![]() |
|
|
التسجيل | التعليمـــات | التقويم | البحث | مشاركات اليوم | اجعل كافة الأقسام مقروءة |
رياض الصالحين على مذهب أهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
#91 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
عُدنا إلى سِياق حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم. ثمَّ نهض صلى اللَّه عليه وسلم إلى أن نزل بذى طُوى وهى المعروفة الآن بآبار الزاهر، فبات بها ليلةَ الأحد لأربع خَلَوْنَ من ذى الحِجة، وصلَّى بها الصُّبح، ثم اغتسلَ مِنْ يومه، ونهض إلِى مكة، فدخلها نهاراً مِن أعلاها مِن الثنيَّة العُليا التى تُشْرِفُ على الحَجُونِ، وكان فى العُمرة يدخل من أسفلها، وفى الحج دخل من أعلاها، وخرج مِن أسفلها، ثم سار حتى دخلَ المسجد وذلك ضحىً. وذكر الطبرانى، أنه دخلَه من بابِ بنى عبد مناف الذى يُسمِّيه الناسُ اليومَ بابَ بنى شيبة. وذكر الإمام أحمد: أنه كان إذا دخل مكاناً من دار يعلى، استقبل البيت فدعا. وذكر الطبرانى: أنه كان إذا نظر إلى البيت، قال: ((اللَّهُمَّ زدْ بَيْتَكَ هَذَا تَشْريفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْريماً وَمَهَابَةً)). وروى عنه، أنه كان عند رؤيته يرفعُ يديه، ويُكبِّر ويقُول: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومِنْكَ السَّلامُ حَيِّنا رَبَّنا بالسَّلام، اللَّهُمَّ زِدْ هَذا البَيْتَ تَشْرِيفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةً، وزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَكْريماً وتَشْريفاً وتَعْظيماً وبِرَّاً)) وهو مرسل، ولكن سمع هذا سعيدُ بن المسِّيب من عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضى اللَّه عنه يقوله. فلما دخل المسجد، عَمَدَ إلى البيت ولم يركع تحيةَ المسجد، فإنَّ تحيةَ المسجدِ الحرام الطَّوافُ، فلما حاذى الحجَر الأسود، استلمه ولم يُزاحِمْ عليه، ولم يتقدّم عنه إلى جهة الرُّكن اليمانى، ولم يرفع يديه، ولَم يَقُلْ: نويتُ بطوافى هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتَّكْبير كما يفعله مَن لا علم عنده، بل هو مِن البِدَع المُنكرات، ولا حاذى الحَجَرَ الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجَعله على شِقه، بل استقبلَه واستلمه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيتَ عن يساره، ولم يدعُ عند الباب بدُعاء، ولا تحت الميزاب، ولا عِند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقَّتَ لِلطَّوَافِ ذِكراً معيناً، لا بفعله، ولا بتعليمِه، بل حُفِظَ عنه بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار} [البقرة: 201] ورمَل فى طوافه هَذَا الثلاثة الأشواط الأول، وكان يُسرع فى مشيه، ويُقارِبُ بين خُطاه، واضطبع بردائه فجعل طرفيه على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، والمحجنُ عصا محنيَّة الرأس. وثبت عنه، أنه استلم الركن اليمانى. ولم يثبتْ عنه أنه قبَّله، ولا قبَّل يده عند استلامه، وقد روى الدارقطنى، عن ابن عباس: ((كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُ الركن اليمانى، ويضع خده عليه))، وفيه عبد اللَّه بن مسلم بن هُرمز، قال الإمام أحمد: صالحُ الحديثِ وضعَّفه غيره. ولكن المرادَ بالرُّكن اليمانِى ههنا، الحجرُ الأسود، فإنه يُسمَّى الركنَ اليمانى ويُقالُ له مع الركن الآخر: اليمانيان، ويقال له مع الركن الذى يلى الحِجر من ناحية الباب: العراقيان، ويقال للرُّكنين اللذين يليان الحِجر: الشاميان. ويقال للركن اليمانى، والذى يلى الحِجر مِن ظهر الكعبة: الغربيان، ولكن ثبت عنه، أنه قبَّل الحجر الأسود. وثبت عنه، أنه استلمه بيده، فوضع يده عليه، ثم قبَّلها، وثبت عنه، أنه استلمه بمحجن، فهذه ثلاث صفات، وروى عنه أيضاً، أنه وضع شفتيه عليه طويلاً يبكى. وذكر الطبرانى عنه بإسناد جيد: أنه كان إذا استلم الرُّكن اليمانى، قال: ((بسْم اللَّه واللَّه أكْبَر)). وكان كلما أتى على الحجر الأسود قال: ((اللَّهُ أكبَر)). وذكر أبو داود الطيالسى، وأبو عاصم النبيل، عن جعفَر بن عبد اللَّه بن عثمان قال: ((رأيتُ محمد بن عباد بن جعفر قَبَّلَ الحَجَرَ وسَجَدَ عليه، ثُمَّ قال: رأيتُ ابنَ عباس يُقبِّلُه ويسجُد عليه، وقال ابن عبَّاس: رأيتُ عمر بن الخطاب قبَّلَه وسجَدَ عليه. ثم قال: رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلتُ)). وروى البيهقىُّ عن ابن عباس: ((أنه قبَّل الرُكن اليمانى، ثم سَجَدَ عليه، ثم قبَّله، ثم سَجَدَ عليه ثلاثَ مرات)). وذكر أيضاً عنه، قال: ((رأيتُ النبى صلى الله عليه وسلم سجد على الحَجَر))ِ. ولم يستلِمْ صلى الله عليه وسلم، ولم يَمَسَّ مِن الأركان إلا اليمانيين فقط. قال الشافعى رحمه اللَّه: ولم يَدَعْ أحدٌ استلاَمَهما هِجرة لبيتِ اللَّه، ولكن اسْتَلَم ما استَلَمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأَمْسَكَ عَمَّا أَمْسَكَ عَنْهُ. فصل فلما فرغ مِن طوافه، جاء إلى خلفِ المقام، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلى} [البقرة: 125]، فصلَّى ركعتين، والمَقَامُ بينه وبينَ البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتى الإخلاص وقراءته الآية المذكورة بيانٌ منه لتفسير القرآن، ومراد اللَّه منه بفعله صلى اللَّه عليه وسلم، فلما فرغ من صَلاته، أقبل إلى الحجر الأسودِ، فاستلمه. ثم خرج إلى الصَّفا مِن الباب الذى يقابله، فلما قَرُب منه. قرأ: (({إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّه} [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ اللَّه به))، وفى رواية النسائى: ((ابدؤوا))، بصيغة الأمر. ثم رَقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبلَ القِبلة، فوحَّدَ اللَّه وكبَّره، وقال. ((لا إله إلا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَه، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئٍ قدير، لا إله إلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَه)). ثم دعا بين ذلك، وقال مِثلَ هذا ثلاثَ مرات. وقام ابنُ مسعود على الصَّدْع، وهو الشِّقُّ الذى فى الصَّفا. فقيل له: ((هاهنا يا أبَا عبد الرحمن؟ قال: هَذَا والَّذِى لا إلَه غَيْرُه مَقَامُ الذى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورةُ البقرة)) ذكره البيهقى. ثم نزل إلى المروة يمشى، فلما انصبَّت قدماه فى بطن الوادى، سعى حتَّى إذا جاوز الوادى وأَصْعَد، مشى. هذا الذى صحَّ عنه، وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين فى أول المسعى وآخره. والظاهر: أن الوادى لم يتغير عن وضعه، هكذا قال جابر عنه فى ((صحيح مسلم)). وظاهر هذا: أنه كان ماشياً، وقد روى مسلم فى ((صحيحه)) عن أبى الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقولُ: طافَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم فى حَجَّةِ الوَدَاع على رَاحِلَتِه بالبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ لِيَراهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ ولِيَسْألُوه فَإن النَّاسَ قد غشوْه، وروى مسلم عن أبى الزبير عن جابر: ((لم يطف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابُه بين الصَّفَا والمروة إلا طَوَافاً واحِداً طوافه الأول)). قال ابنُ حزم: لا تعارُض بينهما، لأن الراكب إذا انصبَّ به بعيرُه، فقد انصبَّ كُلُّه، وانصبَّتْ قدماه أيضاً مع سائر جسده. وعندى فى الجمع بينهما وجه آخر أحسنُ مِن هذا، وهو أنه سَعَى ماشياً أولاً، ثم أتمَّ سعيَه راكباً، وقد جاء ذلك مصرَّحاً به، ففى صحيح ((مسلم)): عن أبى الطُّفيل، قال: ((قلت لابن عباس: أخبرنى عن الطَّوافِ بين الصَّفَا والمروةِ راكباً، أسُّـنَّة هو؟ فإن قومَك يزعمُون أنه سُّـَّنة. قال: صدقُوا وكذبُوا قال: قُلْتُ: ما قَوْلُك صَدقُوا وكذبُوا؟ قال: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عَلَيْه النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَى خَرَجَ العَوَاتِقُ مِنَ البُيُوتِ. قال: وكانَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: فَلَما كَثُرَ عَلَيْهِ، رَكِبَ، والمشىُ والسَّعى أفضلُ)). فصل وأما طوافُه بالبيت عند قدومه، فاختُلِفَ فيه، هل كان على قدميه، أو كان راكباً؟ ففى ((صحيح مسلم)): عن عائشة رضى اللَّه عنها، قالت: ((طافَ النبى صلى الله عليه وسلم فى حَجَّةِ الوَدَاع حَوْلَ الكعبة على بعيره يستلِمُ الرُّكْنَ كراهية أن يُضْرَبَ عنْه الناسُ)). وفى ((سنن أبى داود)): عن ابن عباس، قال: ((قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم مكة وهو يَشْتَكِى، فَطافَ على راحلِته، كلَّمَا أتى على الرُّكْنِ، استلمه بمِحْجَنٍ، فلما فَرَغَ مِن طوافه، أناخ، فصلَّى ركعتين. قال أبو الطفيل: رأيتُ النبى صلى الله عليه وسلم يطوفُ حولَ البيتِ على بعيره، يَسْتَلِمُ الحجر بمِحْجنِه، ثم يقبِّله)). رواه مسلم دون ذِكر البعير. وهو عند البيهقى، بإسناد مسلم بِذِكْرِ البَعيرِ. وهذا واللَّهُ أعلم فى طواف الإفاضة، لا فى طوافِ القُدوم، فإن جابراً حكى عنه الرملَ فى الثلاثة الأُوَل، وذلك لا يكون إلا مع المشى. قال الشافعى رحمه اللَّه: أما سُبعه الذى طافه لمقدَمِه، فعلى قدميه، لأن جابراً حكى عنه فيه، أنه رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة، فلا يجوز أن يكون جابرٌ يحكى عنه الطواف ماشياً وراكباً فى سُبعٍ واحد. وقد حفظ أن سُبعه الذى ركب فيه فى طوافه يومَ النحر، ثم ذكر الشافعى: عن ابن عُيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمَرَ أصحابَه أن يُهَجِّروا بالإفاضة، وأفاض فى نسائه ليلاً على راحلته يستلم الرُّكن بِمحْجَنِهِ، أحسِبه قال: فيقبِّل طرف المحجن. قلت: هذا مع أنه مرسل، فهو خلاف ما رواه جابر عنه فى ((الصحيح)) أنه طاف طوافَ الإفاضة يوم النحر نهاراً، وكذلك روت عائشة وابنُ عمر، كما سيأتى وقول ابن عباس: إن النبى صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلمه. هذا إن كان محفوظاً، فهو فى إحدى عُمَره، وإلا فقد صح عنه الرمل فى الثلاثة الأُوَل من طواف القدوم، إلا أن يقول كما قال ابن حزم فى السعى: إنه رمل على بعيره، فإن مَن رمل على بعيره، فقد رمل، لكن ليس فى شئ من الأحاديثِ أنه كان راكباً فى طواف القدوم. واللَّه أعلم. فصل وقال ابن حزم: وطاف صلى اللَّه عليه وسلم بين الصفا والمروة أيضاً سبعاً، راكباً على بعيره يَخُبُّ ثلاثاً، ويمشى أربعاً، وهذا مِن أوهامه وغلطه رحمه اللَّه، فإن أحداً لم يقُلْ هذا قطُّ غيره، ولا رواه أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم البتة. وهذا إنما هو فى الطواف بالبيت، فغلِط أبو محمد، ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة. وأعجبُ من ذلك، استدلالُه عليه بما رواه من طريق البخارى، عن ابن عمر، ((أن النبى صلى الله عليه وسلم طافَ حينَ قَدِم مكة، واستلم الركنَ أوَّل شئ، ثم خَبَّ ثلاثةَ أطواف، ومشى أربعاً، فركع حين قَضَى طوافَه بالبيت، وصلَّى عند المَقَام رَكعتين، ثم سلَّم فانصرف، فأتى الصَّفا، فطاف بالصَّفا والمروةِ سبعة أشواط...)) وذكر باقى الحديث. قال: ولم نجد عدد الرَّمَل بين الصَّفا والمروة منصوصاً، ولكنه متفق عليه. هذا لفظه. قلت: المتفقُ عليه: السعىُ فى بطن الوادى فى الأشواط كلِّها. وأما الرَّمَلُ فى الثلاثة الأُوَل خاصَّة، فلم يقُله، ولا نقله فيما نعلمُ غيرُه. وسألت شيخنا عنه، فقال: هذا مِن أغلاطه، وهو لم يحجَّ رحمه اللَّه تعالى. ويشبه هذا الغلطَ، غلطُ مَن قال: إنه سعى أربَع عشرةَ مرة، وكان يحتسِبُ بذهابه ورجوعِه مرة واحدة. وهذا غلط عليه صلى اللَّه عليه وسلم، لم ينقله عنه أحد، ولا قاله أحدٌ من الأئمة الذين اشتهرت أقوالُهم، وإن ذهب إليه بعضُ المتأخرين من المنتسبين إلى الأئمة. ومما يبين بُطلان هذا القول، أنه صلى الله عليه وسلم لا خلاف عنه، أنه ختم سعيه بالمروة، ولو كان الذهابُ والرجوعُ مرة واحدة، لكان ختمُه إنما يقع على الصَّفا. وكان صلى اللَّه عليه وسلم إذا وصل إلى المروة، رَقِىَ عليها، واستقبل البيتَ، وكبَّر اللَّهَ ووحَّده، وفعل كما فعل على الصَّفا، فلما أكمل سعيه عند المروة، أمرَ كُلَّ مَن لا هَدْى معه أن يَحِلَّ حتماً ولا بُدَّ، قارناً كان أو مفرداً، وأمرهم أن يَحِلُّوا الحِلَّ كُلَّهُ مِن وَطْءِ النِّساء، والطِّيب، ولُبس المخيط، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التَّرْوِيَةِ، ولم يَحِلَّ هو مِن أجلِ هَدْيه. وهناك قال: ((لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْىَ، وَلَجعَلْتُها عُمْرَةً)). |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#92 |
![]() ![]() |
![]()
وقد روى أنه أحلَّ هو أيضاً، وهو غلط قطعاً، قد بينَّاه فيما تقدم.
وهُناك دعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصِّرين مرة. وهناك سأله سراقةُ بن مالك بن جُعْشُم عقيبَ أمره لهم بالفسخ والإحلال: هل ذلك لِعامِهم خاصة، أم للأبد؟ فقال: ((بَلْ لِلأبد)). ولم يَحِلَّ أبو بكر، ولا عُمر، ولا علىٌّ، ولا طلحةُ، ولا الزبيرُ من أجل الهَدْى. وأما نساؤه صلى اللَّه عليه وسلم، فأحللن، وكُنَّ قارنات، إلا عائشة فإنها لم تَحِلَّ من أجل تعذُّرِ الحل عليها لحيضها، وفاطمة حلَّت، لأنها لم يكن معها هَدْى، وعلىّ رضى اللَّه عنه لم يَحِلَّ مِن أجل هَدْيه، وأمر صلى الله عليه وسلم مَن أهل بإهلالِ كإهلاله أن يُقيم على إحرامه إن كان معه هَدْى، وأن يَحِلَّ إن لم يكن معه هَدْى. وكان يُصلِّى مدة مُقَامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذى هو نازِل فيه بالمسلمين بظَاهِر مكَّة، فأقام بظاهرمكة أربعةَ أيَّام يَقْصُرُ الصَّلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يومُ الخميس ضُحىً، توجَّه بمن معه مِن المسلمين إلى مِنَى، فأحرم بالحجِّ مَنْ كان أحلَّ منهم مِن رحالهم، ولم يدخُلُوا إلى المسجد، فأحرمُوا منه، بل أحرمُوا ومكةُ خلفَ ظهورهم، فلما وصل إلى مِنَى، نزل بها، وصلَّى بها الظهرَ والعصرَ، وبات بها، وكان ليلةَ الجمعة، فلما طلعتِ الشمسُ، سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضبٍّ على يمين طريق النَّاس اليوم، وكان مِن أصحابه الملبِّى، ومنهم المُكبِّرُ، وهو يسمَعُ ذلك ولا يُنْكِرُ على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَتْ له بِنَمِرَة بأمره، وهى قرية شرقى عرفات، وهى خرابٌ اليوم، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمسُ، أمر بناقته القَصواء فَرُحِلتْ، ثم سار حتى أتى بَطن الوادى من أرض عُرَنَةَ. فخطب النَّاسَ وهو على راحِلته خُطبة عظيمة قرَّرَ فيها قواعِد الإسلام، وهَدَمَ فيها قواعِدَ الشِّرْكِ والجاهلية، وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التى اتفقت المِللُ على تحريمها، وهى الدِّماءُ، والأموالُ، والأعراض، ووضع فيها أُمورَ الجاهلية تحتَ قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كُلَّه وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيراً، وذكر الحقَّ الذى لهن والذى عليهن، وأن الواجبَ لهن الرزقُ والكِسوةُ بالمعروف، ولم يُقدِّر ذلك بتقدير، وأباح للأزواج ضربَهن إذا أَدْخَلْن إلى بيوتهن مَنْ يكرهه أزواجُهن، وأوصى الأُمَّة فيها بالاعتصام بكتاب اللَّه، وأخبر أنهم لن يَضِلِّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم: بماذا يقولُون، وبماذا يشهدون، فقالوا: نشهد أنك قد بَلَّغَت وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فرفع أُصبعه إلى السماء، واستشهد اللَّهَ عليهم ثلاثَ مرات، وأمرهم أن يُبَلِّغ شاهدُهم غائبَهم. قال ابن حزم: وأرسلت إليه أمُّ الفضل بنت الحارث الهِلالية وهى أمُّ عبد اللَّه بن عباس، بقدح لبن، فشربه أمامَ النَّاس وهو على بعيره فلما أتم الخُطبة، أمر بلالاً فأقام الصلاة، وهذا من وهمه رحمه اللَّه، فإن قِصة شربه اللبن، إنما كانت بعد هذا حين سار إلى عرفة ووقف بها، هكذا جاء فى ((الصحيحين)) مصرَّحاً به عن ميمونة: ((أن الناسَ شَكُّوا فى صِيام النبى صلى الله عليه وسلم يومَ عرفة، فأرسلت إليه بحِلاب وهو واقِف فى الموقف، فشرِب منه والناسُ ينظرون)). وفى لفظ: ((وهو واقف بعرفة)). وموضعُ خُطبته لم يكن من الموقف، فإنه خطب بِعُرَنَة، وليست من الموقف، وهو صلى الله عليه وسلم نزَل بِنَمِرَةَ، وخطب بِعُرَنَة، ووقف بِعَرفَة، وخطب خُطبة واحدة، ولم تكن خطبتين، جلس بينهما، فلما أتمها، أمَرَ بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسرَّ فيهما بالقراءة، وكان يومَ الجمعة، فدل على أن المسافِر لا يُصلِّى جمعة، ثم أقام فصلَّى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة، وصلُّوْا بصَلاتِه قصراً وجمعاً بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع، ومَن قال: إنه قال لهم: ((أتِمُّوا صَلاتَكُم فإنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ))، فقد غلط فيه غلطاً بيِّناً، ووهم وهما قبيحاً. وإنما قال لهم ذلك فى غزاة الفتح بجوف مكة، حيث كانوا فى ديارهم مقيمين. ولهذا كان أصحَّ أقوالِ العلماء: أن أهل مَكّة يَقْصُرُون ويجمعون بعرفة، كما فعلُوا مع النبى صلى الله عليه وسلم، وفى هذا أوضحُ دليل، على أن سفر القصر لا يتحدَّدُ بمسافةٍ معلومة، ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنُّسُكِ فى قصر الصلاة البتة، وإنما التأثيرُ لما جعله اللَّه سبباً وهو السفرُ ، هذا مقتضى السنة ، ولا وجه لما ذهب إليه المحددون. فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف فى ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ، واستقبل القِبْلة، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذَ فى الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: ((وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ)). وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها مِن إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نَجْدٍ، فسألوه عن الحجِّ، فقال: ((الحَجُّ عَرَفَةُ، مَن جَاء قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ، أيَّامُ مِنَى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فى يَوْمَيْن، فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عليه)). وكان فى دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وذكر من دعائه صلى الله عليه وسلم فى الموقف: ((اللَّهُمَ لَكَ الحَمْدُ كالَّذِى نَقُولُ، وخَيْراً مِمَّا نقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلاتى وَنُسُكى، ومَحْيَاىَ، ومَمَاتِى، وَإليكَ مَآبى، ولَكَ ربِّى تُراثى، اللَّهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمْرِ، اللَّهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تِجِئ به الرِّيحُ)) ذكره الترمذى. ومما ذُكِرَ مِن دُعائه هناك: ((اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كَلامى، وتَرَى مَكَانى، وتَعْلَمُ سرِّى وعَلانيتى، لا يخفى علَيْكَ شَئٌ مِنْ أَمْرى، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بِذُنُوبى، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لا تَجْعلنى بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بى رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ)) ذكره الطبراني. وذكر الإمام أحمد: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: كان أكثرُ دُعاءِ النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفة: ((لا إله إلاَّ اللَّهُ وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئ قَدِير)). وذكر البيهقىُّ من حديث علىّ رضى اللَّهُ عنه، أنه صلَّى اللَّه عليه وسلم قال: ((أَكْثَرُ دُعائى ودُعاءِ الأَنْبيَاء مِنْ قَبْلى بِعَرَفَةَ: لا إله إلاَّ اللَّه وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَئ قَدِير، اللَّهُمَّ اجْعَل فى قَلبى نُوراً، وفى صَدْرى نُوراً، وفى سَمْعى نُوراً، وفى بَصَرى نُوراً، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لى صَدْرِى، ويَسِّرْ لى أَمْرى، وأعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْواسِ الصَّدْرِ، وشَتَات الأمْر، وفِتْنةِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ إنى أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما يَلِجُ فى اللَّيْل، وشَرِّ ما يَلِجُ فى النَّهارِ، وشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّياحُ، وشَرِّ بَوائِق الدَّهْر)). وأسانيدُ هذه الأدعية فيها لين. وهناك أُنزِلَتْ عليه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3]. وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرِم فمات، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُكفَّنَ فى ثَوْبَيْهِ، ولا يُمَسَّ بِطِيبٍ، وأن يُغَسَّل بمَاءٍ وَسِدْرٍ، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا وَجْهُهُ، وأَخْبَرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُلَبِّى. وفى هذه القصة اثنا عشر حُكماً. الأول: وجوبُ غسلِ الميت، لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم به. الحكم الثانى: أنه لا يَنْجُسُ بالموت، لأنه لو نجس بالموت لم يَزِدْهُ غسلُه إلا نجاسة، لأن نجاسة الموتِ للحيوان عينية، فإن ساعد المنجِّسون على أنه يَطْهُرُ بالغَسل، بطل أن يكون نَجساً بالموت، وإن قالوا: لا يطهُرُ، لم يزد الغسلُ أكفانَه وثيابه وغاسله إلا نجاسة. الحكم الثالث: أنَّ المشروعَ فى حقِّ الميت، أن يُغسَّل بماءٍ وسِدْرٍ لا يُقتصر به على الماء وحده، وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالسدر فى ثلاثة مواضع، هذا أحدُها. والثانى: فى غسل ابنته بالماءوالسدر.والثالث: فى غسل الحائض. وفى وجوب السِّدرِ فى حقِّ الحائِض قولان فى مذهب أحمد. الحكم الرابع: أنَّ تغيَّر الماء بالطاهرات، لا يسلُبُه طهوريَّتَه، كما هو مذهب الجمهور، وهو أنصُّ الروايتين عن أحمد، وإن كان المتأخِّرون من أصحابه على خلافها. ولم يأمر بغسله بعد ذلك بماءٍ قَراح، بل أمر فى غَسلِ ابنته أن يجعلْنَ فى الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، ولو سلبه الطَّهورِيَّة، لنهى عنه، وليس القصدُ مجردَ اكتساب المَاء من رائحته حتى يكونَ تغير مجاورة، بل هو تطييب البدنِ وتصليبه وتقويتُه، وهذا إنما يحصُل بكافُور مخالِط لا مجاوِر. الحكم الخامس: إباحةُ الغسل للمحرم، وقد تناظر فى هذا عبدُ اللَّهِ بنُ عباس، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ، فَفَصَلَ بينهما أبُو أيوب الأنصارى، بأنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم اغتسلَ وهو مُحْرِمٌ. واتفقوا على أنه يغتسِل من الجنابة، ولكن كره مالك رحمه اللَّه أن يُغَيِّبَ رأسه فى الماء، لأنه نوع سِتر له، والصحيحُ أنه لا بأس به، فقد فعله عمرُ بن الخطاب وابنُ عباس. الحكم السادس: أن المحرم غيرُ ممنوع من الماء والسِّدْرِ. وقد اختُلِفَ فى ذلك، فأباحه الشافعىُّ، وأحمد فى أظهر الروايتين عنه، ومنع منه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد فى رواية ابنه صالح عنه. قال: فإن فعل، أهدى، وقال صاحبا أبى حنيفة: إن فعل، فعليه صدقة. وللمانعين ثلاث علل. إحداها: أنه يقتُل الهَوَامَّ من رأسه، وهو ممنوع من التفلِّى. الثانية: أنه ترفُّه، وإزالةُ شَعَثٍ يُنافى الإحرام. الثالثة: أنه يستَلِذُّ رائحتَه، فأشبه الطِّيب، ولا سيما الخطمى. والعلل الثلاث واهية جداً، والصواب: جوازه للنص، ولم يُحرِّم اللَّهُ ورسوله على المحرِم إزالة الشَّعَثِ بالاغتسال، ولا قتل القمل، وليس السِّدْرُ من الطيب فى شئ. الحكم السابع: أن الكفنَ مقدَّم على الميراث، وعلى الدَّيْن، لأن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر أن يُكفَّن فى ثوبيه، ولم يسأل عن وارثه، ولا عن دَيْنٍ عليه، ولو اختلف الحالُ، لسأل. وكما أن كِسوته فى الحياة مقدَّمة على قضاء دَينه، فكذلك بعد الممات، هذا كلامُ الجمهور، وفيه خلاف شاذ لا يُعَوَّلُ عليه. الحكم الثامن: جواز الاقتصارِ فى الكفن على ثوبين، وهما إزارٌ ورداء، وهذا قول الجمهور. وقال القاضى أبو يعلى: لا يجوز أقلُّ من ثلاثة أثواب عند القدرة، لأنه لو جاز الاقتصارُ على ثوبين، لم يجز التكفين بالثلاثة لمن له أيتام، والصحيح خلاف قوله، وما ذكرهُ يُنقض بالخشن مع الرفيع. الحكم التاسع: أن المحرم ممنوعٌ من الطِّيب، لأن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يُمَسَّ طيباً، مع شهادته له أنه يُبعث ملبِّياً، وهذا هو الأصل فى منع المحرِم مِن الطِّيب. وفى ((الصحيحين)) من حديث ابن عمر: ((لا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَاب شَيْئاً مَسَّه وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَان)). |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#93 |
![]() ![]() |
![]()
وأمر الذى أحرم فى جُبَّة بعد ما تضمَّخَ بالخَلُوق، أن تُنْزَعَ عَنْهُ الجُبَّةُ، ويُغْسَلَ عَنْهُ أَثَرُ الخَلُوقِ. فعلى هذه الأحاديث الثلاثة مدارُ منع المحرِم من الطيب. وأصرحُها هذه القصة، فإن النهى فى الحديثين الأخيرين، إنما هو عن نوع خاصٍّ من الطيب، لا سيما الخَلوقَ، فإن النهى عنه عام فى الإحرام وغيره.
وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يُقرب طيباً، أو يمس به، تناول ذلك الرأسَ، والبدن، والثياب، وأما شمُّه من غير مسٍّ، فإنما حرَّمه مَن حرَّمه بالقياس، وإلا فلفظُ النهى لا يتناوله بصريحه، ولا إجماعَ معلومٌ فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمُه من باب تحريم الوسائل، فإنَّ شمه يدعو إلى ملامسته فى البدنِ والثياب، كما يحرم النظر إلى الأجنبية، لأنه وسيلة إلى غيره، وما حَرُمَ تحريم الوسائِل، فإنه يُباح للحاجة، أو المصلحة الرَّاجِحة، كما يُباح النظر إلى الأَمَة المُستَامَةِ، والمخطُوبة، ومن شَهِدَ عليها، أو يعاملها، أو يَطُبُّها. وعلى هذا، فإنما يُمنع المحرمُ مِن قصد شمِّ الطيب للترفُّه واللَّذة، فأما إذا وصلت الرائحةُ إلى أَنفه من غير قصد منه، أو شمَّه قصداً لاستعلامه عند شرائه، لم يُمنع منه، ولم يجب عليه سدُّ أنفه، فالأول: بمنزلة نظر الفجأة، والثانى: بمنزلة نظر المُستام والخاطب، ومما يُوضِّح هذا، أن الذين أباحوا للمحرم استدامَة الطيب قبل الإحرام، منهم مَن صرَّح بإباحة تعمُّد شَمِّه بعد الإحرام، صرَّح بذلك أصحاب أبى حنيفة، فقالوا: فى ((جوامع الفقه)) لأبى يوسف: لا بأس بأن يشم طيباً تطيَّب به قبل إحرامه، قال صاحب ((المفيد)): إن الطِّيب يتصلُ به، فيصير تبعاً له ليدفع به أذى التعب بعد إحرامه، فيصير كالسَّحور فى حق الصائم يدفعُ به أذى الجوع والعطش فى الصوم، بخلاف الثوب، فإنه بائن عنه. وقد اختلف الفقهاء، هل هو ممنوع من استدامته، كما هو ممنوع من ابتدائه، أو يجوز له استدامتُه؟ على قولين. فمذهب الجمهور: جوازُ استدامته اتباعاً لما ثبت بالسُّـنَّة الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطيَّبُ قَبْلَ إحْرَامِهِ، ثم يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ فى مَفَارِقِه بَعْدَ إحْرَامِه. وفى لفظ: ((وهو يُلبِّى)) وفى لفظ: ((بَعْدَ ثَلاثٍ)). وكل هذا يدفع التأويل الباطلَ الذى تأوَّله مَن قال: إن ذلك كان قبل الإحرام، فلما اغتسل، ذهب أثره. وفى لفظ: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرِمَ، تَطيَّبَ بأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثم يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ فى رَأْسِهِ وَلِحيَتِهِ بَعْدَ ذلِكَ. وللَّه ما يصنعُ التقليدُ، ونصرة الآراء بأصحابه. وقال آخرون منهم: إن ذلك كان مختصاً به، ويردُّ هذا أمران، أحدهما: أنَّ دعوى الاختصاص، لا تُسْمَعُ إلا بِدليل. والثانى: ما رواه أبو داود، عن عائشة، ((كنا نخرُجُ مع رسولِ صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بالسُّكِّ المُطَيَّبِ عِنْدَ الإحْرَامِ، فَإذَا عَرِقَتْ إحدَانَا، سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهُ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَنْهَانَا)). الحكم العاشر: أن المُحرِم ممنوع مِن تغطية رأسه، والمراتبُ فيه ثلاث: ممنوع منه بالاتفاق، وجائزٌ بالاتفاق، ومختلَف فيه، فالأول: كلُّ متصل ملامس يُرادُ لستر الرأس، كالعِمَامَةِ، والقُبَّعَةِ، والطَّاقيةِ، والخُوذَةِ، وغيرها. والثانى: كالخيمة، والبَيْتِ، والشَّجَرةِ، ونحوها، وقد صحَّ عنِ النبى صلى الله عليه وسلم، أنه ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِنَمِرَةَ وهُوَ مُحْرِمٌ، إلا أن مالكاً منع المحرِم أن يضَعَ ثوبَه على شجرة لِيستَظِلَّ به، وخالفه الأكثرون، ومنع أصحابُهُ المحرِم أن يَمْشِىَ فى ظِلِّ المَحْمِلِ. والثالث: كالمَحْمِل، والمَحَارَةِ، والهَوْدَجِ، فيه ثلاثة أقوال: الجواز، وهو قولُ الشافعى وأبى حنيفة رحمهما اللَّه، والثانى: المنع. فإن فعل، افتدى، وهو مذهبُ مالكٍ رحمه اللَّه. والثالث: المنع، فإن فعل، فلا فِديةَ عليه، والثلاثةُ رواياتٌ عن أحمد رحمه اللَّه. الحكم الحادى عشر: منع المحرم من تغطية وجهه، وقد اختُلِف فى هذه المسألة. فمذهب الشافعى وأحمد فى رواية: إباحته، ومذهب مالك، وأبى حنيفة، وأحمد فى رواية: المنع منه، وبإباحته قال ستة من الصحابة: عثمانُ، وعبدُ الرحمن بن عوف، وزيدُ بن ثابت، والزبيرُ، وسعدُ بن أبى وقاص، وجابرٌ رضى اللَّه عنهم. وفيه قول ثالث شاذ: إن كان حياً، فله تغطية وجهه، وإن كان ميتاً، لم يجز تغطيةُ وجهه، قاله ابنُ حزم، وهو اللائق بظاهريته. واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء الصحابة، وبأصل الإباحة، وبمفهوم قوله: ((ولاَ تُخَمِّرُوا رَأسَه))، وأجابوا عن قوله: ((ولا تُخَمِّروا وجهه))، بأن هذه اللفظة غير محفوظة فيه. قال شعبة: حدثنيه أبو بشر، ثم سألتُه عنه بعد عشر سنين، فجاء بالحديث كما كان، إلا أنه قال: ((لا تُخَمِّروا رَأْسَهُ، ولاَ وَجْهَه)). قالوا: وهذا يدل على ضعفها. قالوا: وقد روى فى الحديث: ((خَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلا تُخَمِّروا رَأْسَهُ)). الحكم الثانى عشر: بقاءُ الإحرامِ بعد الموت، وأنه لا ينقطِعُ به، وهذا مذهبُ عثمانَ، وعلىٍّ، وابن عباس، وغيرهم رضى اللَّه عنهم، وبه قال أحمدُ، والشافعى، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعى: ينقطع الإحرامُ بالموت، ويُصنع به كما يُصنع بالحَلال، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاثٍ)). قالوا: ولا دليلَ فى حديث الذى وقصته راحلتُه، لأنه خاص به، كما قالُوا فى صلاته على النَّجَاشِىِّ: إنها مختصة به. قال الجمهور: دعوى التخصيص على خلاف الأصلِ، فلا تُقبل، وقوله فى الحديث: ((فإنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ مُلبِّياً))، إشارة إلى العِلَّة. فلو كان مختصاً به، لم يُشر إلى العِلَّة، ولا سيما إن قيل: لا يصح التعليلُ بالعِلَّة القاصرة. وقد قال نظير هذا فى شُهداء أُحُد، فقال: ((زَمِّلُوهُمْ فى ثيابهِم، بكُلُوُمهم، فإنَّهُم يُبْعَثُونَ يَومَ القيامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّم، والرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ)). وهذا غيرُ مختص بهم، وهو نظيرُ قوله: ((كَفِّنُوهُ فى ثَوْبيهِ، فإنه يُبعث يوم القيامة مُلَبِّياً)). ولم تقولوا: إن هذا خاص بشهداء أُحُد فقط، بل عدَّيتم الحكم إلى سائر الشهداء مع إمكان ما ذكرتم من التخصيص فيه. وما الفرق؟ وشهادة النبى صلى الله عليه وسلم فى الموضعين واحدة، وأيضاً: فإن هذا الحديث موافق لأصول الشرع والحكمة التى رتب عليها المعاد، فإن العبد يُبعث على ما مات عليه، ومَن مات على حالة بُعِث عليها فلو لم يرد هذا الحديث، لكان أصول الشرع شاهدة به. واللَّه أعلم. فصل عدنا إلى سِياق حَجَّته صلى الله عليه وسلم. فلما غربت الشمسُ، واستحكم غروبُها بحيثُ ذهبت الصُّفرة، أفاض من عرفة، وأردف أُسامةَ بنَ زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضمَّ إليه زِمام ناقتِه، حتى إن رأسَها ليُصِيبُ طَرَفَ رَحْلِهِ وهُو يقول: ((أَيُّهَا النَّاسُ ؛ عَلَيْكُم السَّكِينَةَ، فإنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإيضَاع)). أى: ليس بالإسراع. وأفاض من طريق المَأزِمَيْنِ، ودخل عَرَفة من طريق ضَبّ، وهكذا كانت عادته صلواتُ اللَّه عليه وسلامُه فى الأعيادِ، أن يُخالف الطريق، وقد تقدَّم حكمةُ ذلك عند الكلام على هَدْيه فى العيد. ثم جعل يسيرُ العَنَقَ، وهو ضربٌ من السَّير ليس بالسَّريعِ، ولا البَطئ. فإذا وجد فَجْوةً وهو المتَّسعُ، نَصَّ سيره، أى: رفعه فوق ذلك، وكلما أتى ربوةً من تلك الرُّبى، أرخى للناقة زِمامها قليلاً حتى تصعد. وكان يُلبِّى فى مسيره ذلك، لم يقطع التلبيةَ. فلما كان فى أثناء الطريق، نزل صلواتُ اللَّهِ وسلامه عليه، فبال، وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة: الصلاة يا رَسول اللَّه، فقال: ((الصلاة - أو المُصَلَّى - أَمَامَك)). ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصَّلاة، ثم أمر بالأذان، فأذَّن المؤذِّنُ، ثم أقام، فَصَلَّى المغربَ قبل حطِّ الرِّحَال، وتبريكِ الجمال، فلما حطُّوا رِحالهم، أمر فأقيمتِ الصَّلاةُ، ثم صلَّى عِشاء الآخِرة بإقامة بلا أذان، ولم يُصلِّ بينهما شيئاً. وقد رُوى: أنه صلاَّهما بأذانين وإقامتين، ورُوى بإقامتين بلا أذان، والصحيح: أنه صلاهما بأذان وإقامتين، كما فعل بعرفة. ثم نام حتى أصبح، ولم يُحْى تلك الليلة، ولا صحَّ عنه فى إحياء لَيْلتَى العيدين شئ. ((وأَذِنَ فى تلك الليلة لِضعفةِ أهلِه أن يتقدَّمُوا إلى مِنَى قَبْلَ طُلوعِ الفجر، وكانَ ذلك عِند غيبوبةِ القَمَرِ، وأمرهم أن لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تطلُعَ الشَّمسُ)) حديث صحيح صححه الترمذى وغيره. وأما حديثُ عائشةَ رضى اللَّه عنها: ((أرسلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بأُمِّ سلمةَ ليلةَ النَّحرِ، فرمَتِ الجمرَة قَبْلَ الفَجْرِ، ثم مَضَت، فأفاضَت، وكان ذلك اليومُ الذى يكونُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، تعنى عندها)) رواه أبو داود، فحديث منكر، أنكره الإمام أحمد وغيرُه، ومما يدلُّ على إنكاره أن فيه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُوافى صلاةَ الصُّبح يوم النحر بمكة. وفى رواية: ((تُوافيه بمكة))، وكان يومَها، فأحب أن تُوافِيَه، وهذا من المحال قطعاً. قال الأثرم: قال لى أبو عبد اللَّه: حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب بنتِ أُم سلمة: ((أن النبى صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُوافيه يومَ النحر بمكة))، لم يُسنده غيره، وهو خطأ. وقال وكيع: عن أبيه مرسلاً: ((إن النبى صلى الله عليه وسلم، أمرها أن تُوافِيَه صلاةَ الصبح يومَ النحر بمكة))، أو نحو هذا، وهذا أعجبُ أيضاً، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصُّبح، ما يصنعُ بمكة؟ ينكر ذلك. قال: فجئتُ إلى يحيى بن سعيد، فسألتُه، فقال: عن هشام عن أبيه: ((أمرها أن تُوافى)) وليس ((تُوافيه)) قال: وبين ذَيْنِ فرق. قال: وقال لى يحيى: سل عبد الرحمن عنه، فسألته، فقال: هكذا سفيان عن هشام عن أبيه. قال الخلال: سها الأثرم فى حكايته عن وكيع: ((تُوافيه))، وإنما قال وكيع: توافى مِنَى. وأصاب فى قوله: ((تُوافى)) كما قال أصحابه، وأخطأ فى قوله: ((مِنَى)). قال الخلال: أنبأنا على بن حرب، حدثنا هارون بن عِمران، عن سليمان ابن أبى داود، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ((أخبرتنى أُم سلمة، قالت: قدَّمنى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فيمن قدَّم من أهله لَيلَة المزدلِفَة. قالت: فرميتُ بليل، ثم مضيتُ إلى مكة، فصليتُ بها الصبح، ثم رجعتُ إلى مِنَى)). قلت: سليمان بن أبى داود هذا: هو الدمشقى الخولانى، ويقال: ابن داود. قال أبو زرعة عن أحمد: رجل من أهل الجزيرة ليس بشئ. وقال عثمان بن سعيد: ضعيف. قلت: ومما يدل على بطلانه، ما ثبت فى ((الصحيحين)) عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: ((استأذنتْ سَوْدةُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ المزدَلِفَة، أن تَدْفَعَ قَبْلَه، وقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وكَانَتِ امْرَأة ثَبِطَةً، قالَت: فأَذِنَ لَهَا، فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وحُبِسْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، ولأَنْ أَكُونَ اسْتَأَذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ أَحَبُّ إلىَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ)). فهذا الحديث الصحيحُ، يُبيِّن أن نساءه غير سودة، إنما دفعن معه. فإن قيل: فما تصنعون بحديث عائشة الذى رواه الدارقطنى وغيرُه عنها، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ((أمر نِساءَه أن يخرُجْنَ مِنْ جَمْع لَيْلَةَ جَمْعٍ، فَيرمِينَ الجمرة، ثم تُصبح فى منزلها، وكانت تصنعُ ذلك حتى ماتت)). قيل: يرده محمد بن حميد أحد رواته، كذَّبَه غيرُ واحد. ويردُّه أيضاً: حديثُها الذى فى ((الصحيحين)) وقولها: ((وَدِدْتُ أنى كنت استأذنتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما استأذَنْته سودة))ُ. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#94 |
![]() ![]() |
![]()
وإن قيل: فَهَبْ أنكم يُمكنكم ردُّ هذا الحديث، فما تصنعونَ بالحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه، عن أُم حبيبة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بعث بها مِن جَمْعٍ بليل. قيل: قد ثبت فى
((الصحيحين)) أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَدَّم تِلْكَ اللَّيْلَةَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، وكَانَ ابْنُ عبَّاسِ فيمَن قدَّم. وثبت أنه قدَّم سودَة، وثبت أنه حبس نِساءه عنده حتى دفعن بدفعه. وحديثُ أُم حبيبةَ، انفرد به مسلم. فإن كان محفوظاً، فهى إذاً من الضعفة التى قدَّمها. فإن قيل: فما تصنعون بما رواه الإمامُ أحمد، عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم: ((بعث به مع أهله إلى مِنَى يَوْمَ النَّحْرِ، فَرَمَوُا الجمرة مع الفجر)). قيل: نُقدِّمُ عليه حديثَه الآخر الذى رواه أيضاً الإمامُ أحمد، والترمذى وصححه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قدَّم ضعفةَ أهلِهِ وقال: ((لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسَ)). ولفظ أحمد فيه: قَدَّمَنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أُغَيْلِمَةَ بنى عَبْدِ المُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَاتٍ لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ: ((أَىْ بُنى ؛ لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْس)). لأنه أصح منه، وفيه نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن رمى الجمرة قبل طلوع الشمس، وهو محفوظ بذكر القصة فيه. والحديث الآخر إنما فيه: أنهم رموها مع الفجر، ثم تأملنا فإذا أنه لا تعارض بَيْنَ هذه الأحاديث، فإنه أمر الصبيان أن لا يرمُوا الجمرة حتى تطلُعَ الشمس، فإنه لا عُذر لهم فى تقديم الرمى، أما مَن قدَّمه من النساء، فرمَيْنَ قبل طلوعِ الشَّمْسِ للعُذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحَطْمِهِم، وهذا الذى دلت عليه السُّـنَّة جواز الرمى قبل طلوع الشمس، للعذر بمرض، أو كِبَرٍ يَشُقُّ عليه مزاحمةُ الناس لأجله، وأما القادِرُ الصحيحُ، فلا يجوز له ذلك. وفى المسألة ثلاثة مذاهب، أحدها: الجوازُ بعد نصف الليل مطلقاً للقادر والعاجز، كقول الشافعى وأحمد رحمهما اللَّه، والثانى: لا يجوزُ إلا بعد طلوع الفجر، كقول أبى حنيفة رحمه اللَّه، والثالث: لا يجوزُ لأهل القدرة إلا بعدَ طلوعِ الشمس، كقول جماعة من أهل العلم. والذى دلَّت عليه السُّـنَّة، إنما هو التعجيلُ بعد غيبوبة القمر، لا نصف الليل، وليسَ مع مَن حدَّه بالنصف دليل.. واللَّه أعلم. فصل فى صلاته صلى الله عليه وسلم فى المزدلفة ووقوفه بالمَشْعَرِ الحرام فلما طلع الفجرُ، صلاَّها فى أول الوقت لا قبلَه قطعاً بأذان وإقامة يومَ النحر، وهو يومُ العيد، وهو يومُ الحجِّ الأكبر، وهو يومُ الأذان ببراءة اللَّه ورسولِه مِن كُلِّ مشرك. ثم ركِبَ حتى أتى موقِفَه عند المَشْعَرِ الحَرَامِ، فاستقبل القِبْلة، وأخذ فى الدُّعاء والتضرُّع، والتكبير، والتهليلِ، والذِّكرِ، حتى أسفر جدّاً، وذلك قبلَ طُلوع الشمس. وهنالك سأله عُرْوَةُ بنُ مُضَرِّس الطَّائى، فقال: يا رسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّى جِئْتُ مِنْ جَبَلَىْ طىِّءٍ، أكْلَلْتُ رَاحِلتى، وأتْعَبْتُ نَفْسِى، وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِى مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ شَهِدَ صَلاتَنَا هذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وقَفَ بعَرَفَةَ قَبْلَ ذلِكَ ليلاً أوْ نَهاراً، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّه، وقَضى تَفَثَه)). قال الترمذى: حديث حسن صحيح. وبهذا احتج مَن ذهب إلى أن الوقوفَ بمُزدلفَة والمبيتَ بها، ركن كعرفة، وهو مذهبُ اثنين مِن الصحابة، ابنِ عباس، وابن الزُّبير رضى اللَّه عنهما، وإليه ذهب إبراهيمُ النَّخَعى، والشَّعبى، وعلقمة، والحسنُ البصرى، وهو مذهب الأوزاعى، وحماد بن أبى سليمان، وداود الظاهرى، وأبى عُبيد القاسم بن سلاَّم، واختاره المحمَّدان: ابنُ جرير، وابن خُزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية، ولهم ثلاثُ حجج، هذه إحداها، والثانية: قوله تعالى: {فاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة: 198]. والثالثة: فعلُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذى خرج مخرجَ البيانِ لهذا الذِّكر المأمور به. واحتجَّ مَن لم يره رُكناً بأمرين، أحدهما: أن النبى صلى الله عليه وسلم مدَّ وقتَ الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر، وهذا يقتضى أن مَن وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان، صح حَجُّه، ولو كان الوقوفُ بمزدلفة رُكناً لم يصحَّ حَجُّه. الثانى: أنه لو كان ركناً، لاشترك فيه الرجالُ والنساءُ، فلما قَدَّمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم النساء بالليل، عُلِمَ أنه ليس برُكن، وفى الدليلين نظر، فإن النبى صلى الله عليه وسلم إنما قدَّمهن بعد المبيت بمزدلفة، وذكر اللَّه تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة، والواجبُ هو ذلك. وأما توقيتُ الوقوف بعرفة إلى الفجر، فلا يُنافى أن يكونَ المبيت بمزدلفة رُكناً، وتكونُ تلك الليلة وقتاً لهما كوقت المجموعتين من الصلواتِ، وتضييق الوقت لأحدهما لا يُخرجه عن أن يكون وقتاً لهما حال القدرة. فصل وقف صلى اللَّه عليه وسلم فى موقفه، وأعلم الناس أن مزدلفة كُلَّها موقف، ثم سار مِن مُزْدَلِفَةَ مُرْدِفاً للفضل بن العباس وهو يُلبِّى فى مسيره، وانطلق أُسامةُ بن زيد على رجليه فى سُبَّاقِ قُريش. وفى طريقه ذلك أمر ابنَ عباس أن يَلْقُطَ له حَصى الجِمار، سبعَ حصياتٍ، ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما يفعلُ مَن لا عِلم عنده، ولا التقطها بالليل، فالتقط له سبع حصيات مِنْ حَصَى الخَذْفِ، فجعل يَنْفُضُهُنَّ فى كَفِّهِ ويَقُولُ: ((بأَمْثَال هؤلاء فارْموا، وإيَّاكُم والغُلُوَّ فى الدِّين، فإنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الغُلُوُّ فى الدِّين)). وفى طريقه تلك، عَرَضَتْ له امرأةٌ مِن خَثْعَمَ جَمِيلةٌ، فسألته عن الحجِّ عَنْ أبيها وَكانَ شَيْخاً كَبِيراً لا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فأَمَرَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ، وجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وتَنْظُرُ إلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَصَرَفَهُ إلَى الشِّقِّ الآخَرِ، وَكَان الفَضْلُ وَسِيماً، فَقِيلَ: صَرَف وجْهَهُ عَنْ نَظَرِهَا إلَيْهِ، وقِيلَ: صَرَفَهُ عَنْ نَظَرِهِ إلَيْهَا، وَالصَّوَابُ: أنَّه فَعَلَهُ للأمْرَين، فإنه فى القِصة جعل يَنْظُرُ إليها وتَنْظُرُ إلَيْه. وسأله آخرُ هنالك عن أُمِّه، فقال: إنَّها عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فإن حَمَلْتُها لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وإنْ رَبَطْتُها خَشِيتُ أنْ أَقْتُلَها، فَقَالَ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلى أُمِّك دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ))؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ((فَحُجَّ عنْ أُمِّكَ)). فلما أتى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، حَرَّك ناقتَه وأسرع السَير، وهذه كانت عادتَه فى المواضع التى نزل فيها بأسُ اللَّهِ بأعدائه، فإن هُنالِكَ أصابَ أصحابَ الفيل ما قصَّ اللَّه علينا، ولذلك سُمِّى ذلك الوادى وادىَ مُحَسِّر، لأن الفيل حَسَرَ فيه، أى: أعيى، وانقطع عن الذهاب إلى مكة، وكذلك فعل فى سُلوكه الحِجْرَ دِيارَ ثمود، فإنه تقنَّع بثوبه، وأسرع السَّيْرَ. ومُحَسِّر: برزخٌ بين مِنَى وبين مُزدَلِفة، لا مِن هذه، ولا مِن هذه، وعُرَنَةُ: برزخ بين عرفة والمشعرِ الحرام، فبين كُلِّ مشعرين برزخ ليس منهما، فمِنَى: من الحرم، وهى مَشعر، ومُحَسِّر: من الحرم، وليس بمشعر، ومزدلفة: حرم ومشعر، وعُرَنَةُ ليست مَشعراً، وهى من الحل، وعرفة: حِل ومشعر. وسلك صلى اللَّه عليه وسلم الطريقَ الوُسطى بين الطريقين، وهى التى تخرُج على الجمرة الكُبرى، حتى أتى مِنَى، فأتى جمرة العقبة، فوقف فى أسفلِ الوادى، وجعل البَيْتَ عن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، واستقبلَ الجمرةَ وهو على راحلته، فرماها راكباً بعد طلوع الشمس، واحدة بعد واحدة، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حصاةٍ، وحينئذ قطع التلبية. وكان فى مسيره ذلك يُلَبِّى حتى شرع فى الرمى، ورمى وبلالٌ وأُسامةُ معه، أحدهما آخِذٌ بِخِطام ناقته، والآخر يُظلِّلُه بثوب من الحر. وفى هذا: دليل على جواز استظلال المُحْرِمِ بالمَحْمِلِ ونحوهِ إن كانت قصة هذا الإظلال يَومَ النَّحر ثابتة، وإن كانت بعده فى أيام مِنَى، فلا حُجَّة فيها، وليس فى الحديث بيانٌ فى أى زمن كانت. واللَّه أعلم. فصل فى رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مِنَى وخطبته فيها ثم رجع إلى مِنَى، فخطب الناسَ خُطبة بليغة أعلمهم فيها بحُرمة يومِ النحر وتحريمه، وفضله عند اللَّه، وحُرمة مكةَ على جميع البلاد، وأمرهم بالسَّمْعِ والطَّاعَةِ لِمَن قَادَهُم بِكِتَابِ اللَّهِ، وأَمَرَ النَّاسَ بِأخْذِ مَنَاسِكِهِمْ عَنه، وقال: ((لَعَلِّى لا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِى هذا)). وعلَّمهُم مناسكهم، وأنزلَ المهاجرين والأنصار منازلَهم، وأمرَ الناسَ أن لا يَرْجعُوا بَعْدَهُ كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُهُم رِقَابَ بَعْضٍ، وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وأَخْبَرَ أَنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ. وقال فى خطبته: ((لا يَجْنى جَانٍ إلا على نَفْسِه)). وأنزل المهاجرين عن يمين القِبْلة، والأنصارَ عن يسارها، والناسُ حولهم، وفتح اللَّه له أسماعَ الناس حتى سمعها أهلُ مِنَى فى منازلهم. وقال فى خطبته تلك: ((اعْبُدوا رَبَّكم، وصَلُّوا خَمْسَكُم، وصُومُوا شَهْرَكُم، وأَطيعُوا ذا أَمْرِكُم، تَدْخُلوا جَنَّة رَبِّكُم)). وودع حينئذ الناس، فقالوا: حَجة الوداع. وهناك سُئلَ عمن حلق قبل أن يَرمىَ، وعمَّن ذبح قبل أن يَرمىَ، فقال: ((لا حَرَجَ)) قال عبدُ اللَّهِ بن عمرو: ((ما رأيتُه صلى اللَّه عليه وسلم سئِلَ يومئذٍ عن شئ إلا قال: ((افْعَلُوا وَلاَ حَرَجَ)). قال ابن عباس: ((إنه قيل له - صلى اللَّه عليه وسلم - فى الذبح، والحلق، والرمى، والتقديم، والتأخير، فقال: ((لا حَرَجَ)). وقال أُسامة بنُ شريك: ((خرجتُ مع النبى صلى الله عليه وسلم حاجاً، وكان الناسُ يأتونه، فَمِنْ قَائِل: يا رسولَ اللَّه سعيتُ قبل أن أطوفَ، أو قدَّمت شيئاً أو أخرَّتُ شيئاً، فكان يقول: ((لاَ حَرَجَ لاَ حَرَجَ إلا على رَجُلٍ اقترضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِم وهُوَ ظَالِمٌ، فذِلكَ الذى حَرِجَ وهَلَكَ)). وقوله: سعيتُ قبل أن أطوف، فى هذا الحديث ليس بمحفوظ. والمحفوظ: تقديم الرمى، والنحر، والحلق بعضها على بعض . ثم انصرف إلى المَنْحَرِ بمِنَى، فنحر ثلاثاً وستين بَدَنَة بيده، وكان ينحرُها قائِمةً، معقولةً يدُها اليُسرى. وكان عددُ هذا الذى نحره عددَ سِنى عمره، ثم أمسك وأمر علياً أن يَنْحَرَ ما غبر من المائة، ثم أمر علياً رضى اللَّه عنه، أن يتصدقَ بِجلالِها ولُحومِها وجُلودِها فى المساكين، وأمره أن لا يُعِطىَ الجَزَّار فى جِزَارتِها، شيئاً منها، وقال: نَحْنُ تُعْطِيهِ مِن عِنْدِنَا، وقَالَ: ((مَنْ شاءَ اقْتَطَعَ)). فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديثِ الذى فى ((الصحيحي)) عن أنس رضى اللَّه عنه، قال: ((صلَّى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهرَ بالمدينة أربعاً، والعصرَ بذى الحُليفة ركعتين، فباتَ بها، فلما أصبحَ، رَكِبَ راحِلته، فجعل يُهَلِّلُ ويُسَبِّحُ، فلما عَلاَ عَلَى البيداء، لبَّى بِهِمَا جَمِيعاً، فلما دَخَلَ مَكَّةَ، أَمَرَهُم أَن يَحِلُّوا، ونَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنِ قِياماً، وضَحَّى بِالمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْن)). فالجواب: أنه لا تعارض بين الحديثين. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#95 |
![]() ![]() |
![]()
قال أبو محمد بنُ حزم: مخرج حديث أنس، على أحد وجوهٍ ثلاثةٍ.
أحدها: أنه صلَّى اللَّه عليه وسلم لم ينحر بِيده أكثرَ مِن سبع بُدن، كما قال أنس، وأنه أمر مَن ينحرُ ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين، ثم زال عن ذلك المكانِ، وأمر علياً رضى اللَّه عنه، فنحرَ ما بقى. الثانى: أن يكون أنس لم يُشاهد إلا نحره صلى اللَّه عليه وسلم سبعاً فقط بيده، وشاهد جابر تمامَ نحره - صلى اللَّه عليه وسلم - للباقى، فأخبر كُلٌ منهما بما رأى وشاهد. الثالث: أنه صلى اللَّه عليه وسلم نحر بيده منفرداً سبع بُدن كما قال أنس، ثم أخذ هو وعلىّ الحربة معاً، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين، كما قال غَرَفَةُ بن الحارث الكِندى: ((أنه شاهد النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ قد أخذ بأعلى الحَرْبَةِ وأمر علياً فأخذ بأسفلها، ونحرا بها البدن ثم انفرد علىٌّ بنحر الباقى من المائة))، كما قال جابر. واللَّه أعلم. فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديثِ الذى رواه الإمامُ أحمد، وأبو داود عن علىّ قال: ((لما نَحَرَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُدْنَه، فنحر ثلاثِينَ بِيَدِهِ، وأمرنى فنحرتُ سَائِرَها)). قلنا: هذا غلطٌ انقلب على الراوى، فإن الذى نحرَ ثلاثين: هو علىّ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم نحر سبعاً بيده لم يُشاهده علىّ، ولا جابر، ثم نحر ثلاثاً وستين أخرى، فبقى من المائة ثلاثون، فنحرها علىّ، فانقلب على الراوى عددُ ما نحره علىّ بما نحره النبىُّ صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد اللَّه بن قُرْطٍ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّ أعْظَمَ الأيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحر، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ)). وهو اليومُ الثانى. قال: وقُرِّبَ لِرسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدَنَاتٌ خَمْسٌ فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْن إلَيْهِ بأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ؟ فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُها قَالَ: فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَّةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَقُلْتُ: مَا قَالَ؟ قال: ((مَنْ شَاءَ اقْتَطَع َ)). قيل: نقبله ونصدِّقه، فإن المائة لم تُقَرَّبْ إليه جُملة، وإنما كانت تُقرَّب إليه أرْسَالاً، فقُرِّبَ منهن إليه خمسُ بَدَنَات رَسَلاً، وكان ذلك الرَّسَلُ يُبَادِرْنَ ويَتَقَرَّبْنَ إلَيْهِ لِيبدَأ بكُلِّ واحدة منهن. فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذى فى ((الصحيحين))، من حديث أبى بكرةَ فى خُطبة النبىُّ صلى الله عليه وسلم يومَ النحرِ بمِنَى، وقال فى آخره: ((ثُمَّ انْكَفَأَ إلى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا، وإلى جُزَيْعَةٍ مِنَ الغَنَمِ فقسمها بَيْنَنَا)) لفظه لمسلم. ففى هذا، أن ذبح الكبشينِ كان بمكة، وفى حديث أنس، أنه كان بالمدينة. قيل: فى هذا طريقتانِ للناس. إحداهما: أن القول: قولُ أنس، وأنه ضحَّى بالمدينة بكبشين أملحين أقرنين، وأنه صلَّى العيد، ثم انكفأ إلى كبشينِ، ففصَّل أنس، وميَّز بين نحرِه بمكة للبُدن، وبين نحره بالمدينة للكبشين، وبيَّن أنهما قِصتان، ويدل على هذا أن جميعَ مَن ذكر نحر النبى صلى الله عليه وسلم بمِنَى، إنما ذكروا أنه نَحَرَ الإبِلَ، وهو الهَدْىُ الذى ساقه، وهو أفضلُ من نحر الغنم هناك بلا سوق، وجابر قد قال فى صفة حَجَّة الوداع: إنه رجع من الرمى فنحر البُدن، وإنما اشتبه على بعض الرواة، أن قصة الكبشين كانت يومَ عيد، فظن أنه كان بمِنَى فوهِم. الطريقة الثانية: طريقة ابن حزم، ومَن سلك مسلكه. أنهما عملانِ متغايِرَانِ، وحديثان صحيحان، فذكر أبو بكرة تضحيَته بمكة، وأنس تضحيتَه بالمدينة. قال: وذبح يومَ النحر الغنَم، ونحر البقرَ والإبلَ، كما قالت عائشة: ضحَّى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ عن أزواجه بالبقر، وهو فى ((الصحيحين)). وفى ((صحيح مسلم)): ((ذبحَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرةً يَوْمَ النحر)). وفى السنن: ((أنَّه نحرَ عَنْ آلِ محمَّدٍ فى حَجَّةِ الوَدَاعِ بقرةً واحِدَة))ً. ومذهبُه: أن الحاجَّ شُرِعَ له التضحيةُ مع الهَدْى، والصحيحُ إن شاء اللَّه: الطريقةُ الأولى، وهَدْى الحاج له بمنزلة الأُضحية للمقيم، ولم يَنْقُلْ أحدٌ أن النبى صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابَه، جمعوا