين، واستخلف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصارى. وقال ابن هشام: سباع بن عُرْفُطَةَ، والأول أثبت. فلما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، تخلَّف عبدُ الله بن أُبَىّ ومَنْ كان معه، وتخلَّف نَفَر مِن المسلمين مِن غير شك ولا ارتياب، منهم: كعبُ بن مالك، وهِلالُ ابن أُمية، ومُرَارَةُ بنُ الربيع وأبو خَيثمة السالمى، وأبو ذر، ثم لحقه أبو خيثمة، وأبو ذر، وشهدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى ثلاثين ألفاً مِن الناس، والخيلُ عشرة آلاف فرس، وأقام بها عشرين ليلة يقصُر الصَّلاة، وهِرَقْلُ يومئذِ بحمص. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#3 |
![]() ![]() |
![]()
قال ابن إسحاق: ولما أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الخروجَ، خلَّف علىَّ بنَ أبى طالب على أهله، فأرْجَفَ به المنافقون، وقالوا: ما خلَّفه إلا استثقالاً وتخففاً منه، فأخذ علىُّ رضى الله عنه سِلاحه، ثم خرج حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجُرْفِ، فقال: يا نبىَّ الله؛ زعم المنافقون أَنك إنما خلَّفتنى لأنك استثقلتنى وتخففتَ منى، فقال: ((كَذَبُوا، ولكِنِّى خَلَّفْتُكَ لما تركْتُ وَرَائِى، فارْجعْ فَاخْلُفْنى فى أهْلِى وَأَهْلِكَ، أَفَلاَ تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هَارُون مِنْ مُوسى؟ إلا أنَّهُ لا نَبِىَّ بَعْدِى)) فرجع علىُّ إلى المدينة.
ثُمَّ إنَّ أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أياماً إلى أهله فى يوم حار، فوجد امرأتين له فى عريشينِ لهما فى حائطه، قد رشَّت كُلُّ واحدة منهما عريشَها، وبرَّدَتْ له ماء، وهيأت له فيه طعاماً، فلما دخل، قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى الضِّحِّ، والرِّيح، والحر، وأبو خيثمة فى ظِلٍّ بارد، وطعام مُهَيأ، وامرأة حسناء، فى ماله مقيم؟ ما هذا بالنَّصَفِ، ثم قال: واللهِ لا أدخل عريشَ واحدة منكما حتى ألحقَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهيِّئا لى زاداً، ففعلتا، ثم قدَّم ناضِحه، فارتحله، ثم خرج فى طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تَبُوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عُميرُ بن وهب الجمحى فى الطريق يطلُب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فترافقا حتى إذا دنوا من تَبُوك، قال أبو خيثمة لِعُمير بن وهب: إنَّ لى ذنباً، فلا عليك أن تتخلَّف عنى حتى آتىَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ففعل حتى إذا دنا مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتَبُوك، قال الناس: هذا راكبٌ على الطريق مُقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُنْ أبَا خَيْثَمَةَ)) قالوا: يا رسول الله؛ هو واللهِ أبو خيثمة، فلما أناخَ أقبل، فسلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أوْلى لَكَ يَا أبَا خَيْثَمَة))، فأخبرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرَه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْرَاً ودعا له بخير. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرَّ بالحِجْر بديار ثمود، قال: ((لا تَشْرَبُوا مِنَ مَائِهَا شَيْئاً، وَلا تَتَوَضَّؤوا مِنْهُ لِلصَّلاةِ، وما كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوه فَاعْلِفُوهُ الإبِلَ، ولا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئاً، ولا يَخْرُجَنَّ أحَدٌ منكم إلا ومعه صَاحِبٌ له))، ففعل النَّاسُ، إلا أنَّ رجلين من بنى ساعدة خرج أحـدُهما لحاجته، وخرج الآخرُ فى طلب بعيره، فأما الذى خرج لحاجته، فإنه خُنِق على مذهبه، وأما الذى خرج فى طلب بعيره، فاحتملته الريحُ حتى طرحته بجبلى طيئ، فأُخبرَ بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ألمْ أنْهَكُم أَنْ لا يَخْرُجَ أحَدٌ مِنْكُم إلاَّ ومَعَهُ صَاحِبُه))، ثم دعا للذى خُنِقَ على مذهبه فشُفى، وأما الآخر، فأهدته طيئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة. قلت: والذى فى ((صحيح مسلم))، من حديث أبى حُمَيد: انطلقنا حتى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((سَتَهُبُّ عَلَيْكُم اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُمْ مِنْكُم أحَدٌ، فَمنْ كانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالهُ)) فهبَّت رِيحٌ شَدِيدَة، فقام رجل فحملته الريحُ حتى ألقته بِجَبَلَىْ طَىِّء. قال ابن هشام: بلغنى عن الزُّهْرى أنه قال: لما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجْر، سجَّى ثوبه على وجهه، واستحثَّ راحلته، ثم قال: ((لا تَدْخُلُوا بُيوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم إلاَّ وَأَنْتُم بَاكُونَ خَوْفاً أنْ يُصِيبَكُم مَا أَصَابَهُمْ)). قلت: فى ((الصحيحين)) من حديث ابن عمر، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تَدْخُلوا عَلى هؤلاءِ القَوْمِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فإنْ لم تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلا تَدْخُلوا عَلَيْهِم لا يُصِيبُكم مِثْلُ مَا أَصَابَهُم)). وفى ((صحيح البخارى)) أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه. وفى ((صحيح مسلم)): أنه أمرهم أن يَعْلِفوا الإبلَ العَجِينَ، وأن يُهرِيقُوا الماءَ، ويستقوا من البئر التى كانت تَرِدُها الناقة. وقد رواه البخارىُّ أيضاً، وقد حفظ راويه ما لم يحفظه مَنْ روى الطرح. وذكر البيهقىُّ أنه نادى فيهم: الصلاةَ جامعة، فلما اجتمعوا، قال: ((علامَ تدخُلون على قوم غَضِبَ اللهُ عليهم))، فناداه رجل فقال: نَعْجَبُ مِنْهُم يَا رَسول الله، فقال: ((ألاَ أُنْبِئُكُم بِما هُوَ أعْجَبُ مِنْ ذلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أنْفُسِكُم يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُم وَمَا هُو كَائِنٌ بَعْدَكُم، اسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا، فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَعْبأُ بِعَذِابِكُم شَيْئاً، وَسَيأتِى اللهُ بِقَوْمٍ لا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفْسِهِم شيئاً)). فصل [فى بعض المعجزات فى هذه الغزوة] قال ابن إسحاق: وأصبح الناسُ ولا ماء معهم، فَشكَوْا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلَ الله سُبحانه سحابةً، فأمطرت حتى ارتوى الناسُ، واحتملُوا حاجَتهم من الماء. ثم إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعضِ الطريق، ضلَّت ناقتُه، فقال زيد بن اللُّصَيْتِ وكان منافقاً : أليس يزعُمُ أنه نبى، ويُخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدرى أين ناقتُه؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ رَجُلاً يَقُولُ، وذَكَرَ مَقَالَتَهُ، وإنِّى والله لا أعْلَمُ إلاَّ ما عَلَّمنى اللهُ، وقَدْ دَلَّنى اللهُ عَلَيْهَا، وهى فى الوَادى فى شِعْبِ كَذا وكَذَا، وقَدْ حَبَسَتْها شَجَرَةٌ بِزِمَامِها، فانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتونى بها)) فذهبوا فأَتَوْهُ بها .وفى طريقه تلك خَرَصَ حديقة المرأة بعشرة أوسق . ثم مضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يتخلَّف عنه الرجلُ فيقولون: تخلَّف فلان، فيقول: ((دَعُوه فإنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ، فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُم، وإنْ يَكُ غَيْرَ ذلِكَ، فَقَد أرَاحَكُمُ اللهُ مِنْهُ)). وتلوَّم على أبى ذَرٍ بعيرُه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه على ظهره، ثم خرج يتبعُ أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً، ونزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى بعض منازله، فنظر ناظر مِن المسلمين فقال: يا رسولَ الله؛ إنَّ هذا الرجل يمشى على الطريق وحدَه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُنْ أبَا ذَرٍ))، فلما تأمله القومُ، قالوا: يا رسول الله؛ واللهِ هو أبو ذر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رَحِمَ اللهُ أبا ذَرٍ؛ يَمْشِى وَحْدَهُ، ويَمُوتُ وَحْدَهُ، ويُبْعَثُ وحْدَهُ)). قال ابن إسحاق: فحدَّثنى بريدة بن سفيان الأسلمى، عن محمد بن كعب القُرظى، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نفى عثمانُ أبا ذر إلى الرَّبذَةِ، وأصابه بها قَدَرُه، لم يكن معه أحدٌ إلا امرأتُه وغلامُه، فأوصاهما: أن غَسِّلانى وكَفِّنانى، ثم ضعانى على قارعة الطريق، فأوَّل رَكْب يمرُّ بكم فقولُوا: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه، فلما مات، فعلا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبدُ الله بن مسعود فى رهط معه من أهل العِراق عُمَّاراً فلم يَرُعْهُمْ إلا بالجِنازة على ظهر الطَّريق قد كادت الإبلُ تَطَؤُها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، قال: فاستهلَّ عبدُ الله يبكى ويقول: صدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((تَمْشِى وَحْدَكَ، وتَمُوتُ وَحْدَكَ، وتُبْعَثُ وَحْدَكَ))، ثم نزل هو وأصحابه، فوارَوْه، ثم حَدَّثهم عبدُ الله بن مسعود حديثه، وما قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى مسيره إلى تَبُوك. قلت: وفى هذه القصة نظر، فقد ذكر أبو حاتم بن حبان فى ((صحيحه)) وغيره فى قصة وفاته، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أُم ذر، قالت: لما حضرت أبا ذَر الوفاةُ، بَكَيْتُ، فقال: ما يُبكيكِ؟ فقلت: ما لى لا أبكى، وأنت تموتُ بفَلاة من الأرض، وليس عندى ثوبٌ يسعُك كفَناً، ولا يدان لى فى تغييبك؟ قال: أبشرى ولا تبكى، فإنى سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: ((لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ منكم بِفلاةٍ مِنَ الأرض يَشْهَدُه عِصَابةٌ من المُسْلمين)) وليس أحَدٌ من أولئِكَ النَّفَرِ إلا وقد مات فى قريةٍ وجمَاعةٍ، فأنا ذلِكَ الرَّجُلُ، فواللهِ ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصرى الطريق، فقُلت: أنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطعت الطُّرُقُ؟، فقال: اذهبى فتبصَّرى. قالت: فكنتُ أُسنِدُ إلى الكَثِيبِ أتبصَّر، ثم أرجع فأُمرِّضه، فبينا أنا وهو كذلك، إذ أنا برجال على رِحالهم كأنهم الرَّخَمُ تَخُبُّ بهم رواحِلُهم، قالت: فأشَرتُ إليهم، فأسرعوا إلىَّ حَتى وقفُوا علىَّ فقالوا: يا أَمةَ الله؛ مالك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يَمُوت تُكفنونه. قالوا: ومَن هو؟ قلت: أبو ذر. قالوا: صاحِبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، ففدَّوْه بآبائهم وأُمهاتِهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أبشِروا فإنى سـمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول لنَفَر أنا فيهم: ((لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ منكم بِفَلاةٍ مِن الأرضِ يَشْهَدُه عِصَابةٌ من المؤمنين)) وَلَيْسَ مِنْ أُولئِكَ النَّفَرِ رَجُلٌ إلاَّ وقد هَلَكَ فى جَمَاعَةٍ، واللهِ ما كَذَبْتُ ولاَ كُذِبْتُ، إنه لو كان عندى ثوبٌ يسعُنى كفناً لى أو لامرأتى، لم أكُفَّن إلا فى ثوب هُوَ لى أو لها، فإنى أنشُدُكُم الله أن لا يكفِّنَنى رجل منكم كان أميراً، أو عريفاً، أو بريداً، أو نقيباً، وليس من أولئك النَّفَر أحد إلا وقد قارفَ بعضَ ما قال إلا فتًى من الأنصار قال: أنا يا عمُّ، أُكَفِّنُك فى ردائى هذا، وفى ثوبين مِن عَيبتى من غزل أُمى. قال: أنتَ فكفِّنى، فكفَّنه الأنصارى، وقاموا عليه، ودفنوه فى نَفَر كُلُّهم يمان. رجعنا إلى قصة تبوك: وقد كان رهطٌ من المنافقين، منهم: وديعة بن ثابت أخو بنى عَمْرو بن عَوْف، ومنهم رجل مِن أشجع حليف لبنى سلمة يقال له: مَخْشى بن حُمَيِّر، قال بعضهم لبعضٍ: أتحسبون جلاد بنى الأصفر، كقتال العرب بَعضِهم لبعض؟ واللهِ لكأنَّا بكم غداً مقرَّنين فى الحِبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين. فقال مَخْشِى بن حُمَيِّر: واللهِ لودِدت أنى أُقَاضَى على أن يُضرب كُل منا مائةَ جَلدة، وإنَّا ننفلِتُ أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعمَّار بن ياسر: ((أدْرِك القَوْمَ، فإنهم قد احْتَرَقُوا فَسَلْهُم عَمَّا قالوا؟ فإن أنكروا، فَقُلْ: بل قُلتُم: كذا وكذا)). فانطلق إليهم عمَّار، فقال لهم ذلك، فأتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يعتذِرُون إليه، فقال وديعة بن ثاب: كنا نخوضُ ونلعبُ، فأنزل الله فيهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ} [التوبة: 65] فقال مخشى بن حُمْيِّر: يا رسول الله؛ قعد بى اسمى واسمُ أبى، فكان الذى عُفىَ عنه فى هذه الآية، وتسمَّى عبد الرحمن، وسألَ الله أن يُقتل شـهيداً لا يُعلم بمكانه، فقُتِل يومَ اليمامة، فلم يوجد له أثر. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#4 |
![]() ![]() |
![]()
وذكر ابن عائذ فى ((مغازيه))، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل تَبُوكَ فى زمان قلَّ ماؤُها فيه، فاغترف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غَرفةً بيده من ماء، فمضمض بها فاه، ثم بصقه فيها، ففارت عينُها حتى امتلأت، فهى كذلك حتى الساعة.