بين الهَدْىِ والأُضحية، بل كان هَدْيهُم هو أضاحيهم، فهو هَدْى بمِنَى، وأُضحيةٌ بغيرها. وأما قول عائشة: ((ضحَّى عن نِسائه بالبقر))، فهو هَدْى أُطْلِقَ عليه اسمُ الأُضحية، وأنهن كُنَّ متمتعاتٍ، وعليهن الهَدْىُ، فالبقرُ الذى نحره عنهن هو الهَدْىُ الذى يلزمُهن. ولكن فى قصة نحر البقرة عنهن وهن تسع: إشكال، وهو إجزاء البقرة عن أكثر من سبعة. وأجاب أبو محمد بن حزم عنه، بجواب على أصله، وهو أن عائشة لم تكن معهن فى ذلك، فإنها كانت قارنة وهُنَّ متمتعاتٌ، وعنده لا هَدْىَ على القارِن، وأيَّدَ قوله بالحديث الذى رواه مسلم من حديث هِشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة: ((خرجنا مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُوافين لهِلال ذى الحِجَّةِ، فكنتُ فيمن أهلَّ بِعُمرة، فخرجنا حتى قَدِمنَا مكَّةَ، فأدركنى يومُ عرفة وأنا حائضٌ لم أَحِلَّ من عُمرتى، فشكوتُ ذلك إلى النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((دعى عُمْرَتَك وانْقُضى رَأسَكِ، وامْتَشِطى، وأهلِّى بالحَجِّ)). ((قالت: ففعلتُ، فلما كانت ليلةُ الحَصْبَةِ وقد قضى اللَّه حَجَّنا، أرسلَ معى عبد الرحمن بن أبى بكر، فأردَفنى، وخرج إلى التَّنعِيم، فأهللتُ بعُمرة، فقضى اللَّه حَجَّنَا وعُمرتنا، ولم يكن فى ذلك هَدْى ولا صَدقةٌ ولا صَوْمٌ)). وهذا مسلك فاسد تفرَّد به ابن حزم عن الناس. والذى عليه الصحابةُ، والتابعون ومَن بعدهم أن القارِن يلزمه الهَدْىُ، كما يلزم المتمتِّع، بل هو متمتع حقيقة فى لسان الصحابة كما تقدَّم، وأما هذا الحديثُ، فالصحيح: أن هذا الكلامَ الأخيرَ من قول هشام بن عروة، جاء ذلك فى صحيح مسلم مصرحا به، فقال: حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها... فذكرت الحديث. وفى آخره: قال عروة فى ذلك: ((إنه قَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتها. قال هشام: ولم يكن فى ذلك هَدْىٌ، ولا صِيام، ولا صدقة)). قال أبو محمد: إن كان وكيع جعل هذا الكلامَ لهشام، فابنُ نمير، وعبدة أدخلاه فى كلام عائشة، وكُلٌّ منهما ثقة، فوكيع نسبه إلى هشام، لأنه سمع هشاماً يقوله، وليس قولُ هشام إياه بدافع أن تكون عائشةُ قالته، فقد يَروى المرءُ حديثاً يُسنده، ثم يُفتى به دون أن يُسنده، فليس شئ من هذا بمتدافع، وإنما يتعلَّل بمثلِ هذا مَن لا يُنْصِفُ، ومَن اتبع هواه، والصحيح من ذلك: أن كُلَّ ثقة فمصدَّق فيما نقل. فإذا أضاف عبدة وابنُ نمير القولَ إلى عائشة، صُدِّقَا لعدالتهما، وإذا أضافه وكيع إلى هِشام، صُدِّقَ أيضاً لعدالته، وكُلٌ صحيح، وتكون عائشة قالته، وهشام قاله. قلت: هذه الطريقةُ هى اللائقةُ بظاهريته، وظاهرية أمثاله ممن لا فِقه له فى عِلل الأحاديث، كفقه الأئمة النُّقَّاد أطباء علله، وأهل العناية بها، وهؤلاء لا يلتفِتُون إلى قول مَن خالفهم ممن ليس له ذوقُهم ومعرفتُهم بل يقطعون بخطئه بمنزلة الصَّيارِفِ النُّقَّاد، الذين يُميزون بين الجيِّدِ والردئ، ولا يلتفِتُون إلى خطإ مَن لم يعرِف ذلك. ومن المعلوم، أن عبدة وابن نمير لم يقولا فى هذا الكلام: قالت عائشة، وإنما أدرجاه فى الحديث إدراجاً، يحتملِ أن يكون من كلامهما، أو من كلام عُروة، أو من هشام، فجاء وكيع، ففصَّل وميَّز، ومَن فصَّل وميَّز، فقد حفظ وأتقن ما أطلقه غيره، نعم لو قال ابنُ نمير وعبدة: قالت عائشةُ، وقال وكيع: قال هشامٌ، لساغ ما قال أبو محمد، وكان موضِعَ نظر وترجيح. وأما كونهن تسعاً وهى بقرة واحدة، فهذا قد جاء بثلاثة ألفاظ، أحدها: أنها بقرة واحدة بينهن، والثانى: أنه ضحَّى عنهن يومئذ بالبقر، والثالث: دخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلتُ: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أزواجه. وقد اختلف الناسُ فى عدد مَن تُجزئ عنهم البَدَنَة والبقرة، فقيل: سبعة وهو قولُ الشافعى، وأحمد فى المشهور عنه، وقيل: عشرة، وهو قول إسحاق. وقد ثبت أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قَسَمَ بينهم المغانِم، فَعَدَلَ الجَزُورَ بِعَشْرِ شِيَاهٍ. وثَبت هذا الحديثُ، أنه - صلَّى الله عليه وسلم - ضحَّى عن نسائه وهن تِسع ببقرة. وقد روى سفيانُ، عن أبى الزُّبير، عن جابر، ((أنهم نحرُوا البَدَنَةَ فى حَجِّهم مع رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ عشرةٍ))، وهو على شرط مسلم ولم يخرجه، وإنما أخرج قوله: ((خرجنا مع رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُهلِّينَ بالحجِّ معنا النساءُ والوِلدانُ، فلما قَدِمنا مكة، طُفنا بالبيتِ وبالصَّفا والمروة، وأَمَرَنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَ نشترِك فى الإبلِ والبقرِ كُلُّ سبعةٍ منا فى بَدَنة)). وفى ((المسند)): من حديث ابن عباس: ((كنَّا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر، فحضَرَ الأضحى، فاشتركْنَا فى البقرةِ سَبْعَةً، وفى الجَزُورِ عشرة))ً. ورواه النِّسائى والترمذى، وقال: حسن غريب. وفى ((الصحيحين)) عنه: ((نحرنَا مع رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عامَ الحُدَيْبِيَةِ، البَدَنَةَ عن سبعة، والبقرةَ عن سبعة)). وقال حذيفةُ: ((شَرَّكَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فى حَجته بين المسلمين، فى البقرة عن سبعة)). ذكره الإمامُ أحمد رحمه اللَّه. وهذه الأحاديث، تُخَرَّجُ على أحد وجوه ثلاثة، إما أن يُقالِ: أحاديثُ السبعة أكثرُ وأَصَحُّ، وإما أن يُقال: عَدْلُ البعيرِ بعشرة مِن الغنم، تقويمٌ فى الغنائم لأجل تعديلِ القِسمة، وأما كونُه عن سبعة فى الهدايا، فهو تقديرٌ شرعى، وإما أن يُقال: إن ذلك يختلِفُ باختلاف الأزمِنة، والأمكِنة، والإبل، ففى بعضِها كان البعيرُ يَعْدِلُ عشر شياه، فجعله عن عشرة، وفى بعضها يَعْدِلُ سبعة، فجعله عن سبعة. واللَّه أعلم. وقد قال أبو محمد: إنه ذبح عن نسائه بقرةً للهَدْى، وضحَّى عنهن ببقرة، وضحَّى عن نفسه بكبشين، ونحر عن نفسه ثلاثاً وستين هَدْياً، وقد عرفتَ ما فى ذلك من الوهم، ولم تكن بقرة الضَّحِية غيرَ بقرة الهَدْى، بل هى هى، وهَدْىُ الحاجِّ بمنزلة ضحية الآفاقى. فصل فى أنه لا يختص الذبح بالمنحر وحيثما ذبح فى مِنَى أو مكة أجزأه ونحر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمَنْحَرِهِ بمِنَى، وأعلمهم ((أن مِنَى كُلَّها مَنْحَرٌ، وأَنَّ فِجاجَ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ)) وفى هذا دليلٌ على أن النحرَ لا يختصُّ بمِنَى، بل حيث نحر من فجاج مكة أجزأه، كما أنه لـمَّا وقف بعرفة قال: ((وَقَفْتُ هاهنا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)). ووقَفَ بمزدَلِفَة، وقال: ((وَقَفْتُ هاهنا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ)) وسُئل صلى اللَّه عليه وسلم أن يُبنى له بمِنَى بِنَاءٌ يُظِلُّه مِنَ الحَرِّ، فَقَال: ((لاَ، مِنَى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ)) وفى هذا دليل على اشتراك المسلمين فيها، وأن مَن سبق إلى مكان منها فهو أحقُّ به حتى يرتَحِلَ عنه، ولا يَمْلِكُه بذلك فصل في حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فلما أكملَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم نحره، استدعى بالحلاَّق، فحلق رأسه، فَقَالَ لِلحلاَّق - وهو مَعْمر بن عبد اللَّه وهو قائم على رأسه بالموسى ونَظَر فى وَجْهِهِ- وقَالَ: ((يَا مَعْمَرُ ؛ أَمْكَنَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَفى يَدِكَ المُوسَى)) فَقَالَ معمر: أمَا واللَّه يا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ ذلك لَمِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَىَّ ومَنِّهِ، قَالَ: ((أَجَلْ إذاً أَقَرُّ لَكَ)) ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه اللَّه. وقال البخاري في ((صحيحه)): وزعموا أن الذي حَلَقَ لِلنبي صلى الله عليه وسلم، معمر بن عبد اللَّه بن نضلة بن عوف... انتهى، فقال للحلاق: ((خُذْ، وأَشَارَ إلى جَانِبِه الأَيْمَنِ، فَلما فَرَغَ مِنْه، قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيه، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الحَلاَّق، فَحَلَقَ جَانِبهُ الأيْسَر، ثُّمَّ قالَ: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه))، هكذا وقع في صحيح مسلم. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#96 |
![]() ![]() |
![]()
وفى صحيح البخاري: عن ابن سيرين، عن أنس: ((أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لما حلق رأسه، كان أبو طلحة أول مَن أخذ من شعره)). وهذا لا يُناقِضُ روايةِ مسلم، لِجواز أن يُصيب أبا طلحة مِن الشِّقِّ الأيمنِ، مثلُ ما أصاب غيرَه، ويختصُّ بالشِّقِ الأيسرِ، لكن قد روى مسلم في ((صحيحه)) أيضاً من حديث أنس، قال: ((لما رَمَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الجمرَة ونحرَ نُسُكَه، وحلَقَ، ناولَ الحَلاَّقَ شِقَّه الأَيْمَنَ فحلقه، ثم دعا أبا طلحةَ الأنصاريَّ، فأعطاه إياه، ثم ناوله الشِّقَّ الأيْسَرَ، فقال: ((احْلِقْ)) فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، فقال: ((اقسمه بين الناس)).ففي هذه الرواية، كما تري أن نصيب أبى طلحة كان الشِّقَّ الأيمنَ، وفى الأولى: أنه كان الأيسر. قال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد المقدسي، رواه مسلم مِن رواية حفص بن غياث، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم، دفع إلى أبى طلحة شَعْرَ شِقِّه الأَيْسَرِ))، ورواه من رواية سفيان بن عيينة، عن هشام بن حسان، ((أنه دفع إلى أبى طلحة شعر شقِّه الأيمن)). قال: ورواية ابن عَون، عن ابن سيرين أراها تُقوِّى رواية سفيان.. واللَّه أعلم.