قلت: فى ((صحيح مسلم)) أنه قال قبل وصوله إليها: ((إنَّكُم سَتَأتُونَ غداً إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى عَيْنَ تَبُوك، وإنَّكُم لَنْ تَأْتُوها حَتَّى يُضْحِىَ النَّهارُ، فمَن جَاءَهَا فلا يَمَسنَّ مِنْ مائِها شيئاً حتى آتى)). قال: فجئناها وقَدْ سَبَق إليها رَجُلانِ، والعَيْن مِثْلُ الشِّرَاكِ تًبِضُّ بشئ من ماءٍ، فسألهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((هل مَسَسْتُما مِن مائها شيئاً))؟ قالا: نَعم، فسبَّهُمَا النبى صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء اللهُ أن يقول، ثُمَّ غرفُوا مِن العَيْن قليلاً قليلاً حتى اجتمع فى شئ، وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهَه ويَدَيْه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء مُنْهمِرٍ، حتى استقى النَّاسُ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِكُ يا مُعاذُ إن طالتْ بكَ حَياةٌ أن ترى ما هاهنا قدْ مُلِئ جِنَاناً)). فصل [فى مصالحة صاحب (( أَيْلَة )) وأهل (( جَرْبا )) و(( أذْرُح ))] ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبُوك، أتاه صاحبُ أَيْلَة، فصالحَه وأعطاه الجزيةَ، وأتاه أهل جَرْبا، وأذْرُح، فأعطَوْه الجزيَة، وكتب لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، فهو عِندهم، وكتب لِصاحب أَيْلة: ((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أَمَنَةٌ مِن الله، ومحمد النبى رسول الله لِيُحَنَّةَ بن رُؤْبَةَ، وأهلِ أَيْلَة، سُفنهم، وسيارتهم فى البرِّ والبحرِ، لهم ذِمةُ اللهِ، ومحمد النبى، ومَنْ كان معهم مِن أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمَن أحدث منهم حَدَثاً، فإنه لا يَحولُ مالُه دونَ نفسه، وإنَّه لمن أخذه مِن الناس، وإنه لا يحِلُّ أن يُمنعوا ماءً يردونه، ولا طريقاً يردونه من بَحْرٍ أو بَرٍّ)) . فصل [فى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليدإلى أُكَيْـــدِرِ دُومة] قال ابن إسحاق: ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أُكَيْدر دُومة، وهو أُكَيْدر بن عبد الملِك، رجل مِن كِندة، وكان نصرانياً، وكان ملكاً عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: ((إنَّكَ سَتجِدُه يَصِيدُ البَقَرَ))، فخرجَ خالد حتى إذا كان مِن حصنه بمنظر العَيْن، وفى ليلة مُقمرة صَافية، وهو على سطـح له، ومعه امرأته، فباتَتِ البقرُ تَحُكُّ بِقُرونها بابَ القصر، فقالتْ له امرأتُه: هل رأيتَ مثل هذا قطُّ؟ قال: لا واللهِ. قالت: فمَن يترك هذه؟ قال: لا أحد، فنزل، فأمر بفرسه، فأُسرجَ له، وركب معه نَفَر مِن أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسَّان، فركب وخرجُوا معه بمطاردهم، فلما خرجُوا، تلقَّتهم خيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذته، وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قَباء مِن دِيباج مخوَّصٌ بالذهب، فاستلبه خالد، فبعثَ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلَ قدومه عليه، ثم إن خالداً قدم بأُكَيْدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن له دَمَه، وصالحه على الجزية، ثم خلَّى سبيله، فرجع إلى قريته. وقال ابنُ سعد: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً فى أربعمائة وعشرين فارساً، فذكر نحو ما تقدَّم. قال: وأجار خالد أُكَيْدر من القتل حتى يأتىَ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، على أن يَفتح له دُومة الجندل، ففعلَ وصالحه على ألفى بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة دِرع، وأربعمائة رُمح، فعزل للنبىِّ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّهُ خالِصاً، ثم قسم الغنيمة، فأخرج الخُمس، فكان للنبى صلى الله عليه وسلم، ثم قسم ما بقى فى أصحابه، فصار لِكل واحد منهم خَمْسُ فرائض. وذكر ابنُ عائذ فى هذا الخبر، أنَّ أُكَيْدر قال عن البقر: واللهِ ما رأيتها قط أتتنا إلا البارحة، ولقد كنتُ أُضْمِرُ لها اليومينِ والثلاثة، ولكن قدر الله. قال موسى بن عُقبة: واجتمع أُكَيْدر، ويُحَنَّة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهما إلى الإسلام، فأبيا، وأقرا بالجزية، فقاضاهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قضية دُومة، وعلى تَبوك، وعلى أَيْلَة، وعلى تيماء، وكتب لهما كتاباً. رجعنا إلى قصة تبوك: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتَبُوك بِضعَ عشرة ليلةً لم يُجاوزها، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة، وكان فى الطريق ماء يخرج من وَشَل يُروى الراكبَ والراكبين والثلاثة، بوادٍ يقال له: وادى المُشَقَّق، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَبَقَنَا إلى ذلِك المَاءِ، فَلاَ يَسْتَقِينَّ منه شَيْئاً حَتَّى نأتيه)) قال: فسبقه إليه نَفَر من المنافقين، فاستَقَوْا، فلم ير فيه شـيئاً، فقال: ((مَنْ سَبَقَنَا إلى هذَا المَاءِ))؟ فقيل له: يا رسول الله؛ فلان وفلان. فقال: ((أوَ لَمْ أَنْهَهُم أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئاً حَتَّى آتيَه))، ثم لَعَنهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ودعا عليهم، ثم نَزَل فوضع يده تحتَ الوشل، فجعل يَصُبُّ فى يده ما شاء الله أن يَصُبَّ، ثم نَضَحه به، ومسحه بيده، ودعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعوَ به، فانخرق مِن الماءكما يقول مَن سمعه ما إن له حِسّاً كحِسِّ الصواعِق، فشرب الناسُ، واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَئِنْ بَقِيتُم أوْ مَنْ بَقِىَ مِنْكُم لَيَسْمَعَنَّ بهذا الوادى، وهُوَ أخْصَبُ مَا بين يَدَيْهِ ومَا خلفه)). قلت: ثبت فى ((صحيح مسلم)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ((إنَّكُم سَتَأْتُونَ غَداً إنْ شَاءَ اللهُ عَيْنَ تَبُوك، وإنَّكُم لَنْ تَأْتُوها حَتَّى يُضْحِى النّهارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلاَ يَمسَّ مِنْ مَائِها شَيئاً)).... الحديث، وقد تقدَّم.فإن كانت القصة واحدة، فالمحفوظُ حديث مسلم، وإن كانت قصتين، فهو ممكن. قال: وحدَّثنى محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى، أن عبدَ اللهِ ابن مسعود كان يُحَدِّثُ، قال: قُمت مِن جوفِ الليل، وأنا معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوةِ تَبُوكَ، فرأيت شُعلةً من نار فى ناحية العسكر، فاتَّبَعْتُها أنظُرُ إليها، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبدُ الله ذو البِجادَيْنِ المزنى قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى حُفرته، وأبو بكر وعمر يُدليانه إليه، وهو يقول: ((أدنيا إلىَّ أخاكما))، فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه، قال: ((اللَّهُمَّ إنِّى قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِياً عَنْهُ، فَارْضَ عَنْهُ))، قال: يقولُ عبد الله بن مسعود: ياليتنى كنتُ صاحِبَ الحُفرة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرْجعَه مِن غزوة تَبُوك: ((إنَّ بالمَدِينَةِ لأَقْواماً ما سِرْتُم مَسيراً، ولا قَطَعْتُمْ وادياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم)) قالوا: يا رسول الله؛ وهُمْ بالمدينة؟ قال: ((نَعَمْ حَبَسَهُم العُذْرُ)). فصل [فى خطبته صلى الله عليه وسلم بتَبُوك وصلاته] ذكر البيهقى فى ((الدلائل))، والحاكم من حديث عُقبة بن عامر، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تَبُوك، فاسترقد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلة لمَّا كان منها عَلَى ليلة، فلم يستيقِظ فيها حتَّى كانت الشمسُ قِيدَ رُمـح قال: ((أَلَمْ أَقُلْ لَكَ يَا بِلالُ اكْلأ لَنا الفَجْرَ))، فقال: يا رسول اللهِ؛ ذهب بى من النومِ الذى ذَهَبَ بك، فانتقلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلكَ المنزل غيرَ بعيد، ثم صلَّى، ثم ذهب بقِيةَ يومه وليلته، فأصبح بتَبُوكَ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: ((أمَّا بَعْدُ.. فَإنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وأَوْثَقُ العُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَخَيْرُ المِلَل مِلَّةُ إبراهيمَ، وخَيْرُ السَّنَنِ سُـنَّةُ مُحَمَّدٍ، وأَشْرَفُ الحَدِيثِ ذِكْرُ اللهِ، وأَحْسَنُ القَصَصِ هذا القُرآنُ، وخَيْرُ الأُمُورِ عَوَازِمُها، وَشَرُّ الأُمُور مُحْدَثَاتُها، وأَحْسَنُ الهَدْى هَدْىُ الأَنْبِيَاءِ، وأَشْرَفُ المْوتِ قَتْلُ الشُّهَداءِ، وأَعْمَى العَمَى الضَّلالةُ بَعْدَ الهُدَى، وخَيْرُ الأعْمَالِ مَا نَفَعَ، وخَيْرُ الهُدى ما أتُّبعَ، وشرُّ العَمَى عَمَى القَلْبِ، واليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، ومَا قَلَّ وكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وشَرُّ المَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُرُ المَوْت، وشَرُّ النَّدامَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يأْتى الجُمُعَةَ إلا دُبُراً، ومِنْهُم مَنْ لاَ يَذْكُرُ اللهَ إلا هُجْراً، ومنْ أَعْظَم الخَطَايَا اللِّسانُ الكَذَّابُ، وخَيْرُ الغِنى غِنى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الزَّادِ التَّقْوى، وَرَأْسُ الحُكْمِ مَخَافَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وخَيْرُ مَا وَقَرَ فى القُلوبِ اليَقِينُ، والارْتيابُ مِنَ الكُفْرِ، والنِّياحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ، وَالغُلُولُ مِنْ جُثا جَهَنَّمَ، والسُّكْر كَىٌ مِنَ النَّارِ، والشِّعْرُ مِنْ إبْلِيسَ، والخَمْرُ جماعُ الإثْمِ، وشَرُّ المَأْكَلِ مَالُ اليَتِيمِ، والسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِه، والشَّقِىُّ مَنْ شَقى فى بَطْنِ أُمِّهِ، وإنَّما يَصِيرُ أَحَدُكُم إلى مَوْضِع أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، والأَمْرُ إلى الآخِرَةِ، ومَلاكُ العَمَلِ خَوَاتِمُهُ، وشرُّ الرَّوَايا رَوَايا الكَذِب، وكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وسِبَابُ المُؤْمِنِ فُسوقٌ، وقِتَالُه كُفْرٌ، وأَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، ومَنْ يتألَّ عَلى اللهِ يُكَذِّبْه، ومَنْ يَغْفِرْ يُغْفَرْ لَه، ومَنْ يَعْفُ، يَعْفُ اللهُ عَنْهُ، ومَنْ يَكْظِم الغَيْظَ يَأْجُرْهُ اللهُ، ومَنْ يَصْبِرْ عَلى الرَّزِيِّةِ يُعَوِّضه اللهُ، ومَنْ يَبْتَغِ السُّمْعَةَ، يُسَمِّع اللهُ بِهِ، ومَنْ يَتَصَبَّر، يُضْعِفِ اللهُ لَهُ، ومَنْ يَعْصِ اللهَ يُعَذِّبْه الله)).. ثم استغفر ثلاثاً. وذكر أبو داود فى ((سننه)) من حديث ابن وهب: أخبرنى معاويةُ، عن سعيد بن غَزوان، عن أبيه أنه نزلَ بتَبُوك، وهو حاجٍ، فإذا رجلٌ مُقْعَدٌ، فسألتُه عن أمره، قال: سأُحدِّثُك حديثاً، فلا تُحَدِّثْ به ما سمعتَ أنِّى حَىٌ: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلَ بتَبُوكَ إلى نخلة، فقال: ((هذِهِ قِبْلَتُنا))، ثم صلَّى إليهَا، قال: فأقبلتُ وأنا غلامٌ أسعى، حتى مررتُ بينه وبينها، فقال: ((قطَع صلاتَنا، قطعَ الله أثَرَه))، قال: فما قُمتُ عليهما إلى يومى هذا. ثم ساقه أبو داود من طريق وكيع، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نِمران، قال: رأيت رجلاً بتَبُوك مقعداً، فقال: مررتُ بين يدىْ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار وهو يُصلِّى، فقال: ((اللَّهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ))، فما مشيتُ عليهما بعد. وفى هذا الإسناد والذى قبله ضعف. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#5 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
[فى جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين فى غزوة تَبُوك] قال أبو داود: حدثنا قُتيبة بن سعيد، حدثنا اللَّيث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الطفيلِ، عن عامِر بن واثلة، عن معاذ بن جَبل، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان فى غزوةِ تَبُوك إذا ارتحل قبلَ أن تَزِيغَ الشَّمسُ، أَخَّرَ الظُّهر حتى يجمعها إلى العصر، فيُصَلِّيهما جميعاً، وإذا ارتحل قَبْلَ المغرب، أخَّرَ المغربَ حتَّى يُصلىها مع العِشاء، وإذا ارتحلَ بعد المغرب، عَجَّلَ العِشاء، فصلاها مع المغرب. وقال الترمذى: ((إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ، عَجَّلَ العَصْرَ إلى الظُّهْرِ وَصَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ جَمِيعاً))، وقال: حديثٌ حسن غريب. وقال أبو داود: هذا حديثٌ مُنكر، وليس فى تقديمِ الوقتِ حديثٌ قائِم. وقال أبو محمد بن حزم: لا يَعْلَمُ أحدٌ مِن أصحابِ الحديثِ ليزيد بنِ أبى حبيب سماعاً مِن أبى الطُّفَيْل. وقال الحاكم فى حديث أبى الطُّفَيْل هذا: هو حديثٌ رواتُه أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن، لا نعرِف له عِلَّة نُعلِّله بها، فنظرنا فإذا الحديث موضوع، وذكر عن البخارى: قلت لقُتيبة بن سعيد: مع مَن كتبتَ عن اللَّيث حديثَ يزيد بن أبى حبيب عن أبى الطُّفَيْل؟ قال: كتَبتُه مع خالد المدائنى، وكان خالد المدائنى يُدخل الأحاديثَ على الشيوخ. ورواه أبو داود أيضاً: حدَّثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الرَّملى، حدثنا مفضَّل بن فضالة، واللَّيث ابن سعد، عن هِشام بن سعد، عن أبى الزُّبير، عن أبى الطُّفَيْل، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى غزوة تَبُوكَ إذا زاغَت الشَّمسُ قبل أن يرتَحِلَ جمعَ بين الظُّهر والعصر، وفى المغرب مِثْلَ ذلك: إن غابَتِ الشَّمسُ قبل أن يرتَحِلَ، جمع بينَ المغربِ والعِشاء، وإن ارتحل قبل أن تَغِيبَ الشمسُ، أخَّرَ المغرب حتَّى يَنْزِلَ لِلعِشَاءِ، ثم يجمَع بينهما. وهِشام بن سعد: ضعيف عندهم، ضعَّفه الإمام أحمد، وابنُ معين، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، ويحيى بن سعيد، وكان لا يُحدِّث عنه، وضعَّفه النسائىُّ أيضاً، وقال أبو بكر البزَّار: لم أر أحداً توقَّف عن حديث هِشام ابن سعد، ولا اعتلَّ عليه بعِلَّة تُوجب التوقف عنه، وقال أبو داود: حديث المفضَّل واللَّيث حديث منكر. فصل [فى رجوعه صلى الله عليه وسلم من تَبُوك وما هَمَّ المنافقون به من الكَيْدِ به وعِصمة الله إياه] ذكر أبو الأسود فى ((مغازيه)) عن عُرْوَة قال: ورجع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قافلاً مِن تَبُوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق، مكر برسولِ الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ من المنافقين، فتآمرُوا أن يطرحُوه من رأسِ عَقَبَةٍ فى الطريق، فلما بلغوا العقبة، أرادوا أن يسلكُوها معه، فلما غشيَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أُخبر خبرهم، فقال: ((مَنْ شَاءَ مِنْكُم أَنْ يَأْخُذَ بِبَطْنِ الوَادِى، فإنَّه أَوْسَعُ لَكُمْ)) وأَخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العَقَبة، وأخذ الناسُ ببطن الوادى إلا النَّفَرَ الذين هَمُّوا بالمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمعوا بذلك، استعدُّوا وتلثَّموا، وقد همُّوا بأمر عظيم، وأمر رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حُذيفةَ بنَ اليمان، وعمَّارَ بن ياسر، فمشيا معه، وأمر عمَّاراً أن يأخذ بزِمام الناقة، وأمر حُذيفة أن يسوقها، فبينا هُم يسيرون، إذ سمعوا وكزة القومِ مِن ورائهم قد غَشَوْه، فَغَضِبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأمر حُذيفة أن يردهم، وأبصرَ حذيفة غضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع ومعه مِحجن، واستقبل وجوهَ رواحلهم، فضربها ضرباً بالمحجن، وأبصرَ القومَ، وهم متلثِّمون، ولا يشعرُ إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم اللهُ سبحانه حين أبصروا حُذيفة، وظنوا أنَّ مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعُوا حتى خالَطُوا الناسَ، وأقبل حُذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدركه، قال: ((اضْرِب الرَّاحِلَة يا حُذَيْفَة، وامْشِ أنْتَ ياعَمَّارُ))، فأسرعوا حتى استووا بِأَعْلاها، فخرجوا من العَقَبَةِ ينتظرون الناسَ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لحذيفَة: ((هَلْ عَرَفْتَ مِنْ هؤُلاءِ الرَّهْطِ أو الرَّكْبِ أحَداً))؟ قال حُذيفة: عرفتُ راحِلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل، وغشيتُهم، وهم متلثِّمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل عَلِمْتُم ما كانَ شأن الرَّكْبِ وما أرادوا))؟ قالوا: لا واللهِ يا رسول الله، قال: ((فإنهم مَكَرُوا لِيَسِيرُوا مَعِى، حَتَّى إذا اطَّلعتُ فى العَقَبَةِ طَرحُونى منها)) قالوا: أَوَ لا تأمُرُ بهم يا رسول الله إذاً، فنضرِبَ أعناقهم، قال: ((أكره أن يتحدَّث الناسُ ويقولوا: إنَّ محمداً قد وضع يده فى أصحابه))، فسماهم لهما، وقال ![]() وقال ابن إسحاق فى هذه القصة: ((إنَّ الله قد أخبرنى بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وسأُخبِرُك بهم إن شاء الله غداً عند وجه الصبح، فانطلِقْ حتى إذا اصبَحْت، فاجمعهم))، فلما أصبح قال: ((ادع عبد الله بن أُبَىّ، وسعد بن أبى سرح، وأبا خاطر الأعرابى، وعامراً، وأبا عامر، والجُلاس بن سويد ابن الصامت، وهو الذى قال: لا ننتهى حتى نرمى محمداً مِن العَقَبَةِ الليلة، وإن كان محمد وأصحابُه خيراً منا، إنا إذاً لغنم وهو الراعى، ولا عقل لنا وهو العاقِل، وأمره أن يدعُوَ مجمع بن حارثة، ومليحاً التيمى، وهو الذى سرق طِيبَ الكعبة، وارتدَّ عن الإسلام، وانطلق هارِباً فى الأرض، فلا يُدْرى أين ذهب، وأمره أن يدعوَ حِصن بن نمير الذى أغار على تمر الصدقة فسرقه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَيْحَكَ، ما حَمَلَكَ عَلَى هذَا))؟ فقال: حملنى عليه أنى ظننتُ أنَّ الله لا يُطلعك عليه، فأما إذا أطلعك الله عليه، وعلمتَه، فأنا أشهد اليوم أنك رسُولُ الله، وإنى لم أُؤمن بك قطُّ قبل هذه الساعة، فأقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عثرَته، وعفا عنه، وأمره أن يدعو طُعيمة بن أبيرق، وعبدَ الله ابن عُيينة، وهو الذى قال لأصحابه: اسهرُوا هذه الليلة تسلمُوا الدهرَ كُلَّه، فواللهِ ما لكم أمر دون أن تقتلُوا هذا الرجل، فدعاه فقال: ((وَيْحَكَ، مَا كَانَ يَنْفَعُكَ مِنْ قَتْلى لَوْ أنِّى قُتِلْتُ))؟ فقال عبد الله: فواللهِ يا رسولَ الله لا نزالُ بخير ما أعطاك الله النصرَ على عدوِّك، إنما نحن باللهِ وبِكَ، فتركه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((ادعُ مُرَّة بن الربيع))، وهو الذى قال: نقتل الواحد الفرد، فيكون الناسُ عامةً بقتله مطمئنين، فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((وَيْحَكَ، مَا حَمَلَكَ عَلى أنْ تَقُولَ الَّذى قُلْتَ))؟ فقال: يا رسولَ الله؛ إن كنتُ قلتُ شيئاً من ذلك إنك لعالِم بهِ، وما قلتُ شيئاً من ذلك، فجمعهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلاً الذين حاربُوا اللهَ ورسولَه وأرادوا قتله، فأخبرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقولهم، ومنطقهم، وسرهم، وعلانيتهم، وأطلعَ اللهُ سبحانه نبيه على ذلك بعلمه، ومات الاثنا عشر منافقين محاربين للهِ ولرسوله، وذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} [التوبة: 74]وكان أبو عامر رأسهم، وله بنوا مسجد الضِّرار، وهو الذى كان يُقال له: ((الراهب))، فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفاسق))، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، فأرسلوا إليه، فقدم عليهم، فلما قدِم عليهم، أخزاه الله وإيَّاهم، فانهارت تلك البقعة فى نار جهنم. فصل [فى بعض الأوهام فى سياق رواية ابن إسحاق] قلت: وفى سياق ما ذكره ابن إسحاق وَهْمٌ من وجوه: أحدُها: أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حُذيفة أسماء أُولئك المنافقين، ولم يُطلع عليهم أحداً غيره، وبذلك كان يُقال لحذيفة: إنه صاحِبُ السِّرِّ الذى لا يعلمهُ غيرُه، ولم يكن عمر، ولا غيرُه يعلمُ أسماءهم، وكان إذا مات الرجل وشكُّوا فيه، يقول عمر: انظروا، فإن صلَّى عليه حذيفة، وإلا فهو منافق منهم. الثانى: ما ذكرناه من قوله: فيهم عبد الله بن أُبَىّ، وهو وَهْمٌ ظاهر، وقد ذكر ابن إسحاق نفسه، أنَّ عبد الله بن أُبَىِّ تخلَّف فى غزوة تبوك. الثالث: أن قوله: وسعد بن أبى سرح وَهْمٌ أيضاً، وخطأ ظاهرٌ، فإن سعد ابن أبى سرح لم يُعرف له إسلام ألبتة، وإنما ابنُه عبد الله كان قد أسلم وهاجر، ثم ارتدَّ ولَحِقَ بمكة، حتى استأمن له عثمانُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأمَّنه وأسلم، فَحَسُنَ إسلامُه، ولم يظهر منه بعد ذلك شئ يُنكر عليه، ولم يكن مع هؤلاء الاثنى عشر ألبتة، فما أدرى ما هذا الخطأ الفاحش. الرابع: قوله: وكان أبو عامر رأسَهم، وهذا وَهْمٌ ظاهر لا يخفى على مَنْ دونَ ابن إسحاق، بل هو نفسُه قد ذكر قِصة أبى عامر هذا فى قصة الهجرة، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن أبا عامر لما هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، خرجَ إلى مكة ببضعَة عشرَ رجلاً، فلما افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة، خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهلُ الطائف، خرج إلى الشام، فمات بها طريداً وحيداً غريباً، فأين كان الفاسقُ وغزوة تَبُوك ذهاباً وإياباً. فصل [فى أمر مسجد الضِّرار الذى نهى اللهُ رسولَه أن يقومَ فيه، فهدمه صلى الله عليه وسلم] وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوك، حتى نزل بذى أوَان، وبينها وبين المدينة ساعة، وكان أصحابُ مسجد الضِّرار أتَوْه وهو يتجهَّز إلى تَبُوك، فقالوا: يا رسولَ الله ؛ إنَّا قد بنينا مسجداً لِذى العِلَّة والحاجة، واللَّيلة المطيرة الشاتية، وإنَّا نُحِبُّ أن تأتيَنا فتُصَلِّىَ لنا فيه، فقال: ((إنِّى عَلى جَناح سَفَر، وحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنا إنْ شَاءَ اللهُ لأَتَيْنَاكُم فَصَلَّيْنَا لَكُم فيه))، فلما نزل بذى أوانَ جاءه خبرُ المسجد من السماء، فدَعا مالك بن الدُّخْشم أخا بنى سلمة بن عوف، ومَعن بن عدى العجلانى، فقال: ((انطلقا إلى هذا المسجدِ الظالِمِ أهلُه، فاهدِماه، وحرِّقاه، فخرجا مُسرعَين، حتى أتيا بنى سالم بن عوف، وهم رهطُ مالك بن الدُّخشم، فقال مالك لمعن: أنْظِرْنى حتى أخرُج إليك بنارٍ مِن أهلى، ودخل إلى أهله، فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلاه وفيه أهلُه، فحرقاه وهدماه، فتفَرَّقوا عنه، فأنزل الله فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ}[التوبة: 107] . إلى آخر القصة . وذكر ابن إسحاق الذين بنوه، وهم إثنا عشر رجلاً، منهم: ثعلبةُ بن حاطب . وذكر عثمان بن سعيد الدارمى: حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنى معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس فى قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وكُفْراً}، هم أُناس من الأنصار ابتَنوْا مسجداً فقال لهم أبو عامر: ابنُوا مسجدكم، واستمِدُّوا ما استطعتم مِن قوة ومِن سلاح، فإنى ذاهبٌ إلى قَيْصرَ ملكِ الروم، فآتى بجند من الروم، فأُخْرِجُ محمداً وأصحابه، فلما فرغوا مِن مسجدهم، أتوا النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنَّا قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنُحب أن تُصَلِّى فيه، وتدعو بالبركة، فأنزلَ الله عَزَّ وجَلَّ: {لا تَقُمْ فِيهِ أبَداً، لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ } يعنى مسجد قُبَاء {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}[التوبة: 108] إلى قوله: {فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ}[التوبة: 109] يعنى قواعده، {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} يعنى: الشكَ {إلا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} يعنى بالموت |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#6 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
[فى خروج الناس لتلقيه صلى الله عليه وسلم عند مقدمه المدينة] فلما دنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، خرج الناس لتلقيه، وخرج النساءُ والصبيان والولائد يقلن: طَلَـعَ البَــدْرُ عَلَيْنَا *** مِـنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعِ وَجَـبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا *** مَا دَعَــا للهِ دَاعِى وبعضُ الرواة يَهِمُ فى هذا ويقولُ: إنما كان ذلك عند مقدَمِه إلى المدينة من مكةَ، وهو وَهْمٌ ظاهر، لأن ثنياتِ الوداع إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادِمُ من مكة إلى المدينة، ولا يمرُّ بها إلا إذا توجَّه إلى الشام، فلما أشرف على المدينة، قال: ((هذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه)) . فلما دَخلَ قال العباسُ: يا رسول الله؛ ائذن لى أمتدِحك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قل: لا يَفْضُض اللهُ فَاكَ)) فقال: مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فى الظِّلاَلِ وَفِى *** مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرقُ ثُـمَّ هَبَطْتَ البِلادَ لاَ بَشَـرٌ *** أَنْتَ وَلا مُضْغَــةٌ وَلاَ عَـلَقُ بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ *** أَلْجَمَ نَسْــراً وَأَهْلَه الغَـرَقُ تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إلى رَحِـمٍ *** إذَا مَضَى عَالَمٌ بَـدَا طَبَــقُ حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ المُهَيْمِنُ مِن *** خِنْدِفَ عَلْيَا تَحْتَها النُّطُـــقُ وَأَنْتَ لمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الـ *** أرض وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُــقُ فَنَحْنُ فى ذَلِك الضياءِ وَفى النْ *** ـورِ وَسُبْلَ الرَّشَادِ نَخْــتَرِق فصل [فى دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد وصلاة ركعتين وجلوسه للناس، ومجىء المخلَّفين إليه للاعتذار] ولما دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينَة، بدأ بالمسجد فصلَّى فيه ركعتين، ثم جلس للنَّاس، فجاءه المخلَّفون، فطفِقُوا يعتذِرون إليه، ويحلِفُون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، وَوَكَل سَرائِرَهم إلى الله، وجاءه كعبُ بنُ مالك، فلما سلَّم عليه، تبسم تبسُّمَ المُغْضَبِ، ثم قال له: ((تعال)). قال: فجئتُ أمشى حتى جلستُ بين يديه، فقال لى ![]() ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمينَ عن كلامِنا أيُّها الثَّلاثَةُ مِن بين مَنْ تخلَّفَ عنه، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وتغيَّروا لنا، حتى تنكرت لى الأرضُ، فما هى بالتى أعرِفُ، فلبثنا على ذلك خمسينَ ليلةً، فأما صاحباى، فاستكانا وقعدا فى بيوتِهما يَبكيانِ، وأما أنا فكنتُ أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنتُ أخرج، فأشهدُ الصلاةَ مع المسلمين، وأطوفُ فى الأسواق، ولا يُكلِّمنى أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُسَلِّمُ عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول فى نفسى: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام علىَّ أم لا؟ ثم أُصَلِّى قريباً منه، فأسارِقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتى، أقبل إلىَّ، وإذا التفتُّ نحوه، أعرضَ عنى، حتى إذا طالَ علىَّ ذلك مِن جفوة المسلمين، مشيتُ حتى تسوَّرتُ جدار حائط أبى قتادة، وهو ابنُ عمى، وأحبُّ الناسِ إلىَّ، فسلَّمتُ عليه، فواللهِ ما ردَّ علىَّ السلامَ، فقلت: يا أبا قتادة؛ أنشدُك باللهِ، هل تعلَمُنى أُحِبُّ الله ورسولَه صلى الله عليه وسلم؟ فسكت، فعُدت، فناشدتُه، فسكت، فعُدت فناشدتُه، فقال: اللهُ ورَسُولُه أعلمُ، ففاضت عيناى، وتولّيتُ حتَّى تسورتُ الجِدَار. فبينا أنا أمشى بسوق المدينة، إذا نَبَطِى من أنباطِ الشام ممن قَدِمَ بالطعام يَبيعه بالمدينة يقولُ: مَنْ يدُلُّ على كعبِ بْنِ مالك، فطفِقَ الناسُ يُشِيرونَ لهُ حتَّى إذا جاءنى، دفع إلىَّ كتاباً من ملك غَسَّان، فإذا فيه: أما بعدُ.. فإنه بلغنى أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نُواسِك. فَقُلْتُ لما قرأتها: وهذا أيضاً مِن البلاء، فتيممتُ بها التنور، فسجرتُها حتى إذا مضت أربعون ليلةً مِن الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتينى، فقال: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، فقلتُ: أُطلقها أم ماذا؟ قال: لا ولكن اعتزلها ولا تقربْها، وأرسل إلى صاحبىَّ مثل ذلك، فقلتُ لامرأتى: الحقى بأهلك، فكونى عندهم حتى يَقْضِىَ اللهُ فى هذا الأمر، فجاءت امرأةُ هلال بن أُمية، فقالت: يا رسول الله؛ إنَّ هلالَ بنَ أُمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدُمه قال: ((لا ولكـن لا يقرَبُك))، قالت: إنه واللهِ ما بِه حركة إلى شىء، واللهِ ما زال يبكى منذ كان مِن أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لى بعضُ أهلى: لو استأذنتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فى امرأتك كما أذن لامرأة هِلال بن أُمية أن تخدُمه، فقلت: واللهِ لا أستأذِنُ فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وما يُدرينى ما يقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنتُه فيها، وأنا رجل شاب، ولبثتُ بعد ذلك عشرَ ليالٍ حتى كَمُلَت لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صَلَّيتُ صلاةَ الفجر صُبْحَ خمسين ليلةً على سطح بيت من بيوتنا، بينا أنا جالس على الحال التى ذكر الله تعالى، قد ضاقت علىَّ نفسى، وضاقت علىَّ الأرضُ بما رحُبت، سمعتُ صوتَ صارخ أوفى على جبل سَلْعٍ بأعلى صوتِه: يا كعبَ ابنَ مالك؛ أبشر، فخررتُ ساجداً، فعرفتُ أن قد جاء فرجٌ مِن اللهِ، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صَلَّى الفجر، فذهب الناسُ يُبشرونَنا، وذهب قِبَلَ صاحبىَّ مبشرون، وركضَ إلىَّ رجل فرساً، وسعى ساع مِن أسلمَ، فأوفى على ذِرْوة الجبل، وكان الصوتُ أسرعَ مِن الفرس، فلما جاءنى الذى سمعتُ صوته يبشرنى، نزعتُ له ثوبىَّ فكسوتُه إياهما ببُشراه، واللهِ ما أملك غيرهما، واستعرتُ ثوبين، فلبستُهما، فانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقانى الناسُ فوجاً فوجاً يُهنئوننى بالتوبة يقولون: لِيهْنِكَ توبةُ الله عليك، قال كعب: حتى دخلتُ المسجد، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالس حولَه الناس، فقام إلىَّ طلحةُ بنُ عُبيد الله يُهروِلُ حتى صافحنى وهنَّأنى، واللهِ ما قام إلىَّ رجل من المهاجرين غيره، ولستُ أنساها لِطلحة، فلما سلَّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وهو يَبْرُقُ وجهُه من السرور: ((أَبْشِرْ بِخَيْر يَوْم مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ)). قال قلتُ: أمِن عندك يا رسـولَ الله، أم مِن عند الله؟ قال: ((لا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ))، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قِطعةُ قمر، وكنا نعرفُ ذلك منه، فلما جلستُ بين يديه، قلت: يا رسول الله؛ إنَّ مِن توبتى أن أنخلِع مِن مالى صَدَقة إلى الله، وإلى رسوله، فقال: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ))، قلت: فإنى أُمِسكُ سهمى الذى بخَيْبرَ. فقلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ الله إنما نجانى بالصدق، وإنَّ من توبتى ألاَّ أُحَدِّثُ إلا صدقاً ما بقيتُ، فواللهِ ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومى هذا ما أبلانى، واللهِ ما تعمدتُ بعد ذلك إلى يومى هذا كذباً، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقيتُ، فأنزلَ الله تعالى على رسوله: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}[التوبة: 117] إلى قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119]، فواللهِ ما أنعم الله علىَّ نعمة قَطُّ بعد أن هدانى للإسلام، أعظمَ فى نفسى من صدقى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته، فأهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فإن الله قال للذين كذَبُوا حين أنزل الوحى شر ما قال لأحد قال: {سَيَحْلِفُونَ باللهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ}[التوبة:95] إلى قوله: {فَإنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الفَاسِقِينَ}[التوبة: 96]. قال كعب: وكان تخلُّفنا أيُّها الثَّلاثَةُ عن أمر أُولئك الذين قبل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال الله: {وعَلى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ}[التوبة: 118] ، وليس الذى ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه. وقال عثمان بن سعيد الدارمى: حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنى معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس، فى قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً}[التوبة: 102] قال: كانوا عشرةَ رهط تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تَبُوك، فلما حضر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أوثقَ سبعةٌ منهم أنفسَهم بسوارى المسجد، وكان يَمُرُّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم إذا رجع فى المسجد عليهم، فلما رآهم قال: ((مَنْ هؤلاء المُوثِقُون أنْفُسَهُم بالسوارِى))؟ قالوا: هذا أبو لُبابة وأصحابٌ له تخلَّفوا عنك يا رسولَ الله أوثقُوا أنفسَهم حتى يُطلِقَهُم النبى صلى الله عليه وسلم ويعذرهم. قال: ((وأنَا أُقْسِمُ بِاللهِ لا أُطْلِقُهُم وَلاَ أَعْذِرُهم حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِى يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّى وتَخَلَّفُوا عَن الغَزْو مَعَ المُسْلِمِينَ))، فلما بلغهم ذلك، قالوا: ونحن لا نُطْلِقُ أنفسنا حتى يكون اللهُ هـو الذى يُطلقنا، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وعسى من الله واجب {إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. فلما نزلت، أرسل إليهم النبى صلى الله عليه وسلم، فأطلقهم، وعذرهم، فجاؤوا بأموالهم، فقالوا: يا رسول الله؛ هذه أموالنا، فتصدَّق بها عنا، واستغفر لنا، قال: ((ما أُمِرْتُ أنْ آخُذَ أمْوَالَكُم)) فأنزل الله: {خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 103] يقول: استغفر لهم، {إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ فأخذ} مِنهم الصدقة، واستغفر لهم، وكان ثلاثة نَفَر لم يُوثقوا أنفسهم بالسوارى، فأُرجِئوا لا يَدرونَ أيُعذَّبون أم يُتاب عليهم؟ فأنزل الله تعالى: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ والمُهَاجِرِينَ والأَنْصارِ} إلى قَولِه: {وعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ}. إلى قوله: {إنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرًَّحِيمُ} تابعَه عطية ابن سعد. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#7 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
[فى الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد] فمنها: جوازُ القتال فى الشهر الحرام إن كان خروجُه فى رجب محفوظاً على ما قاله ابن إسحاق، ولكن ههنا أمر آخر، وهو أن أهلَ الكتاب لم يكونوا يُحرِّمون الشهرَ الحرام، بخلاف العرب، فإنها كانت تُحرِّمه، وقد تقدَّم أنَّ فى نسخ تحريمِ القتال فيه قولين، وذكرنا حُجَج الفريقين . ومنها: تصريحُ الإمام للرعية، وإعلامُهم بالأمر الذى يضرُّهم سترُه وإخفاؤُه، ليتأهبوا له، ويُعِدُّوا له عُدته، وجوازُ ستر غيره عنهم والكناية عنه للمصلحة. ومنها: أنَّ الإمام إذا استنفر الجيش، لزمهم النفيرُ، ولم يجز لأحد التخلفُ إلا بإذنه، ولا يُشترطُ فى وجوب النفير تعيينُ كلِّ واحد منهم بعينه، بل متى استنفر الجيش، لزم كُلَّ واحد منهم الخروجُ معه، وهذا أحدُ المواضع الثلاثة التى يصير فيها الجهاد فرض عَيْن. والثانى: إذا حضر العدوُّ البلد. والثالث: إذا حضر بين الصفين. ومنها: وجوبُ الجهاد بالمال، كما يجبُ بالنفس، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهى الصوابُ الذى لا ريب فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيقُ الأمر بالجهاد بالنفس فى القرآن وقرينُه، بل جاء مقدَّماً على الجهاد بالنفس فى كُلِّ موضع، إلا موضعاً واحداً، وهذا يدل على أن الجهاد به أهم وآكدُ من الجهاد بالنفس، ولا ريبَ أنه أحدُ الجهادين، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فَقَدْ غَزَا))، فيجب على القادر عليه، كما يجب على القادر بالبدن، ولا يَتِمُّ الجهاد بالبدن إلا ببذله، ولا ينتصر إلا بالعدد والعُدد، فإن لم يقدر أن يكثر العَدد، وجب عليه أن يمد بالمال والعُدة، وإذا وجب الحجُّ بالمال على العاجز بالبدن، فوجوبُ الجهاد بالمال أَوْلى وأَحرى. ومنها: ما برز به عُثمانُ بن عفان من النفقةِ العظيمة فى هذه الغزوة، وسبق به الناس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ((غَفَرَ اللهُ لَكَ يا عُثْمَانُ ما أَسْرَرْتَ، ومَا أَعْلَنْتَ، ومَا أَخْفَيْتَ، وما أبْدَيْتَ)). ثم قال: ((ما ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ اليَوْمِ))، وكان قد أنفق ألفَ دينار، وثلاثمائة بعير بعُدتها وأحلاسها وأقتابِها. ومنها: أن العاجزَ بماله لا يُعذرُ حتى يَبْذُلَ جهده، ويتحقَّقَ عجزُهُ، فإن الله سبحانه إنما نفى الحَرَجَ عن هؤلاء العاجزين بعد أن أتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم، فقال:{لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}، فرجعوا يبكون لما فاتهم من الجهاد، فهذا العاجز الذى لا حَرَج عليه. ومنها: استخلافُ الإمام إذا سافر رجلاً من الرعية على الضعفاء، والمعذورين، والنساء، والذُرِّية، ويكون نائبه مِن المجاهدين، لأنه من أكبر العون لهم. وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يستخلِف ابنَ أُمِّ مكتوم، فاستخلفه بضعَ عشرة مرة، وأما فى غزوة تَبُوك. فالمعروفُ عند أهل الأثر أنه استخلف علىَّ ابن أبى طالب، كما فى ((الصحيحين)) عن سعد بن أبى وقاص، قال: خلَّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علياً رضى الله عنه فى غزوة تَبُوك، فقال: يا رسول الله؛ تُخَلِّفُنى مَعَ النساءِ والصبيان، فقال: ((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى)). ولكن هذه كانت خلافةً خاصة على أهله صلى الله عليه وسلم، وأما الاستخلافُ العام، فكان لمحمد بن مسلمة الأنصارى، ويدل على هذا أن المنافقين لما أرجفُوا به، وقالوا: خلَّفه استثقالاً، أخذ سلاحه ثم لحق بالنبى صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: ((كَذَبُوا، ولكِـنْ خَلَّفْتُكَ لِما تَرَكْتُ وَرائى، فارْجعْ فاخْلُفْنى فى أَهْلى وَأَهْلِكَ)). ومنها: جواز الخَرْصِ للرُّطَبِ على رؤوس النخل، وأنه من الشرع، والعمل بقول الخارص، وقد تقدَّم فى غزاة خَيْبَر، وأن الإمام يجوز أن يخرِصَ بنفسه، كما خرصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديقة المرأة. ومنها أنَّ الماء الذى بآبار ثمود، لا يجوز شُربه، ولا الطبخُ منه، ولا العجينُ به، ولا الطهارةُ به، ويجوز أن يُسقى البهائم إلا ما كان من بئر الناقة. وكانت معلومةً باقية إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استمر عِلْمُ الناسِ بها قرناً بعد قرن إلى وقتنا هذا، فلا يرِدُ الركوبُ بئراً غيرها، وهى مطويَّةٌ محكمة البناء، واسعة الأرجاء، آثار العِتق عليها بادية، لا تشتبِه بغيرها. ومنها: أنَّ مَن مرَّ بديار المغضوب عليهم والمعذَّبين، لم ينبغ له أن يدخُلَها، ولا يُقيم بها، بل يُسرع السير، ويتقنَّع بثوبه حتى يُجاوِزَها، ولا يدخل عليهم إلا باكياً معتبراً. ومن هذا إسراعُ النبى صلى الله عليه وسلم السير فى وادى مُحَسِّر بين مِنَى وعَرَفة، فإنه المكانُ الذى أهلك الله فيه الفيلَ وأصحابه. ومنها: أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم كان يجمعُ بين الصلاتين فى السفر، وقد جاء جمعُ التقديم فى هذه القصة فى حديث معاذ، كما تقدَّم، وذكرنا عِلَّة الحديث. ومَن أنكره، ولم يجئ جمع التقديم عنه فى سفر إلا هذا، وصح عنه جمعُ التقديمِ بعَرَفة قبل دخوله إلى عَرَفة، فإنه جَمَعَ بين الظهر والعصر فى وقت الظهر، فقيل: ذلك لأجل النُّسُك، كما قال أبو حنيفة. وقيل: لأجل السفر الطويل، كما قاله الشافعى وأحمد. وقيل: لأجل الشغل، وهو اشتغالُه بالوقوف، واتصالُه إلى غروب الشمس. قال أحمد: يجمع للشغل، وهو قول جماعة من السَّلَف والخَلَف، وقد تقدَّم. ومنها: جوازُ التَّيَمُم بالرمل، فإن النبى صلى الله عليه وسلم وأَصحابَه، قطعوا الرمال التى بين المدينة وتَبُوك، ولم يحملوا معهم تراباً بلا شك، وتلك مفاوز مُعْطِشة شكوا فيها العطشَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطعاً كانوا يتيممون بالأرض التى هم فيها نازلون، هذا كُلُّه مما لا شك فيه مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِى الصَّلاةُ، فَعِنْدَهُ مَسْجِدُه وَطَهُورُه)). ومنها: أنَّه صلى الله عليه وسلم أقام بتَبُوك عشرين يوماً يَقْصُر الصلاة، ولم يَقل للأُمَّة: لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثرَ من ذلك، ولكن اتفقت إقامتُه هذه المدة، وهذه الإقامة فى حال السفر لا تخرج عن حكم السفر، سواءٌ طالت أو قصرت إذا كان غيرَ مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع. وقد اختلف السَّلَفُ والخَلَف فى ذلك اختلافاً كثيراً، ففى ((صحيح البخارى)) عن ابن عباس، قال: أقامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره تسعَ عشرةَ يُصلِّى ركعتين، فنحن إذا أقمْنا تِسْعَ عشرةَ نُصَلِّى ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا، وظاهرُ كلام أحمد أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمنَ الفتح، فإنه قال: أقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمكة ثمان عشرة زمنَ الفتح، لأنه أراد حُنَيْناً، ولم يكن ثَمَّ أجمعَ المُقام، وهذه إقامته التى رواها ابنُ عباس. وقال غيرُه: بل أراد ابنُ عباس مقامه بتَبُوك، كما قال جابر بن عبد الله: أقام النبىُّ صلى الله عليه وسلم بتَبُوك عشرينَ يوماً يقصُر الصلاة، رواه الإمام أحمد فى ((مسنده)). وقال عبد الرحمن بن المِسور بن مَخْرَمَة: أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصُرُها سعد ونُتِمُّها. وقال نافعُ: أقام ابنُ عمر بأذَربيجَانَ ستةَ أشهر يُصَلِّى ركعتين، وقد حال الثلجُ بينه وبين الدخول. وقال حفصُ بن عُبيد الله: أقام أنسُ بنُ مالك بالشام سنتين يُصَلِّى صلاةَ المسافر. وقال أنسُ: أقام أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِرَامَهُرْمُزَ سَبعة أشهر يقصُرون الصلاة. وقال الحسن: أقمتُ مع عبد الرحمن بن سَمُرة بكابُل سنتينِ يقصرُ الصلاة ولا يجمع. وقال إبراهيم: كانوا يُقيمون بالرَّىِّ السنة، وأكثر من ذلك، وسجستان السنتين. فهذا هَدْى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى، وهو الصوابُ. وأما مذاهبُ الناس، فقال الإمام أحمد: إذا نوى إقامةَ أربعة أيام، أتم، وإن نوى دونها، قصر، وحمل هذه الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُجمعوا الإقامة ألبتة، بل كانوا يقُولون: اليوم نخرج، غداً نخرج. وفى هذا نظر لا يخفى، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهى ما هى، وأقام فيها يُؤسِّسُ قواعِدَ الإسلام، ويهدِمُ قواعِدَ الشِّرك، ويُمهِّد أمر ما حولها مِن العرب، ومعلوم قطعاً أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام لا يتأتَّى فى يوم واحد، ولا يومين، وكذلك إقامتُه بتَبُوك، فإنه أقام ينتظر العدو، ومن المعلوم قطعاً، أنه كان بينه وبينهم عِدَّةُ مراحل يحتاج قطعها إلى أيام، وهو يعلم أنهم لا يُوافون فى أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصُر الصلاة من أجل الثلج، ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحللُ ويذوب فى أربعة أيام، بحيث تنفتح الطُّرُق، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصُر، وإقامةُ الصحابة بِرَامَهُرْمُزَ سبعة أشهر يقصُرون، ومن المعلوم أن مثل هذا الحِصار والجهاد يُعلَم أنه لا ينقضى فى أربعة أيام. وقد قال أصحاب أحمد: إنه لو أقام لجهاد عدو، أو حبس سلطان، أو مرض، قصر، سواء غلب على ظنِّه انقضاءُ الحاجة فى مدة يسيرة أو طويلة، وهذا هو الصواب، لكن شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب، ولا سُـنَّة، ولا إجماع، ولا عمل الصحابة. فقالُوا: شرط ذلك احتمالُ انقضاء حاجته فى المدة التى لا تقطع حكم السفر، وهى ما دُون الأربعة الأيام، فيقال: من أين لكم هذا الشرط، والنبىُّ لما أقام زيادة على أربعة أيام يقصُر الصلاة بمكة وتَبُوك لم يقل لهم شَيْئاً، ولم يُبين لهم أنه لم يَعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وهو يعلمُ أنهم يقتدون به فى صلاته، ويتأسَّوْنَ به فى قصرها فى مدة إقامته، فلم يقل لهم حرفاً واحداً: لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، وبيان هذا مِن أهم المهمات، وكذلك اقتداءُ الصحابة به بعدَه، ولم يقولوُا لمن صَلَّى معهم شيئاً من ذلك. وقال مالك والشافعى: إنْ نوى إقامةَ أكثرَ مِن أربعة أيام أتمَّ، وإن نوى دونها قصر. وقال أبو حنيفة: إنْ نوى إقامة خمسة عشر يوماً أتمَّ، وإن نوى دونها قصر، وهو مذهب الليث بنِ سعد، ورُوى عن ثلاثة من الصحابة: عمر، وابنه، وابن عباس. وقال سعيد بن المسيِّب: إذا أقمتَ أربعاً فصَلِّ أربعاً، وعنه: كقول أبى حنيفة. وقال علىُّ بن أبى طالب: إنْ أقامَ عشراً، أتمَّ، وهو روايةٌ عن ابن عباس. وقال الحسن: يقصُر ما لم يقدَم مصراً. وقالت عائشةُ: يقصُر ما لم يضع الزاد والمزاد. والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً، إلا الشافعىّ فى أحد قوليه، فإنه يقصُر عنده إلى سبعة عشر، أو ثمانية عشر يوماً، ولا يقصُر بعدها. وقد قال ابن المنذر فى ((إشرافه)): أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يُجْمِع إقامة وإن أتى عليه سنون. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#8 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
[فى جواز حِنث الحَالف فى يمينه إذا رأى غيرها خيراً منها] ومنها: جوازُ بلِ استحبابُ حِنْث الحالف فى يمينه إذا رأى غيرَها خيراً منها، فيكفِّرُ عن يمينه، ويفعلُ الذى هو خير، وإن شاء قدَّم الكَفَّارة على الحِـنث، وإن شاء أخَّرها، وقد رُوى حديث أبى موسى هذا: ((إلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ أَخْيَرُ، وتحلَّلتُها))، وفى لفظ: ((إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى وَأَتَيْتُ الَّذِى هُوَ أَخْيَرُ))، وفى لفظ: ((إلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى))، وكلُّ هذه الألفاظ فى ((الصحيحين))، وهى تقتضى عدم الترتيب. وفى السنن من حديث عبد الرحمن بن سمرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم: ((إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا،. فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذى هُوَ خَيْرٌ)). وأصله فى ((الصحيحين))، فذهب أحمد، ومالك، والشافعى إلى جواز تقديم الكَفَّارة على الحِنث، واستثنى الشافعىُّ التكفيرَ بالصوم، فقال: لا يجوزُ التقديمُ، ومنع أبو حنيفة تقديمَ الكفَّارة مطلقاً. فصل [فى انعقاد اليمين فى حال الغضب إذا لم يَبلغ به حد الإغلاق] ومنها: انعقادُ اليمين فى حال الغضب إذا لم يَخْرُج بصحابه إلى حد لا يعلم معه ما يقول، وكذلك ينفُذ حكمه، وتَصِحُّ عقُودُه، فلو بلغ به الغضبُ إلى حد الإغلاق، لم تنعقِدْ يمينه ولا طلاقه. قال أحمد فى رواية حنبل فى حديث عائشة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا طَلاَقَ وَلا عَتَاقَ فى إغْلاَقٍ))، يريد الغضبَ. فصل [فى أنه لا متعلق للجبرىِّ فى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أنا حملتُكم، ولكن الله حملَكم)] ومنها: قولُه صلى الله عليه وسلم : ((ما أنا حملتُكم، ولكن الله حملَكم))، قد يتعلق به الجبرىُّ، ولا متعلق له به، وإنما هذا مثل قوله: ((واللهِ لا أُعْطى أحَداً شَيْئاً، ولا أَمْنَعُ، وإنَّما أَنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ))، فإنه عبد الله ورسوله، إنما يتصرف بالأمر، فإذا أُمِرَه ربه بشىءٍ، نفذه، فالله هو المعطى، والمانع، والحامل، والرسول منفذ لما أمر به. وأما قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}[الأنفال: 17] ، فالمرادُ به القبضةُ من الحصباء التى رمى بها وجوهَ المشركين، فوصلَت إلى عُيون جميعهم، فأثبتَ اللهُ سبحانه له الرمىَ باعتبار النبذِ والإلقاء، فإنه فعله، ونفاه عنه باعتبار الإيصال إلى جميع المشركين، وهذا فعلُ الرب تعالى لا تَصِلُ إليه قُدْرَةُ العبد، والرمىُ يُطلق على الخَذف وهو مبدؤه، وعلى الإيصال، وهو نهايتُه. فصل [فى تركه صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين] ومنها: تركُه قتل المنافقين، وقد بلغه عنهم الكفرُ الصـريحُ، فاحتج به مَن قال: لا يُقْتَلُ الزنديق إذا أظهر التوبة، لأنهم حـلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ما قالوا، وهذا إذا لم يكن إنكاراً، فهو توبة وإقلاع، وقد قال أصحابُنا وغيرهم:ومَن شُهِدَ عليه بالرِّدَّةِ، فشهد أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، لم يكشف عن شىء عنه بعد، وقال بعض الفقهاء: إذا جحد الرِّدَّة، كفاه جحدها. ومَن لم يقبل توبة الزنديق، قال: هؤلاء لم تَقُمْ عليهم بيِّنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكمُ عليهم بعلمه، والذى بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم قولَهم لم يبلِّغه إياه نصـابُ البيِّنة، بل شهد به عليهم واحد فقط، كما شـهد زيدُ ابن أرقم وحدَه على عبد الله بن أُبَىّ، وكذلك غيرُه أيضاً، إنما شـهد عليه واحد. وفى هذا الجواب نظر، فإن نفاق عبد الله بن أُبَىّ، وأقوالَه فى النفاق كانت كـثيرةً جداً، كالمتواترة عند النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبعضهم أقرَّ بلسانه، وقال: ((إنما كنا نخوضُ ونلعب))، وقد واجهه بعضُُ الخوارج فى وجهه بقوله: إنَّك لم تَعْدِلْ. والنبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له: ألا تقتلهم؟ لم يقل ما قامت عليهم بيِّنةٌ، بل قال: ((لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابَه)). فالجوابُ الصحيح إذن: أنه كان فى ترك قتلهم فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم مصلحة تتضمن تأليفَ القلوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع كلمة الناس عليه، وكان فى قتلهم تنفيرٌ، والإسلام بعدُ فى غُربة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحرصُ شىْءٍ على تأليف الناسِ، وأتركُ شىْء لما يُنَفِّرُهم عن الدخول فى طاعته، وهذا أمر كان يختصُّ بحال حياته صلى الله عليه وسلم، وكذلك تركُ قتل مَن طعن عليه فى حكمه بقوله فى قصة الزُّبير وخصمه: أنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. وفى قسمه بقوله: إنَّ هذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ. وقول الآخر له: إنك لم تعدِل، فإنَّ هذا محضُ حقه، له أن يستوفِيَه، وله أن يترُكَه، وليس للأُمة بعده تركُ استيفاء حقِّه، بل يتعينُ عليهم استيفاؤه، ولا بُدَّ، ولتقرير هذه المسائل موضع آخر، والغرضُ التنبيه والإشارة. [فوائد أخرى لغزوة تبوك] فصل [فى انتقاض عهد أهل العهد والذِّمَّة إذا أحدثوا حَدَثاً] ومنها: أن أهلَ العهد والذِّمَّة إذا أحدث أحد منهم حَدَثاً فيه ضرر على الإسلام، انتقضَ عهدُه فى ماله ونفسه، وأنه إذا لم يقدر عليه الإمام، فدمُه وماله هدر، وهو لمن أخذه، كما قال فى صلح أهل أيلة: فمَن أحدث منهم حَدَثاً، فإنه لا يحول مالُه دون نفسه، وهو لمن أخذه من الناس، وهذا لأنه بالإحداث صار محارباً، حكمه حكم أهل الحرب. فصل [فى جواز الدفن ليلاً] ومنها: جواز الدفن بالليل، كما دفن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذا البِجادين ليلاً، وقد سُئل أحمد عنه، فقال: وما بأسٌ بذلك. وقال: أبُو بكر دُفِنَ ليلاً، وعلىّ دفن فاطمة ليلاً. وقالت عائشة: سمعنا صوتَ المساحِى من آخِر الليل فى دفن النبى صلى الله عليه وسلم.. انتهى. ودفن عُثمان، وعائشةُ، وابنُ مسعود ليلاً. وفى الترمذى عن ابن عباس، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم دخل قبراً ليلاً، فأُسْرِجَ له سِراج، فأخذه من قِبَل القِبْلة، وقال: ((رحمك الله؛ إن كُنْتَ لأَوَّاهَاً تَلاءً لِلْقُرآن)). قال الترمذى: حديث حسن. وفى البخارى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن رجل فقال: ((مَنْ هذَا))؟ قالُوا: فُلانٌ دُفِنَ البَارِحَةَ؛ فَصَلَّى عَلَيْهِ. فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم فى ((صحيحه)) أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم خطب يوماً، فذكر رجلاً مِن أصحابِه قُبضَ فَكُفِّن فى كَفَنٍ غَيْرِ طَائِل، وَقُبِرَ لَيْلاً، فزجَرَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُقَبَرَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ حتَّى يُصَلَّى عليه إلا أَنْ يُضطرَّ إنْسَانٌ إلَى ذلِكَ؟ قال الإمام أحمد: إليه أذهب. قيل: نقول بالحديثين بحمد اللهِ، ولا نرُدُّ أحدَهما بالآخر، فنكره الدفنَ بالليل، بل نزجُر عنه إلا لضرورة أو مصلحة راجحة، كميت مات مع المسافرين بالليل، ويتضرَّرون بالإقامة به إلى النهار، وكما إذا خِيف على الميت الانفجارُ، ونحو ذلك من الأسباب المرجحة للدفن ليلاً.. وبالله التوفيق. فصل [فى أن الإمام إذا بعث سَرِيَّة، فغَنِمَت غنيمة أو أسرت أسيراً أو فتحت حصناً، كان ما حصل من ذلك لها بعد تخميسه] ومنها: أن الإمام إذا بعث سَرِيَّةً، فغنِمَت غنيمة، أو أسرت أسيراً، أو فتحت حِصناً، كان ما حصل من ذلك لها بعد تخميسه، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قسم ما صالح عليه أُكَيْدِر من فتح دُومة الجندل بين السريَّة الذين بعثهم مع خالد، وكانوا أربعمائة وعشرين فارساً، وكانت غنائِمُهم ألفى بعير وثمانمائة رأس، فأصاب كُلَّ رجل منهم خمسُ فرائض، وهذا بخلاف ما إذا أخرجت السريةُ من الجيش فى حال الغزو، فأصابت ذلك بقوة الجيش، فإن ما أصابُوا يكون غنيمة للجميع بعد الخُمُس والنَّفلَ، وهذا كان هَدْيه صلى الله عليه وسلم. فصل [فى أن الجهاد يكون بالقلب، واللِّسان، والمال، والبدن] ومنها: قولُه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ بالمَدِينَةِ أقْواماً مَا سِرْتُمْ مَسيراً، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم))، فهذه المعية هى بقلوبهم وهممهم، لا كما يظنه طائفة من الجُهَّال أنهم معهم بأبدانهم، فهذا محال، لأنهم قالوا له: وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة حَبَسَهُمُ العُذْرُ))، وكانوا معه بأرواحهم، وبدار الهجرة بأشباحهم، وهذا مِن الجهاد بالقلب، وهو أحد مراتبه الأربع، وهى القلب، واللِّسان، والمال، والبدن. وفى الحديث: ((جَاهِدُوا المُشْرِكينَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَقُلُوبِكُم وأَمْوالِكُم)). فصل [فى تحريق أمكنة المعصية] ومنها: تحريقُ أمكنة المعصية التى يُعصى اللهُ ورسولُه فيها وهدمُها، كما حرقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضِّرار، وأمر بهدمه، وهو مسجدٌ يُصلَّى فيه، ويُذكر اسمُ الله فيه، لما كان بناؤه ضِراراً وتفريقاً بين المؤمنينَ، ومأوى للمنافقين، وكُلُّ مكان هذا شأنه، فواجب على الإمام تعطيلُه، إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وُضِعَ له. وإذا كان هذا شأنَ مسجد الضِّرارِ، فمشاهِدُ الشِّرْكِ التى تدعو سدنتُها إلِى اتخاذ مَنْ فيها أنداداً من دون الله أحقُّ بالهدمِ وأوجب، وكذلك محالُّ المعاصى والفسوق، كالحانات، وبُيوت الخمَّارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمرُ بن الخطاب قريةً بكمالها يُباع فيها الخمر، وحرق حانوت رُويشد الثقفى وسماه فويسقاً، وحرق قصرَ سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية، وهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تَاركى حضور الجماعة والجُمُعة، وإنما منعه مَن فيها من النساء والذُرِّية الذين لا تجبُ عليهم كما أخبر هو عن ذلك. ومنها: أن الوقف لا يصح على غير برٍّ ولا قُربة، كما لم يصحَّ وقفُ هذا المسجد، وعلى هذا: فيُهدم المسجد إذا بُنى على قبر، كما يُنبش الميتُ إذا دُفِنَ فى المسجد، نص على ذلك الإمام أحمد وغيرُه، فلا يجتمع فى دين الإسلام مسجدٌ وقبر، بل أيُّهما طرأ على الآخـر. منع منه، وكان الحكم لِلسابق، فلو وُضِعا معاً، لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا تَصِحُّ الصلاة فى هذا المسجد لنهى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعنه مَن اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً، فهذا دينُ الإسلام الذى بعث الله به رسوله ونبيه، وغربتُه بينَ الناس كما ترى. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#9 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
فى جواز إنشاد الشِّعر للقادم فرحاً وسروراً به ومنها: جواز إنشادِ الشِّعر للقادم فرحاً وسروراً به ما لم يكن معه مُحرَّم من لهو، كمزمار، وشبابة، وعود، ولم يكن غناءً يتضمن رُقية الفواحش، وما حرَّم الله، فهذا لا يُحَرِّمُه أحد، وتَعَلُّقُ أربابِ السماع الفِسقى به كتعلق مَن يستحِلُّ شُربَ الخمر المسكر قياساً على أكل العنب، وشرب العصير الذى لا يُسْكِر، ونحو هذا من القياسات التى تشبه قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا. ومنها: استماعُ النبى صلى الله عليه وسلم مدحَ المادحين له، وتركُ الإنكار عليهم، ولا يَصِحُّ قياسُ غيره عليه فى هذا، لما بين المادحين والممدوحين من الفروق، وقد قال: ((احْثُوا فى وُجُوه المَدَّاحِينَ التُّرابَ)). ومنها: ما اشتملت عليه قصةُ الثلاثة الذين خُلِّفُوا مِن الحِكَم والفوائد الجمَّة، فنشيرُ إلى بعضُها: فمنها: جوازُ إخبار الرجل عن تفريطه وتقصِيرِه فى طاعة الله ورسوله، وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمرُه، وفى ذلك مِن التحذير والنصيحة، وبيانِ طُرُقِ الخير والشر، وما يترتب عليها ما هو من أهم الأُمور. ومنها: جوازُ مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع. ومنها: تسلية الإنسان نفسَه عما لم يُقدَّر له من الخير بِما قُدِّر له مِن نظيره أو خير منه. ومنها: أن بَيْعةَ العَقَبَةِ كانت مِن أفضل مشاهد الصحابة، حتى إن كعباً كان لا يراها دونَ مشهد بدر. ومنها: أن الإمام إذا رأى المصلحة فى أن يستر عن رعيته بعضَ ما يهم به ويقصِدُه من العدو، ويُورِّى به عنه، استُحِبَّ له ذلك، أو يتعين بحسب المصلحة. ومنها أن السِّترَ والكِتمان إذا تضمن مفسدة، لم يجز. ومنها: أن الجيشَ فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم دِيوان، وأول مَن دوَّن الدِّيوان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهذا مِن سُـنَّته التى أمر النبى صلى الله عليه وسلم باتباعها، وظهرت مصلحتُها، وحاجةُ المسلمين إليها. ومنها: أن الرجلَ إذا حضرت له فُرصةُ القُربة والطاعة، فالحزمُ كُلُّ الحزم فى انتهازها، والمبادرة إليها، والعجزُ فى تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعةُ الانتقاض قلَّما ثبتت، والله سُبحانه يُعاقب مَنْ فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يُمكنه بعد من إرادته عقوبةً له، فمن لم يَستَجِبْ للهِ ورسوله إذا دعاه، حالَ بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابةُ بعد ذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}[الأنفال: 24]، وقد صرَّح الله سبحانه بهذا فى قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الأنعام: 110] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف: 5] . وقال: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}[التوبة: 115] وهو كثير فى القرآن. ومنها: أنه لم يكن يتخلَّفُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحد رجال ثلاثة: إما مغموصٌ عليه فى النفاق، أو رجلٌ من أهل الأعذار، أو من خلَّفَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واستعمله على المدينة، أو خَلَّفه لمصلحة. ومنها: أن الإمام والمطاعَ لا ينبغى له أن يُهمِلَ مَنْ تخلَّفَ عنه فى بعض الأُمور، بل يُذكِّره ليراجع الطاعة ويتوب، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال بتبوك: ((مَا فَعَلَ كَعْب))؟ ولم يذكر سِواه من المخلَّفين استصلاحاً له، ومُرعاةً وإهمالاً للقوم المنافقين. ومنها: جوازُ الطعنِ فى الرجل بما يغلِبُ على اجتهادِ الطاعن حميةً، أو ذبّاً عن الله ورسوله، ومن هذا طعنُ أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعنُ ورثة الأنبياء وأهل السُّـنَّة فى أهل الأهواء والبِدَع للهِ لا لحظوظهم وأغراضهم. ومنها: جوازُ الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الرادِّ أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذى طعن فى كعب: بئس ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلاَّ خيراً، ولم يُنْكِرْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على واحد منهما. ومنها: أن السُّـنَّة للقادم من السفر أن يدخل البلَد على وضوء، وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته، فيُصَلِّى فيه ركعتين، ثم يجلس للمسلِّمين عليه، ثم ينصرفُ إلى أهله. ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية مَن أظهر الإسلام من المنافقين، ويَكِلُ سريرته إلى الله، ويُجرى عليه حكم الظاهر، ولا يُعاقبه بما لم يعلم مِن سِرِّه. ومنها: تركُ الإمام والحاكم ردَّ السلام على مَن أحدث حَدَثاً تأديباً له، وزجراً لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُنقل أنه رَدَّ على كعب، بل قابل سلامه بتبسم المُغْضَبِ. ومنها: أن التبسم قد يكون عن الغضب، كما يكون عن التعجب والسرور، فإن كلاّ منهما يُوجب انبساط دمِ القلب وثورانه، ولهذا تظهر حمرةُ الوجه لسرعة ثورانِ الدم فيه، فينشأ عن ذلك السرور، والغضب تعجُّبٌ يتبعهُ ضحك وتبسم، فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه فى وجهه، ولا سيما عند المَعتَبَةِ كما قيل: إذا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَة *** فَلا تَظُّنَّنَّ أنَّ اللَّيْثَ مُبْتَسِمُ ومنها: معاتبةُ الإمام والمطاع أصحابه، ومَن يعز عليه، ويَكْرُم عليه، فإنه عاتَب الثلاثة دونَ سائِر مَنْ تخلَّف عنه، وقد أكثر الناسُ من مدح عتاب الأحبة، واستلذاذه، والسرور به، فكيف بعتاب أحبِّ الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه، ولله ما كان أحلى ذلك العتاب، وما أعظم ثمرتَه، وأجلَّ فائدتَه، ولله ما نال به الثلاثةُ مِن أنواع المسرَّات، وحلاوةِ الرضى، وخِلَعِ القبول. ومنها: توفيقُ اللهِ لكعب وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصدق، ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق، فصلُحت عاجلتهم، وفسدت عاقبتهُم كلَّ الفساد، والصادقون تعبوا فى العاجلة بعضَ التعب، فأعقبهم صلاح العاقبة، والفلاح كُلَّ الفلاح، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة، فمراراتُ المبادى حلاوات فى العواقب، وحلاوات المبادى مرارات فى العواقب. وقول النبىِّ صلى الله عليه وسلم لكعب: ((أما هذا، فقد صدق))، دليلٌ ظاهر فى التمسك بمفهوم اللَّقب عند قيام قرينة تقتضى تخصيص المذكور بالحكم، كقوله تعالى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}[الأنبياء: 78-79] ، وقوله صـلى الله عليه وسلم: ((جُعِلت لى الأرضُ مسجداً وتُرْبَتُها طهوراً))، وقوله فى هذا الحديث: ((أما هذا فقد صدق))، وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم. وقول كعب: هل لقى هذا معى أحد؟ فقالوا: نعم، مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية، فيه أن الرجل ينبغى له أن يردَّ حرَّ المصيبة بروح التأسى بمن لقى مثل ما لقى، وقد أرشد سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ، إنْ تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104] ، وهذا هو الروح الذى منعه الله سبحانه أهلَ النارِ فيها بقوله: {وَلَن يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] وقوله: ((فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدراً لى فيهما أُسوة)) هذا الموضع مما عُدَّ من أوهام الزُّهْرى، فإنه لا يُحفظ عن أحد من أهل المغازى والسير البتة ذِكرُ هذين الرجلين فى أهل بدر، لا ابن إسحاق ولا موسى ابن عقبة، ولا الأموى، ولا الواقدى، ولا أحد ممن عدَّ أهل بدر، وكذلك ينبغى ألاَّ يكونا من أهل بدر، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لمْ يَهْجُرْ حاطباً، ولا عاقبه وقد جسَّ عليه، وقال لعمر لما هَمَّ بقتله: ((وما يُدريكَ أن الله اطلع على أَهْلِ بدرٍ فقال: اعملوا ما شِئتُم فقد غفرتُ لكم))، وأين ذنبُ التخلف من ذنب الجسِّ. قال أبو الفرج بن الجوزى: ولم أزل حريصاً على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيتُ أبا بكر الأثرم قد ذكر الزُّهْرى، وذكر فضله وحفظه وإتقانه، وأنه لا يكاد يُحفظ عليه غلط إلا فى هذا الموضع، فإنه قال: إن مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية شهدا بدراً، وهذا لم يقله أحدٌ غيره، والغلط لا يُعصم منه إنسان. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#10 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
فى أنَّ مَن أحبه اللهُ تعالى أدَّبه فى الدنيا على أدنى زَلَّة وفى نهى النبىِّ صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر مَن تخلَّف عنه دليلٌ على صدقهم وكذب الباقين، فأراد هجرَ الصادقين وتأديبَهم على هذا الذنب، وأما المنافِقون، فجُرمهم أعظمُ من أن يُقابَل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل فى مرض النفاق، ولا فائدةَ فيه، وهكذا يفعلُ الرب سبحانه بعباده فى عقوبات جرائمهم، فيؤدِّبُ عبده المؤمن الذى يحبُه وهو كريم عنده بأدنى زَلَّة وهفوة، فلا يزال مستيقظاً حَذِراً، وأما مَن سقط من عينه وهان عليه، فإنه يُخلَى بينَه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنباً أحدث له نِعمة، والمغرورُ يظن أن ذلك مِن كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عينُ الإهانة، وأنه يُريد به العذابَ الشديد، والعقوبةَ التى لا عاقبة معها، كما فى الحديث المشهور: ((إذَا أرَادَ اللهُ بَعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فى الدُّنْيَا، وإذَا أرادَ بِعَبْدٍ شَراً، أَمْسَكَ عَنْهُ عُقُوبَتَهُ فى الدُّنْيَا، فَيَرِدُ يَوْمَ القِيَامَة بذُنُوبِه)). وفيه دليل أيضاً على هِجران الإمام، والعالمِ، والمطاعِ لمن فعل ما يستوجِبُ العَتب، ويكون هِجرانه دواء له بحيث لا يضعُف عن حصولِ الشفاء به، ولا يزيدُ فى الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المرادُ تأديبُه لا إتلافُه. وقوله: ((حتى تنكرت لى الأرض، فما هِىَ بالتى أعرِفُ)) هذا التنكرُ يجده الخائفُ والحزينُ والمهمومُ فى الأرض، وفى الشجر، والنبات حتى يجدَه فيمن لا يُعلم حاله من الناس، ويجده أيضاً المذنبُ العاصى بحسب جُرمه حتى فى خُلُقِ زوجته وولده، وخادمه ودابته، ويَجِدُه فى نفسه أيضاً، فتتنكر له نفسُه حتى ما كأنَّه هو، ولا كأنَّ أهلَه وأصحابَه، ومَن يُشْفِقُ عليه بالَّذِينَ يعرِفُهم، وهذا سر من الله لا يخفى إلا على مَن هو ميتُ القلب، وعلى حسب حياة القلب، يكون إدراكُ هذا التنكر والوحشة. وما لجرح بميت إيلام. ومن المعلوم، أن هذا التنكرَ والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم، ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به، وهكذا القلبُ إذا استحكم مرضُه، واشتد ألـمُه بالذنوب والإجرام، لم يجد هذه الوحشة والتنكر، ولم يحس بها، وهذه علامةُ الشقاوة، وأنه قد أيسَ من عافية هذا المرض، وأعيا الأطباء شِفاؤه، والخوفُ والهمُّ مع الريبة، والأمنُ والسرورُ مع البراءةِ مِن الذنب. فَمَا فى الأرْضِ أَشْجَعُ مِنْ بَرِىءٍ *** وَلا فى الأرْضِ أخْوَفُ مِنْ مُرِيبِ وهذا القدرُ قد ينتفع به المؤمنُ البَصيرُ إذا ابتُلِىَ به ثم راجع، فإنه ينتفع به نفعاً عظيماً مِن وجوه عديدة تفوتُ الحصرَ، ولو لم يكن منها إلا استثمارُه من ذلك أعلام النبوة، وذوقُه نفس ما أخبر به الرسولُ فيصير تصديقه ضرورياً عنده، ويصيرُ ما ناله مِن الشر بمعاصيه، ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذوقية التى لا تتطرقُ إليها الاحتمالات، وهذا كمن أخبرك أن فى هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيتَ وكيتَ على التفصيل، فخالفته وسلكتها، فرأيتَ عَيْن ما أخبرَكَ به، فإنك تَشْهَدُ صِدقَه فى نفس خِلافك لهُ، وأما إذا سلكت طريقَ الأمن وحدها، ولم تجد من تلك المخاوف شيئاً، فإنه وإن شهد صدق المخبر بما ناله من الخير والظفر مفصلاً، فإن علمه بتلك يكون مجملاً. فصل فى جواز هجر المسلم إذا أثم ومنها: أن هلال بنَ أُمية ومرارة قعدا فى بيوتهما، وكانا يُصلِّيان فى بيوتهما، ولا يحضُران الجماعة، وهذا يدل على أن هِجران المسلمين للرجل عذر يُبيح له التخلف عن الجماعة، أو يقال: من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين، لكن يقال: فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبى صلى الله عليه وسلم، ولا عتب عليهما على التخلف، وعلى هذا فيُقال: لما أُمِرَ المسلمون بهجرهم تُركوا: لم يُؤمروا، ولم يُنهوا، ولم يُكلَّموا، فكان مَن حضر منهم الجماعة لم يُمنع، ومَن تركها لم يُكلَّم، أو يقال: لعلهما ضَعُفَا وعَجَزا عن الخروج، ولهذا قال كعب: وكنتُ أنا أجلدَ القوم وأشبَّهم، فكنتُ أخرج فأشهدُ الصلاة مع المسلمين. وقوله: ((وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُسلِّم عليه، وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول: هل حرَّك شفتيه برد السلام علىَّ أم لا))؟ فيه دليل على أن الرد على مَن يستحق الهجرَ غيرُ واجب، إذ لو وجب الرد لم يكن بُد من إسماعه. وقوله: ((حتى إذا طال ذلك علىَّ، تسورتُ جدار حائط أبى قتادة))، فيه دليل على دخول الإنسان دارَ صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك، وإن لم يستأذِنْه. وفى قول أبى قتادة له: ((الله ورسوله أعلم))، دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له، فلو حلف لا يُكلِّمه، فقال مثلَ هذا الكلام جواباً له لم يحنث، ولا سيما إذا لم ينو به مكالمته، وهو الظاهر من حال أبى قتادة. وفى إشارة الناس إلى النَّبطى الذى كان يقول: مَن يدل على كعب بن مالك دون نطقهم له تحقيقٌ لمقصود الهجر، وإلا فلو قالوا له صريحاً: ذاك كعب بن مالك، لم يكن ذلك كلاماً له، فلا يكونون به مخالفين للنهى، ولكن لِفرط تحرِّيهم وتمسكهم بالأمر، لم يذكروه له بصريح اسمه. وقد يقال: إن فى الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوع مكالمة له، ولا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بكلامه، وهى ذريعةٌ قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع، وهذا أفقه وأحسن. وفى مكاتبة ملك غسَّان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى، وامتحان لإيمانه ومحبته للهِ ورسوله، وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانُه بهجر النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين له، ولا هو ممن تحمِلُه الرغبة فى الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه، فهذا فيه من تبرئة الله له مِن النفاق، وإظهار قوة إيمانه، وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه، ولطفه به، وجبره لكسره، وهذا البلاءُ يُظهر لُبَّ الرجل وسره، وما ينطوى عليه، فهو كالكِير الذى يُخرج الخبيث من الطيب. وقوله: ((فتيممتُ بالصحيفة التنورَ))، فيه المبادرة إلى إتلاف ما يُخشى منه الفساد والمضرَّة فى الدين، وأن الحازم لا ينتظر به ولا يُؤخره، وهذا كالعصير إذا تخمَّر، وكالكتاب الذى يُخشى منه الضررُ والشر، فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه. وكانت غسَّان إذ ذاك وهُم ملوك عرب الشام حرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينعلُون خيولَهم لمحاربته، وكان هذا لما بعث شجاع بن وهب الأسدى إلى ملكهم الحارث بن أبى شمر الغسَّانى يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه إليه، قال شجاع: فانتهيتُ إليه وهو فى غَوْطة دمشق، وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لِقيصر، وهو جاءٍ من حمصَ إلى إيلياء، فأقمتُ على بابه يومين أو ثلاثة، فقلتُ لِحاجبه: إنى رسول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليه، فـقال: لا تَصِلُ إليه حتى يخرُجَ يومَ كذا وكذا، وجعل حاجبُه وكان رومياً اسمه مرى يسألُنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنتُ أُحدِّثُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدعو إليه، فيرقُّ حتى يغلِبَ عليه البكاء، ويقول: إنى قرأتُ الإنجيل، فأجدُ صفة هذا النبى بعَيْنه، فأنا أُؤمن به وأُصدِّقه، فأخافُ من الحارث أن يقتلنى، وكان يُكرمنى ويُحسن ضيافتى، وخرج الحارث يوماً فجلس، فوضع التاجَ على رأسه، فأذِن لى عليه، فدفعتُ إليه كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه، ثمَّ رمى به، قال: مَن ينتزِعُ مِنى ملكى، وقال: أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئتُه، علىَّ بالناس، فلم تزل تُعرض حتى قام، وأمر بالخيول تُنعل، ثم قال: أخبر صاحِبَكَ بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره خبرى، وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر: أن لا تَسِرْ، ولا تَعْبُرْ إليه، والهُ عنه، ووافنى بإيلياء، فلما جاءه جوابُ كتابه، دعانى فقال: متى تُريد أن تخرُج إلى صاحبك؟ فقلت: غداً، فأمر لى بمائةِ مثقالٍ ذهباً، ووصلنى حاجبُه بنفقة وكُسوةٍ، وقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منى السلام، فقدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخـبرته، فقال: ((بَادَ مُلْكُه))، وأقرأته من حاجبه السلام، وأخبرته بما قال، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق))، ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح، ففى هذه المدة أرسل ملكُ غسَّان يدعو كعباً إلى اللحاق به، فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودِينه. فصل فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة باعتزال نساءهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم لما مضى لهم أربعون ليلة، كالبشارة بمقدمات الفَرَج والفتح مِن وجهين: أحدهما: كلامُه لهم، وإرساله إليهم بعد أن كان لا يكلمهم بنفسه ولا برسوله. الثانى: مِن خصوصية أمرهم باعتزال النساء، وفيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد فى العبادة، وشد المئزر، واعتزال محل اللَّهو واللَّذة، والتعوض عنه بالإقبال على العبادة، وفى هذا إيذان بقرب الفَرَج، وأنه قد بقى من العتب أمر يسير. وفقه هذه القصة، أن زمن العبادات ينبغى فيه تجنبُ النساء، كزمن الإحرام، وزمن الاعتكاف، وزمن الصيام، فأراد النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يكون آخرُ هذه المدة فى حق هؤلاء بمنزلة أيام الإحرام والصيام فى توفرها على العبادة، ولم يأمرهم بذلك من أول المدة رحمةً بهم، وشفقةً عليهم، إذ لعَلهم يضعف صبرهم عن نسائهم فى جميعها، فكان من اللُّطف بهم والرحمة، أن أُمروا بذلك فى آخر المدة، كما يؤمر به الحاج من حين يُحرم، لا من حين يعزم على الحج. وقول كعب لامرأته: ((الحقى بأهلك))، دليل على أنه لم يقطع بهذه اللَّفظة وأمثالها طلاق ما لم ينوه. والصحيح: أن لفظ الطلاق والعتاق والحرية كذلك إذا أراد به غير تسييب الزوجة، وإخراج الرقيق عن ملكه، لا يقع به طلاقٌ ولا عتاق، هذا هو الصواب الذى ندينُ الله به، ولا نرتابُ فيه ألبتة. فإذا قيل له: إن غلامك فاجر أو جاريتك تزنى، فقال: ليس كذلك، بل هو غلام عفيف حر، وجارية عفيفة حرة، ولم يُرد بذلك حرية العتق، وإنما أراد حرية العفة، فإن جاريته وعبده لا يُعتقان بهذا أبداً، وكذا إذا قيل له: كم لغلامك عندك سنة؟ فقال: هو عتيق عندى، وأراد قدم ملكه له، لم يُعتق بذلك، وكذلك إذا ضرب امرأته الطلق، فسئل عنها، فقال: هى طالق، ولم يخطر بقلبه إيقاع الطلاق، وإنما أراد أنها فى طلق الولادة، لم تُطلَّق بهذا، وليست هذه الألفاظ مع هذه القرائن صريحة إلا فيما أُريد بها، ودل السياق عليها، فدعوى أنها صريحة فى العتاق والطلاق مع هذه القرائن مكابرة، ودعوى باطلة قطعاً. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#11 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
فى سجود الشكر والتهنئة وإعطاء البشير بخبرٍ سار وفى سجود كعب حين سمع صوت المبشِّر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة، وهى سجودُ الشكر عند النعم المتجددة، والنقم المندفعة، وقد سجد أبو بكر الصِّدِّيق لما جاءه قتلُ مُسَيْلِمة الكذَّاب، وسجد علىُّ بن أبى طالب لما وجد ذا الثُّديَّةِ مقتولاً فى الخوارج، وسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بشَّره جبريلُ أنه مَن صَلَّى عليه مَرَّة صَلَّى الله عليه بها عشراً، وسجد حين شفع لأُمته، فشفعه الله فيهم ثلاث مرات، وأتاه بشير فبشَّره بظفر جند له على عدوهم ورأسه فى حَجر عائشة، فقام فخرَّ ساجداً، وقال أبو بكرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه أمر يسُرُّه خرَّ للهِ ساجداً، وهى آثار صحيحة لا مطعن فيها. وفى استباق صاحب الفرس والراقى على سلع ليبشِّرا كَعباً دليل على حرص القوم على الخير، واستباقهم إليه، وتنافُسهم فى مسَّرة بعضهم بعضاً. وفى نزع كعب ثوبيه وإعطائهما للبشير، دليل على أن إعطاء المبشِّرين من مكارم الأخلاق والشيم، وعادة الأشراف، وقد أعتق العباس غلامه لما بشَّره أن عند الحجاج بن علاط من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسره.وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه. وفيه دليل على استحباب تهنئة مَن تجدَّدت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته، فهذه سُـنَّة مستحَبة، وهو جائز لمن تجددت له نِعمةٌ دنيوية، وأن الأَوْلى أن يقال له: لِيهنك ما أعطاك الله، وما مَنَّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربَّها، والدعاء لمن نالها بالتهنى بها. وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يومُ توبته إلى الله، وقبول الله توبته، لقول النبى صلى الله عليه وسلم: ((أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ)). فإن قيل: فكيف يكون هذا اليوم خيراً من يوم إسلامه؟ قيل: هو مكمل ليوم إسلامه، ومن تمامه، فيومُ إسلامه بداية سـعادته، ويومُ توبته كمالها وتمامها.. والله المستعان. وفى سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأُمة، والرحمة بهم والرأفة، حتى لعل فرحه كان أعظم مِن فرح كعب وصاحبيه. وقول كعب: ((يا رسول الله؛ إن من توبتى أن أنخلع من مالى))، دليل على استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ))، دليل على أن مَن نذر الصدقة بكُلِّ ماله، لم يلزمه إخراجُ جميعه، بل يجوز له أن يُبقى له منه بقية، وقد اختلفت الرواية فى ذلك، ففى ((الصحيحين)) أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: ((أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ)) ولم يُعيِّن له قدراً، بل أطلق ووكله إلى اجتهاده فى قدر الكفاية، وهذا هو الصحيح، فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به، فنذره لا يكون طاعة، فلا يجب الوفاء به، وما زاد على قدر كفايته وحاجته، فإخراجه والصدقة به أفضل، فيجب إخراجُه إذا نذره، هذا قياسُ المذهب، ومقتضى قواعِد الشريعة، ولهذا تُقدَّم كفاية الرجل، وكفايةُ أهله على أداء الواجبات المالية، سواء أكانت حقاً لله كالكفَّارات والحَجِّ، أو حقاً للآدميين كأداء الديون فإنَّا نترك للمفلس ما لا بُدَّ منه من مسكن، وخادم، وكسوة، وآلةِ حِرفة، أو ما يتَّجِرُ به لمؤنته إن فُقِدت الحرفة، ويكون حق الغرماء فيما بقى. وقد نص الإمام أحمد على أن مَن نذر الصدقة بمالِه كُلِّه، أجزأه ثُلُثه، واحتج له أصحابُه بما رُوى فى قصة كعب هذه، أنه قال: ((يا رسول الله؛ إنَّ من توبتى إلى الله ورسوله أن أخرُجَ من مالى كُلِّه إلى الله ورسوله صدقة، قال: ((لا))، قلت: فنصفُه؟. قال: ((لا))، قلت: فثُلُثه قال: ((نعم))، قلت: فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر)). رواه أبو داود. وفى ثبوت هذا ما فيه، فإن الصحيح فى قصة كعب هذه ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزُّهْرى، عن ولد كعب بن مالك عنه أنه قال: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك))، مِن غير تعيين لقدره، وهم أعلمُ بالقصة مِن غيرهم، فإنهم ولدُه، وعنه نقلوها. فإن قيل: فما تقولون فيما رواه الإمام أحمد فى ((مسنده)) أن أبا لُبابةَ بن عبد المنذر لما تابَ اللهُ عليه، قال: يا رسولَ الله؛ إنَّ مِنْ تَوْبَتى أنْ أهْجُرَ دَارَ قَوْمِى وأُساكِنَكَ، وأن أنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ)). قيل: هذا هو الذى احتج به أحمد، لا بحديث كعب، فإنه قال فى رواية ابنه عبد الله: إذا نذر أن يتصدَّق بماله كُلِّه أو ببعضه، وعليه دَيْنٌ أكثر مما يملكه، فالذى أذهبُ إليه أنه يُجزئه من ذلك الثُلُث، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أبا لُبابة بالثُلُث، وأحمد أعلمُ بالحديث أن يحتج بحديث كعب هذا الذى فيه ذكر الثُلُث، إذ المحفوظ فى هذا الحديث: ((أمسك عليك بعضَ مالك)) وكأنّ أحمد رأى تقييد إطلاق حديثِ كعبٍ هذا بحديث أبى لبابة. وقوله فيمن نذر أن يتصدَّق بماله كله أو ببعضه وعليه دَيْن يستغرِقه: إنه يجزئه من ذلك الثُلُث، دليل على انعقاد نذره، وعليه دَيْن يستغرِقُ ماله، ثم إذا قضى الدَّيْن، أخرج مقدار ثُلُث ماله يومَ النذر، وهكذا قال فى رواية ابنه عبد الله: إذا وهب ماله، وقضى دَيْنه، واستفاد غيره، فإنما يجبُ عليه إخراجُ ثُلُث ماله يوم حِنثه، يريد بيوم حِنثه يومَ نذره، فينظـر قدر الثُلُث ذلك اليوم، فيُخرجه بعد قضاء دَيْنه. وقوله: أو ببعضه. يُريد أنه إذا نذر الصدقة بمُعيَّن مِن ماله، أو بمقدار كألْفٍ ونحوها، فيجزئه ثُلُثه كنذر الصدقة بجميع ماله، والصحيح من مذهبه لزومُ الصدقة بجميع المُعيَّن، وفيه روايةٌ أُخرى، أن المُعيَّن إن كان ثُلُث ماله فما دونه، لزمه الصدقةُ بجميعه، وإن زاد على الثُلُث، لزمه منه بقدر الثُلُث، وهى أصحُّ عند أبى البركات. وبعد.. فإن الحديثَ ليس فيه دليل على أن كعباً وأبا لبابة نذرا نذراً منجَّزاً، وإنما قالا: إن مِن توبتنا أن ننخلِعَ مِن أموالنا، وهذا ليس بصريح فى النذر، وإنما فيه العزمُ على الصدقة بأموالهما شكراً لله على قبول توبتهما، فأخبر النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن بعضَ المال يُجزئ من ذلك، ولا يحتاجان إلى إخراجه كله، وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يُوصِىَ بماله كلِّه، فأذن له فى قدر الثُلُث. فإن قيل: هذا يدفعُه أمران. أحدهما: قوله: ((يُجزئك))، والإجزاء إنما يُستعمل فى الواجب، والثانى: أن منعه مِن الصـدقة بما زاد على الثُلُث دليل على أنه ليس بقُربة، إذ الشارع لا يمنع من القُرَب، ونذر ما ليس بقُربة لا يلزم الوفاءُ به. قيل: أما قوله: ((يُجزئك))، فهو بمعنى يكفيك، فهو من الرباعى، وليس من ((جزى عنه)) إذا قضى عنه، يقال: أجزأنى: إذا كفانى، وجزى عنى: إذا قضى عنى، وهذا هو الذى يُستعمل فى الواجب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبى بُردة فى الأُضحية: ((تَجْزِى عَنْكَ وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ)) والكفاية تُستعمل فى الواجب والمستحَب. وأما منعُه مِن الصدقة بما زاد على الثُلُث، فهو إشارة منه عليه بالأرفق به، وما يحصل له به منفعة دينه ودنياه، فإنه لو مكَّنه من إخراج ماله كُلِّه لم يصبِرْ على الفقر والعدم، كما فعل بالذى جاءه بالصُّرة ليتصدق بها، فضربه بها، ولم يقبلها منه خوفاً عليه من الفقر، وعدم الصبر. وقد يقال وهو أرجحُ إن شاء الله تعالى : إن النبى صلى الله عليه وسلم عامل كُلَّ واحدٍ ممن أراد الصدقة بماله بما يعلم من حاله، فمكَّن أبا بكر الصِّدِّيق من إخراج مالِه كُلِّه، وقال: ((ما أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ))؟ فقال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسوله، فلم يُنكر عليه، وأقرَّ عمر على الصدقة بِشَطْرِ ماله، ومنع صاحب الصُّرةِ من التصدُّق بها، وقال لكعب: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ))، وهذا ليس فيه تعيين المخرج بأنه الثُلُث، ويبعُد جداً بأن يكون الممسَك ضِعفى المُخْرَج فى هذا اللَّفظ، وقال لأبى لبابة: ((يُجزئك الثُلُث))، ولا تناقض بين هذه الأخبار، وعلى هذا، فمَن نذر الصدقة بماله كُلِّه، أمسك منه ما يحتاجُ إليه هو وأهلُه، ولا يحتاجون معه إلى سؤال الناسِ مدةَ حياتِهم من رأس مال أو عَقار، أو أرض يقومُ مَغَلُّها بكفايتهم، وتصدَّق بالباقى.. والله أعلم. وقال ربيعة بن أبى عبد الرحمن: يتصدَّقُ منه بقدر الزكاة، ويُمسك الباقى. وقال جابر بن زيد: إن كان ألفين فأكثرَ، أخرج عُشْرَهُ، وإن كان ألفاً، فما دون فسُبْعَهُ، وإن كان خمسمِائة فما دُون فَخُمْسَهُ. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يتصدَّق بكلِّ ماله الذى تجبُ فيه الزكاةُ، وما لا تجب فيه الزكاة، ففيه روايتان: أحدهما: يُخرجه، والثانية: لا يلزمه منه شيئ. وقال الشافعى: تلزمه الصدقةُ بماله كله، وقال مالك، والزُّهرى، وأحمد: يتصدَّقُ بثُلُثه، وقالت طائفة: يلزمه كفَّارة يمين فقط. فصل [فى عِظَم مقدار الصِّدق وتعليق سعادة الدنيا والآخرة به] ومنها: عِظَم مقدارِ الصِّدق، وتعليقُ سعادة الدنيا والآخرة، والنجاة مِن شرهما به، فما أنجى الله مَن أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك مَن أهلَكه إلا بالكذب، وقد أمر اللهُ سبحانه عِباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، فقال: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ َآمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فجعل السـعداء هم أهلَ الصدق والتصديق، والأشقياء هم أهلَ الكذب والتكذيب، وهو تقسيم حاصِر مطَّرد منعكِس. فالسعادةُ دائرة مع الصدق والتصديقِ، والشقاوةُ دائرة مع الكذب والتكذيب. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#12 |
![]() ![]() |
![]()
وأخبر سبحانه وتعالى: أنه لا ينفعُ العبادَ يومَ القيامة إلا صدقهم، وجعل عَلَم المنَافقين الذى تميزوا به هو الكذبَ فى أقوالهم وأفعالهم، فجميعُ ما نعاه عليهم أصلُه الكذبُ فى القول والفعل، فالصدق بريدُ الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحِليته، ولباسُه، بل هو لبُّه وروحه. والكذب: بريدُ الكفر والنفاق، ودليلهُ، ومركبه، وسائقه، وقائدُه، وحليته، ولباسه، ولبُّه، فمضادة الكذبِ للإيمان كمضادة الشِّرك للتوحيد، فلا يجتمعُ الكذب والإيمان إلا ويطرُد أحدهما صاحبه، ويستقِرُّ موضعه، والله سبحانه أنجى الثلاثَةَ بصدقهم، وأهلكَ غيرَهم من المخلَّفين بكذبهم، فما أنعم اللهُ على عبدٍ بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذى هو غِذاء الإسلام وحياتُه، ولا ابتلاه ببلية أعظمَ من الكذب الذى هو مرضُ الإسلام وفساده. والله المستعان.
وقوله تعالى: {لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ. إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 117] ، هذا من أَعظَم ما يُعَرِّفُ العبد قدرَ التوبة وفضلَها عند الله، وأنها غاية كمال المؤمن، فإنَّه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزواتِ بعد أن قَضَوْا نحبَهم، وبذلوا نفوسهم، وأموالهم، وديارهم لله، وكان غايةَ أمرهم أن تاب عليهم، ولهذا جعل النبى صلى الله عليه وسلم يومَ توبةِ كعب خيرَ يوم مَرَّ عليه منذ ولدته أُمه، إلى ذلك اليوم، ولا يعرِفُ هذا حق معرفته إلا مَن عرف الله، وعرف حقوقَه عليه، وعرف ما ينبغى له من عُبوديته، وعرف نفسَه وصفاتِها وأفعالها، وأن الذى قام به مِن العبودية بالنسبة إلى حق ربه عليه، كقَطْرة فى بحرٍ، هذا إذا سلم من الآفات الظاهرة والباطنة، فسُبحان مَن لا يسعُ عبادَه غيرُ عفوه ومغفرته، وتغمده لهم بمغفرته ورحمته، وليس إلا ذلك أو الهلاك، فإن وضع عليهم عدله، فعذَّب أهلَ سماواته وأرضه عذَّبهم، وهو غيرُ ظالم لهم، وإن رحمهم، فرحمتُه خير لهم من أعمالهم، ولا يُنجى أحداً منهم عملُه. فصل وتأمل تكريرَه سبحانه توبتَه عليهم مرتين فى أول الآية وآخِرها، فإنه تاب عليهم أولاً بتوفيقهم للتوبة، فلما تابوا، تاب عليهم ثانياً بقبولها منهم، وهو الذى وفقهم لِفعلها، وتفضَّل عليهم بقبولها، فالخير كله منه وبه، وله وفى يديه، يعطيه مَن يشاءُ إحساناً وفضلاً، ويحرمه مَن يشاء حكمةً وعدلاً. فصل وقوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ}[التوبة: 118]، قد فسَّرها كعبٌ بالصواب، وهو أنهم خُلِّفُوا من بين مَن حلفَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتذر من المتخلفين، فخلَّف هؤلاء الثلاثة عنهم، وأرجأ أمرهم دونهم، وليس ذلك تخلُّفهم عن الغزو، لأنه لو أراد ذلك، لقال: تخلَّفوا، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ}[التوبة: 120]، وذلك لأنهم تخلَّفوا بأنفسهم بخلاف تخليفهم عَن أمر المتخلِّفين سواهم، فإن الله سبحانه هو الذى خلَّفهم عنهم، ولم يتخلَّفوا عنه بأنفسهم.. والله أعلم. فصل فى حَجَّة أبى بكر الصِّدِّيق رضى اللهُ عنه سنة تسع بعد مقدمه من تَبُوك قال ابن إسحاق: ثم أقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منصرَفه مِن تَبُوك بقيةَ رمضانَ وشوَّالاً وذا القَعدة، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج سنةَ تسع لِيقيم للمسلمين حَجَّهم، والناس من أهل الشِّرك على منازلهم من حَجِّهم، فخرج أبو بكر والمؤمنون. قال ابن سعد: فخرج فى ثلاثمائة رجل من المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، قلَّدها وأشعرها بيده، عليها ناجية بن جُندب الأسلمى، وساق أبو بكر خمس بدنات. قال ابن إسحاق: فنزلت براءة فى نقضِ ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين مِن العهد الذى كانوا عليه، فخرج علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء. قال ابن سعد: فلما كان بالعَرْج وابن عائذ يقول: بضَجَنان لحقه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه على العضباء، فلما رآه أبو بكر، قال: أميرٌ أو مأمورٌ؟ قال: لا بل مأمور، ثم مضيا. وقال ابن سعد: فقال له أبو بكر: أستعملك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثنى أقرأ براءة على الناس، وأَنبذ إلى كل ذى عَهدٍ عهده، فأقام أبو بكر للناس حَجَّهم، حتى إذا كان يومُ النحر، قام علىُّ بن أبى طالب، فأذَّن فى الناس عند الجمرة بالذى أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبذ إلى كل ذى عهد عهده، وقال: أَيها الناس؛ لا يدخُلُ الجنَّة كافر، ولا يحجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوفُ بالبيت عُريان، ومَن كان له عهد عِند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إلى مُدَّته. وقال الحميدى: حدَّثنا سفيان، قال: حدَّثنى أبو إسحاق الهَمْدَانى،عن زيد بن يُثَيْع، قال: سألنا علياً، بأى شئ بُعِثْتَ فى الحَجَّة؟ قال: بُعِثتُ بأربع: لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلا نفسٌ مُؤمِنة، ولا يَطُوفُ بالبيت عُريان، ولا يجتمِعُ مُسلم وكافر فى المسجد الحرام بعد عامِه هذا، ومَنْ كان بينَه وبَيْن النبىِّ صلى الله عليه وسلم عهد، فعهده إلى مُدَّته، ومَن لم يكن له عهد، فأجلُه إلى أربعةِ أشهرِ. وفى ((الصحيحين)): عن أبى هُريرة، قال: بعثنى أبو بكر فى تلك الحَجَّة فى مُؤذِّنِينَ بعثهم يومَ النحر يؤذِّنون بمِنَى: أَلاَّ يَحُجَّ بعدَ هذا العامِ مُشرِك، ولا يَطُوفَ بالبيت عُريان، ثم أردف النبىُّ صلى الله عليه وسلم أبا بَكر بعلىِّ بنِ أبى طالب رضى الله عنهما، فأمره أن يُؤذِّن ببراءة، قال: فأذَّن معنا علىُّ فى أهل مِنَى يَوْمَ النحرِ ببراءة، وأَلاَّ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيان. وفى هذه القصة دليل على أن يومَ الحج الأكبر يومُ النحر، واختُلِف فى حَجَّة الصِّدِّيق هذه، هل هى التى أسقطت الفرضَ، أو المسقطة هى حَجَّة الوداع مع النبى صلى الله عليه وسلم؟ على قولين. أصحهما الثانى، والقولان مبنيان على أصلين: أحدُهما: هل كان الحَجُّ فُرِضَ قَبْلَ عام حَجَّة الوداع أو لا؟ والثانى: هـل كانت حَجَّةُ الصِّدِّيق رضى الله عنه فى ذى الحجة، أم وقعت فى ذى القَعدَة من أجل النسئ الذى كان الجاهليةُ يؤخِّرون له الأشهر ويُقدِّمونها؟ على قولين. والثانى: قولُ مجاهد وغيره. وعلى هذا، فلم يُؤخِّر النبى صلى الله عليه وسلم الحَجَّ بعد فرضه عاماً واحداً، بل بادر إلى الامتثال فى العام الذى فُرِض فيه، وهذا هو اللائق بهَدْيه وحاله صلى الله عليه وسلم، وليسَ بِيدِ مَن ادَّعى تقدُّم فرض الحَجّ سنةَ ست أو سبعٍ أو ثمانٍ أو تسع دليل واحد، وغايةُ ما احتج به مَن قال: فُرِضَ سنة ست قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ}[البقرة: 196] ، وهى قد نزلت بالحُديبية سنة ست، وهذا ليس فيه ابتداءُ فرض الحَجّ، وإنما فيه الأمر بإتمامه إذا شُرِعَ فيه، فأين هذا مِن وجوب ابتدائه، وآيةُ فرض الحَجّ وهى قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ منِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران: 97]، نزلت عامَ الوفود أواخرَ سنة تسع. فصل فى قدوم وفود العرب وغيرهم على النبى صلى الله عليه وسلم. فَقَدِم عليه وفدُ ثقيف، وقد تقدَّم مع سياق غزوة الطائف. قال موسى بن عقبة: وأقام أبو بكر لِلناس حَجَّهم، وقدم عروةُ بن مسعود الثقفىُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليرجع إلى قومه، فذكر نحوَ ما تقدم، وقال: فقدم وفدهم، وفيهم: كِنانة بن عبد ياليل، وهو رأسُهم يومئذ، وفيهم: عُثمان بنُ أبى العاص، وهو أصغرُ الوفد، فقال المغيرةُ ابن شُعْبة: يا رسولَ الله؛ أنزل قومى علىَّ فأكرمهم، فإنى حديثُ الجرح فيهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أَمْنَعُكَ أَنْ تُكْرِمَ قَوْمَكَ، ولكِنْ أنْزِلْهُمْ حَيْثُ يَسْمَعُونَ القُرْآنَ))، وكان من جُرح المغيرة فى قومه أنه كان أجيراً لثقيفٍ، وأنهم أقبلوا مِن مُضَرَ حتى إذا كانوا ببعض الطريق، عدا عليهم وهُمْ نيام، فقتلهم، ثم أقبل بأموالِهم حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أَمَّا الإسْلاَمُ فَنَقْبَلُ، وأَمَّا المَالُ فَلاَ، فإنَّا لا نَغْدِرُ))، وأبى أن يُخَمِّسَ ما معه، وأنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفدَ ثقيف فى المسجد، وبنى لهم خِياماً لكى يسمعوا القرآن، ويَروا الناسَ إذا صَلَّوْا، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لا يذكرُ نفسه، فلما سمعه وفدُ ثقيف، قالوا: يأمُرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهدُ به فى خُطبته، فلما بلغه قولُهم، قال: ((فإنى أول مَن شهد أنى رسولُ الله)). وكانوا يغدُون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلَّ يوم، ويخلِّفونَ عثمان بن أبى العاص على رحالهم، لأنه أصغرُهم، فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الدين، واستقرأه القرآن، فاختلف إليه عثمان مراراً حتى فَقُه فى الدين وعلم، وكان إذا وجدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نائماً، عَمَدَ إلى أبى بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأحبه، فمكث الوفد يختلِفُون إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، فقال كِنانة بنُ عبدِ ياليل: هل أنتَ مقاضينا حتى نرجِعَ إلى قومنا؟ قال: ((نعم، إن أنتم أقررتُم بالإسلام أُقاضيكم، وإلا فلا قضية، ولا صُلْحَ بينى وبينكم)). قال: أفرأيت الزِّنَى، فإنَّا قوم نغترِبُ، ولا بد لنا منه؟ قال: ((هُوَ عَلَيْكُم حَرَامٌ فَإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: {وَلا تَقْرَبُواْ الزِّنَى، إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}[الإسراء: 32]، قالوا: أفرأيتَ الرِّبا فإنه أموالُنا كلها؟ قال: ((لَكُمْ رُؤوسُ أمْوالِكُم إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ }[البقرة: 278].قالوا: أفرأيتْ الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها؟ قال: ((إنَّ الله قدْ حَرَّمَهَا، وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْاْ إنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 90] فارتفع القومُ، فخلا بعضُهم ببعض، فقالوا: ويحكم، إنَّا نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة، انطلِقُوا نُكاتبه على ما سألناه، فَأَتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نعم لك ما سألتَ، أرأيت الرَّبَّة ماذا نصنعُ فيها؟ قال: ((اهدِمُوها)). قالوا: هيهاتَ لو تعلمُ الرَّبَّةُ أنك تُريد هدمها، لقتلت أهلها، فقال عمر بن الخطاب: ويحكَ يا ابنَ عبد ياليل، ما أجهلَك، إنما الرَّبَّة حجر. فقالوا: إنَّا لم نأتك يا ابن الخطاب، وقالوا لِرسول الله صلى الله عليه وسلم: تَوَلَّ أنت هدمها، فأما نحن، فإنَّا لا نهدِمُها أبداً. قال: ((فسَأَبْعَثُ إلَيْكُم مَنْ يَكْفِيكُم هَدْمَها)) فَكاتبوه، فقال كِنانة بنُ عبد ياليل: ائذن لنا قبلَ رسولِك، ثم ابعثْ فى آثارنا، فإنَّا أعلمُ بقومنا، فأَذِنَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكرمهم وحبَاهم، وقالوا: يا رسولَ الله؛ أمِّر علينا رجلاً يؤمنا مِن قومنا، فأمَّر عليهم عثمانَ بن أبى العاصِ لِما رأى مِن حرصه على الإسلام، وكان قد تعلَّم سوراً مِن القرآن قبل أن يخرج، فقال كِنانة بن عبد ياليل: أنا أعلمُ الناس بثقيف، فاكتموهُمُ القضية، وخوِّفُوهم بالحرب والقتال، وأخبروهم أن محمداً سألنا أُموراً أبيناها عليه، سألنا أن نَهْدِمَ اللاتَ والعُزَّى، وأن نُحَرِّمَ الخمرَ والزِّنَى، وأن نُبْطِلَ أموالنا فى الربا. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#13 |
![]() ![]() |
![]()
فخرجت ثقيفٌ حين دنا منهم الوفدُ يتلقونهم، فلما رأوهم قد ساروا العَنَق، وقطروا الإبل، وتغشَّوا ثيابهم كهيئة القوم قد حزِنُوا وكربوا، وَلم يرجعوا بخير، فقال بعضُهم لبعض: ما جاء وفدُكم بخير، ولا رجعوا به، وترجَّل الوفد، وقصدُوا اللاتَ، ونزلوا عندها واللات وثن كان بين ظهرانى الطائف، يُستر ويُهدى له الهَدْى كما يُهدى لبيت اللهِ الحرام فقال ناسٌ من ثقيف حين نزل الوفدُ إليها: إنَّهم لا عهد لهم برؤيتها، ثم رجع كُلُّ رجل منهم إلى أهله، وجاء كُلاً منهم خَاصَّتُه مِن ثقيف، فسألوهم ماذا جئتُم به وماذا رجعتم به؟ قالوا: أتينا رجلاً فظاً غليظاً يأخُذ مِن أمره ما يشاءُ، قد ظهر بالسيفِ، وداخ له العرب، ودان له الناس، فعرض علينا أُموراً شداداً: هدَم اللات والعُزَّى، وتركَ الأموال فى الربا إلا رؤوس أموالكم، وحرَّم الخمر والزِّنَى، فقالت ثقيف: واللهِ لا نقبل هذا أبداً. فقال الوفدُ: أصلحوا السلاح، وتهيؤوا للقتال، وتعبَّؤوا له، ورُمُّوا حِصنكم، فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يُريدون القِتال، ثم ألقى اللهُ عَزَّ وجَلَّ فى قلوبهم الرُّعبَ، وقالوا: واللهِ ما لنا به طاقة، وقد داخ له العرب كُلُّها، فارجعُوا إليه، فأعطُوه ما سأل، وصالِحُوه عليه. فلما رأى الوفد أنهم قد رغبوا، واختاروا الأمان على الخوف والحرب، قال الوفد: فإنَّا قد قاضيناه، وأعطيناه ما أحببنا، وشرطنا ما أردنا، ووجدناه أتقى الناس، وأوفاهم، وأرحمهم، وأصدقهم، وقد بُورك لنا ولكم فى مسيرنا إليه، وفيما قاضيناه عليه، فاقبلوا عافية الله، فقالت ثقيف: فلِم كتمتمُونا هذا الحديث، وغممتُمونَا أشدَّ الغم؟ قالوا: أردنا أن ينزِعَ اللهُ مِن قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانهم، ومكثوا أياماً. ثم قدم عليهم رُسُلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُمِّرَ عليهم خالدُ بن الوليد، وفيهم المغيرةُ بن شُعْبة، فلما قَدِمُوا، عَمَدُوا إلى اللات ليهدموها، واستكَفَّتْ ثقيف كُلُّها، الرِّجالُ والنساءُ والصبيانُ، حتى خرج العواتِق مِن الحِجال لا ترى عامةُ ثقيف أنها مهدومة يظنُّون أنها ممتنعة، فقام المغيرةُ بنُ شُعْبة، فأخذ الكِرْزِين، وقال لأصحابه: واللهِ لأُضحكنَّكم من ثقيف، فضرب بالكِرْزِين، ثم سقط يركُض، فارتجَّ أهلُ الطائف بضجَّةٍ واحدة، وقالوا: أبعد اللهُ المغيرة، قتلته الرَّبَّة، وفرحوا حين رأوه ساقطاً، وقالوا: مَن شاء منكم، فليقرب، وليجتهد على هـدمها، فواللهِ لا تُستطاع، فوثب المغيرة بن شُعْبة، فقال: قبَّحكم الله يا معشر ثقيف، إنما هى لكَاع حِجَارة ومَدَر، فاقبلوا عافيةَ اللهِ واعبدوه، ثم ضرب البابَ فكسره، ثم علا سورَها، وعلا الرجالُ معه، فما زالوا يهدِمُونها حجراً حجراً حتى سوَّوْها بالأرض، وجعل صاحب المفتاح يقول: ليغضبن الأساس، فليخْسِفَنَّ بهم، فلما سمع ذلك المغيرة، قال لِخالد: دعنى أحفر أساسها، فحفره حتى أخرجوا تُرابها، وانتزعوا حُليها ولباسها، فبُهِتَتْ ثقيف، فقالت عجوز منهم: أسلمها الرُّضَّاعُ، وتركوا المِصَاعَ.
وأقبل الوفدُ حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحُليها وكِسوتها، فقسمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمد الله على نُصرة نبيه وإعزاز دينه، وقد تقدَّم أنه أعطاه لأبى سفيان بن حرب، هذا لفظ موسى بن عقبة. وزعم ابن إسحاق أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قدم من تبوك فى رمضان، وقدم عليه فى ذلك الشهر وفد ثقيف. وروينا فى ((سنن أبى داود)) عن جابر قال: اشترطَتْ ثقيفٌ عَلَى النَّبى صلى الله عليه وسلم أَلا صَدَقَة عليها ولا جِهَادَ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذلِكَ: ((سَيَتَصَدَّقون ويُجَاهِدُونَ إذَا أسْلَمُوا)). وروينا فى ((سنن أبى داود الطيالسى))، عن عثمان بن أبى العاص، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مَسْجِدَ الطائِفِ حيث كانت طاغيتُهم. وفى ((المغازى)) لمعتمِر بن سليمان قال: سمعتُ عبد الله بن عبد الرحمن الطائفى يُحدِّث عن عثمان بن عبد الله، عن عمه عمرو بن أَوْس، عن عثمان بن أبى العاص، قال: استعملنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصغرُ السِّـتَّة الذين وفدُوا عليه من ثقيف، وذلك أنى كنتُ قرأتُ سورة البقرة، فقلت: يا رسولَ الله؛ إنَّ القرآن يتفلَّتُ مِنِّى، فوضع يدَه على صدرى وقال: ((يا شَيْطَانُ اخْرُجْ مِنْ صَدْرِ عُثمان)) فما نسيتُ شيئاً بعده أريد حفظه. وفى ((صحيح مسلم)) عن عثمان بن أبى العاص، قلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ الشَيطَانَ قد حَالَ بينى وبَيْنَ صلاتى وقراءتى، قال: ((ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقالُ لَهُ: خِنْزِبِ، فإذا أحْسَسْتهُ، فَتَعَوَّذْ باللهِ مِنْهُ، واتْفِلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلاثاً))، ففعلتُ، فأذهبَه اللهُ عنِّى. فصل فيما فى قصة وفد ثقيف من الأحكام. وفى قصة هذا الوفد مِن الفقه، أنَّ الرجلَ من أهل الحرب إذا غَدَر بقومه، وأخذ أموالَهم، ثم قَدِم مسلماً، لم يتعرَّض له الإمامُ، ولا لما أخذه مِن المال، ولا يضمنُ ما أتلفه قبلَ مجيئه من نفس ولا مال، كما لم يتعرض النبىُّ صلى الله عليه وسلم لما أخذه المغيرةُ من أموال الثقفيين، ولا ضَمِنَ ما أتلفه عليهم، وقال: ((أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال، فلست منه فى شىء)) ومنها: جوازُ إنزال المشرك فى المسجد، ولا سيما إذا كان يرجو إسلامه، وتمكينه من سماع القرآن، ومشاهدة أهل الإسلام، وعبادتهم. ومنها: حسنُ سياسة الوفد، وتلطفهم حتى تمكنَّوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به فتصوَّروا لهم بصُورة المنكر لِما يكرهونه، الموافق لهم فيما يَهْوَوْنه حتى ركنوا إليهم، واطمأنوا، فلما علموا أنه ليس لهم بُد من الدخول فى دعوة الإسلام أذعنوا، فأعلمهم الوفدُ أنهم بذلك قد جاؤوهم، ولو فاجؤوهم به من أول وهلة لما أقرُّوا به، ولا أذعنوا، وهذا مِن أحسن الدعوة، وتمامِ التبليغ، ولا يتأتَّى إلا مع ألبَّاءِ الناس وعُقلائهم. ومنها: أن المستحق لإمرة القوم وإمامتِهم أفضلُهم وأعلمُهم بكتاب الله، وأفقهُهم فى دينه. ومنها: هدمُ مواضِع الشِّرك التى تُتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمُها أحبُّ إلى الله ورسوله، وأنفعُ للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حالُ المشاهد المبنية على القبور التى تُعبد مِن دون الله، ويُشْرَك بأربابها مع الله، لا يَحِلُّ إبقاؤها فى الإسلام، ويجب هدمُها، ولا يَصحُّ وقفُها، ولا الوقفُ عليها، وللإمام أن يقطِعَها وأوقافها لجند الإسلام، ويستعينَ بها على مصالح المسلمين، وكذلك ما فيها من الآلات، والمتاع، والنذور التى تُساق إليها، يُضاهىَ بها الهدايا التى تُساق إلى البيت الحرام، للإمام أخذُها كلها، وصرفها فى مصالح المسلمينَ، كما أخذ النبى صلى الله عليه وسلم أموال بيوت هذه الطواغيت، وصرفها فى مصالح الإسلام، وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد، سواء من النذور لها، والتبركِ بها، والتمسح بها، وتقبيلها، واستلامها. هذا كان شِركَ القوم بها، ولم يكونوا يعتقِدون أنها خَلَقَتِ السَّمواتِ والأرضَ، بل كان شِركُهم بها كشِرك أهلِ الشِّرك من أرباب المشاهِد بعينه. ومنها: استحبابُ اتخاذِ المساجد مكانَ بيوت الطواغيت، فيُعبد اللهُ وحدَه، لا يُشْرَك به شيئاً فى الأمكنه التى كان يُشرَكُ به فيها، وهكذا الواجبُ فى مثل هذه المشاهد أن تُهدَمَ، وتُجعلَ مساجِدَ إن احتاج إليها المسلمون، وإلا أقطعها الإمامُ هى وأوقافُها للمقاتلة وغيرهم. ومنها: أن العبدَ إذا تعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم، وتَفَلَ عن يساره، لم يضُرَّه ذلك، ولا يقطعُ صلاته، بل هذا مِن تمامها وكمالها.. والله أعلم. فصل فى دخول العرب فى دين الله أفواجاً قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضَرَبَتْ إليه وفُود العرب مِن كل وجه، فدخلوا فى دين الله أفواجاً يضربِون إليه مِن كل وجه. فصل فى قدوم وفد بنى عامر وقد تقدم ذكر وفد تميم ووفد طيئ. ذكر وفد بنى عامر، ودعاء النبىِّ صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطُّفيل وكفاية الله شره وشر أَرْبَد بن قيس بعد أن عصم منهما نبيه روينا فى كتاب ((الدلائل)) للبيهقى، عن يزيد بن عبد الله أبى العلاء، قال: وَفَدَ أبى فى وَفْدِ بنى عامر إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أنت سيدُنا، وذُو الطَّوْل علينا فقال: ((مَهْ مَهْ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، وَلا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانَ، السَّيِّدُ الله)). روينا عن ابن إسحاق، قال: لما قدم على رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وفدُ بنى عامر فيهم عامرُ بن الطُّفيل، وأرْبَدُ بن قيسٍ بن جزء بن خالد بن جعفر، وجَبَّارُ بن سُلْمَى ابن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء النَّفَر رؤساءَ القوم وشياطينهم، فقدم عدوُّ الله عامرُ بنُ الطُّفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهُوَ يريد الغدرَ به، فقال له قومُه: يا عامر؛ إنَّ الناس قد أسلموا، فقال: واللهِ لقد كنتُ آليتُ ألا أنتهىَ حتَّى تتبع العرب عَقِبَى، وأنا أتبعُ عَقِبَ هذا الفتى مِن قريش، ثم قال لأرْبَد: إذا قَدِمنا على الرجل، فإنى شاغل عنك وجهه، فإذا فعلتُ ذلك، فاعْلُهُ بالسِّيف، فلما قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عامر: يا محمد؛ خالِّنى. قال: ((لا واللهِ حتى تُؤمِنَ بالله وحدّه)). قال: يا محمد؛ خالِّنى. قال: ((حتى تؤمنَ بالله وحده لا شريك له))، فلما أبى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قال له: أما واللهِ لأملأنها عليكَ خـيلاً ورِجالاً. فلما ولَّى، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اكْفِنى عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْل))، فلما خرجوا مِن عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال عامر لأرْبَد: ويحك يا أربد، أين ما كُنْتُ أمَرْتُك بِه؟ واللهِ ما كان على وجه الأرض أخوفُ عندى على نفسى منك، وايمُ اللهِ لا أخافُك بعد اليوم أبداً. قال: لا أبا لك، لا تَعْجَلْ علىَّ، فواللهِ ما هممتُ بالذى أمرتنى به، إلا دخلتَ بينى وبين الرجل، أفأضرِبُك بالسيف؟ ثم خرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطُّفيل الطاعونَ فى عنقه، فقتله الله فى بيت امرأة من بنى سَلول، ثم خرج أصحابُه حين رأوه حتى قَدِمُوا أرض بنى عامر، أتاهم قومُهم فقالوا: ما وراءك يا أربَد؟ فقال: لقد دعانى إلى عبادة شىء لوددتُ أنه عندى فأرمِيَه بنبلى هذه حتى أقتُلَه، فخرج بعد مقالته بيوم أو بيومين معه جمل يتبعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما، وكان أربد أخا لبيد بن ربيعة لأُمه، فبكى ورثاه. وفى ((صحيح البخارى)) أنَّ عامِرَ بنَ الطُّفيل أتى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: أُخيِّرُك بَيْنَ ثَلاثِ خِصال: يكونُ لك أهلُ السهلِ، ولى أهلُ المدر، أو أكونُ خليفَتك من بعدك، أو أغزوك بغَطَفَان بألف أشقر، وألف شقراء، فطُعِنَ فى بيت امرأة فقال: أغُدَّة كَغُدَّةِ البَكْر فى بيت امرأة من بنى فلان؟ ائتونى بفرسى، فركِبَ، فمات على ظهر فرسه. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#14 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
فى قدوم وفد عبد القيس وما فى قصتهم من الفوائد فى ((الصحيحين)) مِن حديث ابنِ عباس: أنَّ وفدَ عبد القيس قَدِمُوا على النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مِمَّنِ القَوْمُ))؟ فقالوا: مِن رَبيعة. فقال: ((مَرْحَباً بِالوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى)). فقالوا: يا رسول الله؛ إن بيننا وبينك هذا الحىَّ مِن كفار مُضَرَ، وإنَّا لا نِصِلُ إليك إلا فى شهرٍ حرام، فمُرنا بأَمْرٍ فَصْلٍ نأخذُ به ونأمر به مَن وراءنا، وندخُل به الجنَّة، فقال: ((آمُرُكُم بأَرْبَعٍ، وأَنْهاكُم عَنْ أَرْبَع: آمُرُكُم بالإيمَانِ باللهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الإيمان بالله؟ شَهَادَةُ أَنْ لا إلَه إلا اللهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وإقَام الصَّلاةِ، وإيتَاء الزَّكَاةِ، وصَوْم رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعطُوا الخُمْسَ مِنَ المَغْنَم. وأَنْهَاكُمْ عَنْ أرْبَع: عَنِ الدُّبَّاءِ، والحَنْتَم، والنَّقِير، والمُزَفَّتِ، فَاحْفَظُوهُنَّ وادْعُوا إلَيْهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُم)). زاد مسلم: قالوا: يا رسول الله؛ ما عِلمُكَ بِالنَّقِير؟ قال: ((بلى جِذع تَنقُرُونَهُ، ثمَّ تُلْقُونَ فيه مِن التَّمْرِ، ثُمَّ تَصُبُّونَ عَلَيْهِ المَاءَ حَتَّى يَغلِىَ، فإذَا سَكَنَ، شَرِبْتُمُوهُ، فعسى أحَدُكُم أَنْ يَضْرِبَ ابْنَ عَمِّهِ بالسَّيفِ))، وفى القوم رجل به ضربة كذلك. قال: وكنت أخبؤها حَياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ففيم نشرَبُ يا رسـول الله؟ قال: ((اشْرَبُوا فى أسْقِيَةِ الأدَمِ التى يُلاثُ عَلَى أفْوَاهِها)). قالوا: يا رسولَ الله؛ إنَّ أرضَنَا كثيرةُ الجِرذان لا تبقى فيها أسقية الأَدَم، قال: ((وإن أكلها الجِرْذَانُ)) مرتين أو ثلاثاً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: ((إنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما الله: الحِلْمُ والأَنَاةُ)). قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن بشر بن المعلَّى وكان نصرانياً، فجاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فى وفد عبد القيس، فقال: يا رسولَ الله؛ إنى على دينٍ، وإنى تاركٌ دِينِى لِدينك، فتضمنُ لى بما فيه؟ قال: ((نعم أَنا ضَامِنٌ لِذلِك، إنَّ الَّذى أدْعُوكَ إلَيْهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِى كُنْتَ عَلَيْهِ))، فأسلمَ وأسلمَ أصـحابه، ثم قال: يا رسولَ الله؛ احملنا. فقال: ((واللهِ مَا عِندى مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)) فقال: يا رسولَ الله؛ إنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَ بلادِنا ضَوَالَّ من ضوالِّ الناس، أفنتبلغُ عليها؟ قال: ((لا، تِلْكَ حَرَقُ النَّارِ)). فصل ما فى هذه القصة من الفوائد ففى هذه القصة: أن الإيمانَ باللهِ هو مجموعُ هذه الخصالِ مِن القول والعمل، كما على ذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون، وتابعوهم كُلُّهم، ذكره الشافعى فى ((المبسوط))، وعلى ذلك ما يُقارب مائة دليل مِن الكتاب والسُّـنَّة. وفيها: أنه لم يَعُدَّ الحجَّ فى هَذِهِ الخصال، وكان قدومُهم فى سنة تِسع، وهذا أحدُ ما يُحتج به على أن الحَجَّ لم يكن فُرِضَ بعد، وأنه إنما فُرِض فى العاشرة، ولو كان فُرِضَ لعدَّه من الإيمان، كما عدَّ الصوم والصلاة والزكاة. وفيها: أنه لا يُكره أن يُقال: ((رمضان)) للشهر خلافاً لمن كره ذلك، وقال: لا يُقال إلا شهر رمضان. وفى ((الصحيحين)): ((مَن صَامَ رمضان إيمَاناً واحْتِسَاباً، غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). وفيها: وجوبُ أداءِ الخُمس من الغنيمة، وأنه من الإيمان. وفيها: النهىُ عن الانتباذ فى هذه الأوعية، وهل تحريمُه باقٍ أو منسوخ؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد. والأكثرون على نسخه بحديث بُرَيدة الذى رواه مسلم وقال فيه: ((وكُنْتُ نَهَيْتُكُم عَن الأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا فِيمَا بَدَا لَكُمْ، ولا تَشْرَبُوا مُسْكِراً)). ومَن قال: بأحكام أحاديث النهى، وأنها غير منسوخة، قال: هى أحاديث تكادُ تبلغ التواتر فى تعددها وكثرة طُرقها، وحديثُ الإباحة فرد، فلا يبلُغْ مقاومتَها، وسر المسألة أن النَّهى عن الأوعية المذكورة من باب سدِّ الذرائع، إذ الشرابُ يُسرع إليه الإسكارُ فيها. وقيل: بل النهى عنها لصلابتها، وأن الشراب يُسكر فيها، ولا يُعلم به بخلاف الظروف غير المزفتة، فإن الشرابَ متى غلا فيها وأسكر، انشقت، فيُعلم، بأنه مسكر، فعلى هذه العِلَّة يكون الانتباذ فى الحجارة، والصُّفر أولى بالتحريم، وعلى الأول لا يحرم، إذ لا يُسرِعُ الإسكار إليه فيها، كإسراعه فى الأربعة المذكورة، وعلى كلا العِلَّتين، فهو من باب سدِّ الذريعة، كالنهى أولاً عن زيارة القبور سداً لذريعة الشِّركِ، فلما استقر التوحيدُ فى نفوسهم، وقوىَ عندهم، أذِن فى زيارتِها، غير أن لا يقولوا هُجراً. وهكذا قد يقال فى الانتباذ فى هذه الأوعية إنه فطمهم عن المسكر وأوعيته، وسدَّ الذريعة إليه إذ كانوا حديثى عهد بشربه، فلما استقر تحريمُه عندهم، واطمأنت إليه نفوسُهم، أباح لهم الأوعية كُلَّها غير أن لا يشربوا مسكراً، فهذا فِقه المسألة وسِرُّها. وفيها: مدح صفتى الحِلم والأناة، وأنَّ الله يحبهما، وضِدهما الطيشُ والعَجَلة، وهما خُلُقَانِ مذمومانِ مفسدان للأخلاق والأعمال. وفيه دليل على أن اللهَ يُحِبُّ من عبده ما جبله عليه من خصال الخير، كالذكاء، والشجاعة، والحِلم. وفيه دليل على أن الخُلُقَ قد يحصل بالتخلُّق والتكلف، لقوله فى هذا الحديث: ((خُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا، أَوْ جَبَلَنى اللهُ عَلَيْهِما))؟، فقال: ((بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا)) وفيه دليل على أنه سُبحانه خالقُ أفعالِ العباد وأخلاقِهِم، كما هو خالقُ ذَوَاتِهِم وصفاتِهِم، فالعبدُ كُلُّه مخلوق ذاتُه وصفاتُه وأفعالُه، ومَن أخرج أفعالَه عن خلق الله، فقد جعل فيه خالقاً مع الله، ولهذا شبَّه السَّلَفُ القَدَرِيَّة النفاة بالمجوس، وقالوا: هم مجوسُ هذه الأُمَّة، صحَّ ذلك عن ابن عباس. وفيه إثباتُ الجَبْلِ لا الجَبْرِ للهِ تعالى، وأنه يَجْبِل عبده على ما يريد، كما جبل الأشجَّ على الحِلم والأناة، وهما فِعلان ناشئان عن خُلُقين فى النفس، فهو سبحانه الذىِ جبل العبدَ على أخلاقه وأفعاله، ولهذا قال الأوزاعى وغيرُه من أئمة السَّلَف: نقول: إن الله جبلَ العبادَ على أعمالهم، ولا نقول: جَبَرَهم عليها. وهذا من كمال علم الأئمة، ودقيقِ نظرهم، فإن الجبر أن يُحْمَل العبد على خلاف مراده، كجبر البِكْر الصغيرة على النكاح، وجبر الحاكم مَن عليه الحق على أدائه، والله سبحانه أقدرُ من أن يجبر عبده بهذا المعنى، ولكنه يجبُلُه على أن يفعل ما يشاء الرب بإرادة عبده واختياره ومشيئته، فهذا لون، والجبر لون. وفيها: أنَّ الرجلَ لا يجوزُ له أن ينتفع بالضالة التى لا يجوز التقاطُها، كالإبل، فإنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لم يجَوِّزْ للجارود ركوب الإبل الضالة، وقال: ((ضالَّةُ المُسلْمِ حَرَقُ النَّارِ))، وذلك لأنه إنما أُمِرَ بتركها، وأن لا يلتقطـها حفظاً على ربِّها حتى يَجِدَها إذا طلبها، فلو جوَّز له ركوبَها والانتفاعَ بها، لأفضى إلى أن لا يقدر عليها ربُّها، وأيضاً تطمع فيها النفوس، وتتملكها، فمنع الشارع من ذلك. فصل فى قدوم وفد بنى حنيفة قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى حنيفة، فيهم مُسَيْلِمةُ الكذَّاب، وكان منزلُهم فى دار امرأة من الأنصار من بنى النجَّار، فأتوا بمُسَيْلِمَةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْتَرُ بالثياب، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، فى يده عَسِيبٌ من سَعَفِ النخل، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب، كلَّمه وسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ سَأَلتنى هذا العَسِيبَ الَّذِى فى يدى مَا أَعْطَيْتُك)). قال ابن إسحاق: فقال لى شيخ من أهلِ اليمامة من بنى حنيفة: إنَّ حديثه كان على غير هذا، زعم أن وفد بنى حنيفة أتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلَّفُوا مُسَيْلِمَةَ فى رحالهم، فلما أسلموا، ذكروا له مكانه، فقالُوا: يا رسول الله؛ إنَّا قد خلَّفنا صاحباً لنا فى رحالنا وركابنا يحفظُها لنا، فـأمر له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما أمر به للقوم، وقال: ((أما إنه ليس بِشَرِّكُم مكاناً))، يعنى حِفظَه ضَيْعَة أصحابِه، وذلك الذى يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم انصرفُوا وجاؤوه بالذى أعطاه، فلما قدموا اليمامه، ارتدَّ عدوُّ اللهِ وتنبَّأ، وقال: إنى أُشْرِكْتُ فى الأمر معه، ألم يَقُلْ لكم حين ذكرتمونى له: ((أما إنه ليس بشرِّكم مكاناً))؟، وما ذاك إلا لما كان يعلم أنى قد أُشركت فى الأمر معه، ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم اللهُ على الحُبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صِفَاقٍ وَحَشا. ووضع عنهم الصلاةَ، وأحلَّ لهم الخمر والزِّنَى، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبىّ، فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك. قال ابن إسحاق: وقد كان كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مِن مُسَيْلِمَة رسول الله إلى محمَّد رسولِ الله، أما بعد: فإنى أُشْرِكْتُ فى الأمر معك، وإن لنا نِصفَ الأمر، ولقريشٍ نصفَ الأمر، وليس قريش قوماً يَعْدِلُون. فقدِم عليه رسولُه بهذا الكتاب، فكتب إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بسم الله الرحمن الرحيم: مِنْ محمَّدٍ رسولِ الله، إلى مُسَيْلِمَة الكذَّاب، سلامٌ على مَن اتَّبع الهُدى. أما بعد: فإن الأرض للهِ يُورثها مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين))، وكان ذلك فى آخر سنة عشر. قال ابن إسحاق: فحدَّثنى سعدُ بنُ طارق، عن سلمة بن نُعيم بن مسعود، عن أبيه، قال: سمعتُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حين جاءه رَسُولا مُسَيْلِمَة الكذَّاب بكتابه يقولُ لهما: ((وأَنْتُمَا تَقُولاَنِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ))؟ قالا: نعم. فقال: ((أمَا واللهِ لَوْلاَ أنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ، لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُما)). وروينا فى ((مسند أبى داود الطيالسى)) عن أبى وائل، عن عبد الله، قال: جاء ابنُ النَّوَّاحة وابنُ أُثَال رسَولين لمُسَيْلِمَة الكذَّاب إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((تشهدَانِ أِّنِّى رَسُول الله))؟ فقالا: نشهد أن مُسَيْلِمَةَ رسولُ الله. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((آمَنْتُ بِاللهِ ورَسُولِهِ، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولاَ لَقَتَلْتُكُما)). قال عبد الله: فمضت السُّـنَّة بأن الرُّسُل لا تُقتل. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#15 |
![]() ![]() |
![]()
وفى ((صحيح البخارى)) عن أبى رجاء العُطَارِدى، قال: لما بُعِثَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعْنَا به، لحقنا بمُسَيْلِمَة الكذَّاب، فلحقنا بالنار، وكنا نعبُدُ الحجرَ فى الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً هو أحسنُ منه، ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجراً، جمعنا جُثْوَةً من تراب، ثم جئنا بالشاةِ فحلبناها عليه، ثم طُفنا به، وكنا إذا دخل رجب، قلنا: جاء مُنْصِلُ الأسِنَّة، فلا نَدَعُ رُمحاً فيه حديدة، ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناها وألقيناها.
قلت: وفى ((الصحيحين)) من حديث نافع بن جُبير، عن ابن عباس، قال: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الكذَّابُ على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فجعل يقولُ: إن جعل لى محمدٌ الأمرَ مِن بعده، تبعتُه، وقَدِمَها فى بَشَرٍ كثير من قومه، فأقبل النبىُّ صلى الله عليه وسلم ومعه ثابتُ بنُ قيس بن شَمَّاس، وفى يدِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم قِطعةُ جـريد حتى وقف على مُسَيْلِمَة فى أصحابه، فقال: ((إن سَأَلْتَنى هذِهِ القِطعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، ولَنْ تَعْدُوَ أمْرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أدْبَرْتَ، ليَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وإنِّى أُرَاكَ الَّذِى أُريتُ فيهِ ما أُريتُ، وهذا ثابت بن قيس يُجيبك عنى)) ثم انصرف. قال ابنُ عباس: فسألتُ عن قول النبى صلى الله عليه وسلم: ((إنَّك الَّذِى أُريتُ فيه ما أُريتُ)) فأخبرنى أبو هريرة، أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فى يَدَىَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَب، فَأَهَمَّنى شأنُهُما، فأُوحِىَ إلىَّ فى المَنامِ أَن انْفُخهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأوَّلْتُهُما كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِى، فَهذانِ هُما، أَحَدُهُما العَنسِى صَاحِبُ صَنْعَاءَ، والآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ صَاحِبُ اليَمَامَةِ)). وهذا أصح من حديث ابن إسحاق المتقدم. وفى ((الصحيحين)) مِن حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَيْنَا أَنا نَائِمٌ إذ أُتيتُ بِخَزَائِنِ الأرْضِ، فوُضِعَ فى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلىَّ وأَهَمَّانى، فأُوْحى إلىَّ أَن انفُخْهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنا بَيْنَهُمَا، صَاحِبَ صَنعَاءَ وصَاحِبَ اليَمَامَةِ)). فصل فى فقه هذه القصة فيها: جوازُ مكاتبةِ الإمام لأهل الرِّدَّة إذا كان لهم شَوْكة، ويكتب لهم ولإخوانهم من الكفار: سلامٌ على مَن اتبَّع الهُدَى. ومنها: أنَّ الرسول لا يُقتل ولو كان مرتداً، هذه السُّـنَّة. ومنها: أنَّ للإمام أن يأتىَ بنفسه إلى مَن قدم يُريد لقاءه من الكفار. ومنها: أنَّ الإمام ينبغى له أن يستعينَ برجل من أهل العلم يُجيب عنه أهلَ الاعتراض والعِناد. ومنها: توكيلُ العالِم لبعض أصحابِه أن يتكلَّم عنه، ويُجيب عنه. ومنها: أنَّ هذا الحديثَ من أكبرِ فضائلِ الصِّدِّيق، فإنَّ النبى صلى الله عليه وسلم نفخ السِّوارين بروحه فطارا، وكان الصِّدِّيق هو ذلك الرُّوح الذى نفخ مُسَيْلِمَة وأطاره. قال الشاعر: فَقُلْـــتُ لَهُ ارْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَحْيِهَا *** بِرُوحِكَ واقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا ومن هاهنا دلَّ لباس الحلى للرجل على نكَدٍ يلحقه وهمٍّ يناله، وأنبأنى أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نِعمة بن سرور المقدسى المعروف بالشهاب العابِر. قال: قال لى رجل: رأيتُ فِى رجلى خِلخالاً، فقلتُ له: تتخلخل رجلك بألم، وكان كذلك. وقال لى آخر: رأيتُ كأن فى أنفى حلقةَ ذهبٍ، وفيها حب مليح أحمر، فقلت له: يقع بك رعاف شديد، فجرى كذلك. وقال آخر: رأيتُ كُلاباً معلقاً فى شفتى، قلت: يقع بك ألم يحتاج إلى الفصد فى شفتك، فجرى كذلك. وقال لى آخر: رأيتُ فى يدى سِواراً والناس يُبصرونه، فقلتُ له: سوء يُبصره الناس فى يدك، فعن قليل طلع فى يده طلوع. ورأى ذلك آخر لم يكن يُبصره الناس، فقلت له: تتزوجُ امرأةً حسنة، وتكون رقيقة. قلتُ: عبَّر له السِّوار بالمرأة لما أخفاه، وستره عن الناس، ووصفها بالحُسن لحُسن منظر الذهب وبهجته، وبالرِّقة لشكل السوار. والحلية للرجل تنصرف على وجـوه. فربما دلَّت على تزويج العُزَّاب لكونها من آلات التزويج، وربما دلَّت على الإماء والسرارى، وعلى الغناء، وعلى البنات، وعلى الخدم، وعلى الجهاز، وذلك بحسب حال الرائى وما يليق به. قال أبو العباس العابر: وقال لى رجل: رأيتُ كأنَّ فى يدى سواراً منفوخاً لا يراه الناس، فقلت له: عندك امرأة بها مرضُ الاستسقاء، فتأمل كيف عبَّر له السِّوار بالمرأة، ثم حكم عليها بالمرض لصُفرة السِّوار، وأنه مرض الاستسقاء الذى ينتفخ معه البطن. قال: وقال لى آخر: رأيتُ فى يدى خلخالاً وقد أمسكه آخر، وأنا ممسك له، وأصيحُ عليه وأقول: اترك خلخالى، فتركـه، فقلتُ له: فكان الخلخالُ فى يدك أملس؟ فقال: بل كان خشناً تألمتُ منه مرةً بعد مرةً، وفيه شراريف، فقلت له: أُمك وخالُك شريفان، ولستَ بشريف، واسمُك عبد القاهر، وخالك لسانه نجس ردىء يتكلم فى عِرضك، ويأخذ مما فى يدك، قال: نعم، قلت: ثم إنه يقع فى يد ظالم متعد، ويحتمى بك، فتشدُّ منه، وتقولُ: خلِّ خالى، فجرى ذلك عن قليل. قلت: تأمل أَخْذَه الخال من لفظ ((الخلخال))، ثم عاد إلى اللفظ بتمامه حتى أخذ منه، خلِّ خالى، وأخذ شرفه من شراريف الخلخال، ودلَّ على شـرف أُمه، إذ هى شقيقة خاله، وحكم عليه بأنه ليس بشريف، إذ شـرفات الخال الدالة على الشرف اشتقاقاً هى فى أمر خارج عن ذاته، واستدل على أن لسانَ خاله لسان ردىء يتكلم فى عِرضه بالألم الذى حصل له بخشونة الخلخال مرة بعد مرة، فهى خشونةُ لسان خاله فى حقه، واستدل على أخذ خاله ما فى يديه بتأذيه به، وبأخذه من يديه فى النوم بخشونته، واستدلَّ بإمساك الأجنبى للخلخال، ومجاذبة الرائى عليه على وقوع الخال فى يد ظالم متعد يطلب منه ما ليس له، واستدلَّ بصياحه على المجاذب له، وقوله: خلِّ خالى على أنه يعين خاله على ظالمه، ويشدٍّ منه، واستدل على قهره لذلك المجاذِب له، وأنه القاهر يده عليه على أنه اسمه عبد القاهر، وهذه كانت حالَ شيخنا هذا، ورسوخه فى علم التعبير، وسمعتُ عليهِ عدة أجزاء، ولم يتفق لى قراءةُ هذا العلم عليه لصغر السن واخترام المنية له رحمه الله تعالى. فصل فى قدوم وفد طيئ على النبى صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: وقدم على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ، وفيهم زيدُ الخيل، وهو سيِّدُهم، فلما انتَهَوْا إليه، كلَّمهم، وعرض عليهم الإسلام، فأسلموا وحَسُن إسلامهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ذُكِرَ لى رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ بِفَضْلٍٍ ثُمَّ جَاءَنى إلاَّ رَأَيْتُه دُونَ ما يُقالُ فيه إلاَّ زَيْدَ الخَيْلِ: فَإنَّه لَمْ يَبْلُغ كُلَّ ما فِيهِ))، ثم سمَّاه: زيد الخير، وقطع له فيداً وأرضين معه، وكتب له بذلك، فخرج من عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى قومه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنْ يُنْجَ زَيْدٌ مِنْ حُمَّى المَدِينَةِ)) فإنَّهُ قال: وقد سمَّاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحُمَّى وغير أُمِّ مَلْدَم، فلم يُثبته، فلما انتهى إلى ماء مِن مياه نجد يقال له: فَرْدَة، أصابته الحُمَّى بها، فمات، فلما أحس بالموت أنشد: أمُرْتَحِلٌ قَوْمِى المَشَـارِقَ غَدْوَةً *** وَأُتْرَكُ فى بـَيْتٍ بفَـرْدَةَ مُنجِد ألا رُبَّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْتُ لَعَادَنى *** عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنَّ يَجْهَــدِ قال ابن عبد البر: وقيل: مات فى آخر خلافة عمر رضى الله عنه، وله ابنان: مُكْنِف، وحُريث، أسلما، وصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدا قِتال أهل الرِّدَّة مع خالدِ بن الوليد. فصل فى قدوم وفد كِندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: حدثنى الزُّهْرى، قال: قدم الأشعثُ بنُ قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثمانين أو ستين راكباً من كِندة، فدخلُوا عليه صلى الله عليه وسلم مسجده قد رَجَّلُوا جُمَمَهم، وتسلَّحوا، ولبسوا جِبَابَ الحِبَرَاتِ مكفَّفة بالحرير، فلما دخلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوَلَمْ تُسْلِموا))؟ قالوا: بلى. قال: ((فَما بالُ هذا الحَرير فى أعْنَاقِكُم))؟. فشقُّوهُ، ونزعوه، وألقَوْه، ثم قال الأشعث: يا رسول الله؛ نحنُ بنو آكـلِ الـمُرار، وأنت ابنُ آكلِ الـمُرار، فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((ناسِبُوا بهذا النَّسَبِ رَبِيعَةَ بن الحارث، والعَبَّاس بن عَبْد المُطَّلب)). قال الزُّهْرى وابن إسحاق: كانا تاجرين، وكانا إذا سارا فى أرض العرب، فسُئِلا مَن أنتُما؟ قالا: نحن بنو آكِلِ الـمُرار، يتعزَّزون بذلك فى العرب، ويدفعون به عن أنفسهم، لأن بنِى آكل الـمُرار من كِندة كانوا ملوكاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بن كِنَانَة لا نَقْفُو أُمَّنا، ولا ننْتَفِى مِنْ أبِينَا)). |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
::: حق الله على العباد ::: لشيخنا الدكتور محمد سعيد رسلان حفظه الله تعالى | Aboabdalah | الصوتيات والمرئيات الإسلامية وأناشيد الأطفال | 2 | 09-16-2009 01:15 AM |