قلت: يريدُ برواية ابن عون، ما ذكرناه عن ابن سيرين، من طريق البخاري، وجعل الذي سبق إليه أبو طلحة، هو الشِّقَّ الذي اختص به. واللَّه أعلم. والذي يقْوَى أن نصيبَ أبى طلحة الذي اختص به كان الشِّقَّ الأَيْسَرَ، وأَنَّه صلى الله عليه وسلم عمَّ، ثمَّ خَصَّ، وهذه كانت سُـنَّته في عطائه، وعلى هذا أكثرُ الرواياتِ، فإن في بعضِها أنه قال للحلاقِ: ((خُذْ)) وأشَارَ إلى جَانِبِه الأَيْمَنِ، فقسم شعره بَيْنَ مَنْ يليه، ثم أشار إلى الحلاَّق إلى الجانِبِ الأيسر، فحلقه فأعطاه أُمَّ سُليمٍ، ولا يُعارض هذا دفعُه إلى أبى طلحة، فإنها امرأتُه. وفى لفظ آخر: فبدأ بالشِّقِّ الأيمن، فوزَّعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال: بالأيسر. فصنع به مثلَ ذلك، ثم قال: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه. وفى لفظ ثالث: دفع إلى أبى طلحة شَعْرَ شِقِّ رأْسه الأيسر، ثم قلَّم أظفاره وقسمها بين الناس، وذكر الإمام أحمد رحمه اللَّه، من حديث محمد بن عبد اللَّه بن زيد، أن أباه حدَّثه، ((أنه شَهِدَ النبي صلى الله عليه وسلم عند المنحر، ورجُلٌ من قريش وهو يَقْسِمُ أضاحِيَ، فلم يُصِبْهُ شئٌ ولا صاحبه، فحلق رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسَه في ثوبه، فأعطاه، فقسم منه على رجالٍ، وقلَّم أظفاره فأعطاه صاحبه، قال: فإنَّه عِنْدَنا مخضوب بالحِنَّاء والكَتَم، يعني شعرَه)). ودعا للمحَلِّقِينَ بالمغْفِرَةِ ثَلاثاً، وَلِلمُقَصِّرِين مَرَّةً، وحلق كثيرٌ من الصحابة، بل أكثرُهم، وقصَّر بعضُهم، وهذا مع قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، ومع قول عائشة رضى اللَّه عنها: ((طيَّبتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يُحْرِمَ، ولإحلاله قَبْلَ أن يَحلَّ))، دليل على أن الحلق نُسُكٌ وليس بإطلاق من محظور فصل ثم أفاض صلى اللَّه عليه وسلم إلى مكة قبل الظهر راكباً، فطاف طوافَ الإفَاضَةِ، وهو طوافُ الزِّيَارةِ، وهو طَوافُ الصَّدَر، ولم يطُفْ غيَره، ولم يسع معه، هذا هو الصوابُ، وقد خالف في ذلك ثلاثُ طوائف: طائفة زعمت أنه طاف طوافين، طوافاً للقُدوم سوى طواف الإفاضة، ثم طاف للإفاضة، وطائفة زعمت أنه سعى مع هذا الطوافِ لكونه كان قارناً، وطائفة زعمت أنه لم يَطُفْ في ذلك اليوم، وإنما أخَّر طوافَ الزيارة إلى الليل، فنذكُرُ الصَّوابَ في ذلك، ونبين منشأ الغلط وبالله التوفيق. قال الأثرم: قلتُ لأبى عبد الله: فإذا رَجَعَ - أعنى المتمتعَ - كم يطوفُ ويسعى؟ قال: يطوفُ ويسعى لحجه، ويطوف طوافاً آخر للزيارة، عاودناه في هذا غير مرة، فثبت عليه. قال الشيخ أبو محمد المقدسي في ((المغني)): وكذلك الحكمُ في القارن والمفرِد إذا لم يكونا أتيا مكة قبلَ يومِ النَّحرِ، ولا طافا للقدوم، فإنّهما يبدآن بطواف القُدوم قبل طواف الزيارة، نص عليه أحمد رحمه اللَّه، واحتجَّ بما روت عائشةُ رضى اللَّه عنها، قالت: ((فطاف الذينَ أهلُّوا بالعُمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا مِن مِنىً لحَجِّهم، وأما الذين جَمَعُوا الحجَّ والعُمرَة، فإنما طافُوا طوافاً واحداً))، فحمل أحمدُ رحمه اللَّه قولَ عائشة، على أن طوافَهم لحجهم هو طوافُ القدوم، قال: ولأنه قد ثبت أن طوافَ القدوم مشروع، فلم يكن طواف الزيارة مسقطاً له، كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبُّس بالصلاة المفروضة. وقال الخرقي في ((مختصره)): وإن كان متمتعاً، فيطوف بالبيت سبعاً وبِالصَّفا والمروة سبعاً كما فعل للعُمرة، ثم يعود فيطوف بالبيت طوافاً ينوى به الزيارة، وهو قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29]، فمن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً كالقاضي وأصحابه عندهم، هكَذا فعلَ، والشيخ أبو محمد عنده، أنه كان متمتعاً التمتعَ الخاص، ولكن لم يفعل هذا، قال: ولا أعلم أحداً وافق أبا عبد اللَّه على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي، بل المشروعُ طواف واحد للزيارة، كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، ولأنه لم يُنْقَلْ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم به أحداً، قال: وحديث عائشة دليل على هذا، فإنها قالت: ((طافوا طوافاً واحداً بعد أن رجعوا مِن مِنَى لحجهم)) وهذا هو طواف الزيارة، ولم تذكر طوافاً آخر. ولو كان هذا الذي ذكرته طوافَ القُدوم، لكانت قد أخلَّت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركنُ الحج الذي لا يَتِمُّ إلا به، وذكرت ما يُستغنى عنه، وعلى كل حال، فما ذكرت إلا طوافاً واحداً، فمن أين يُستدل به على طوافين؟ وأيضاً.. فإنها لما حاضت، فقرنت الحجَّ إلى العُمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم -ولم تكن طافت للقدوم لم تطف للقدوم، ولا أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب، لَشُرِعَ في حقِّ المعتمر طوافُ القدوم مع طواف العُمرة، لأنه أوَّل قدومه إلى البيت، فهو به أولى من المتمتع الذي يَعُودُ إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به... انتهى كلامه. قلت: لم يرفع كلامُ أبي محمد الإشكال، وإن كان الذي أنكره هو الحق كما أنكره، والصوابُ في إنكاره، فإن أحداً لم يقل: إن الصحابة لما رجعوا مِن عرفة، طافوا للقدوم وسَعَوْا، ثم طافُوا للإفاضة بعده، ولا النبي صلى الله عليه وسلم، هذا لم يقع قطعاً، ولكن كان منشأ الإشكال، أن أمَّ المؤمنين فرَّقت بين المتمتِّع والقارِن، فأخبرت أن القارِنين طافوا بعد أن رجعوا من مِنَى طوافاً واحداً، وأن الذين أهلُّوا بالعُمرة طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا مِن مِنَى لحجِّهم، وهذا غيرُ طواف الزيارة قطعاً، فإنه يشترِك فيه القارنُ والمتمتع، فلا فرق بينهما فيه، ولكِنَّ الشيخ أبا محمد، لما رأى قولَها في المتمتعين: إنهم طافُوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا مِن مِنَى، قال: ليس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين، والذي قاله حق، ولكن لم يرفع الإشكال، فقالت طائفة: هذه الزيادة من كلام عروة أو ابنه هشام، أُدرِجت في الحديث، وهذا لا يتبين، ولو كان، فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال. فالصواب: أن الطواف الذي أخبرت به عائشة، وفرَّقت به بين المتمتع والقارن، هو الطواف بين الصفا والمروة، لا الطواف بالبيت، وزال الإشكال جملة، فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما، لم يُضيفوا إليه طوافاً آخر يَوم النحر، وهذا هو الحقُّ، وأخبرت عن المتمتعين، أنهم طافوا بينهما طوافاً آخر بعد الرجوع مِن مِنَى للحج، وذلك الأول كان للعمرة، وهذا قولُ الجمهور، وتنزيل الحديثِ على هذا، موافق لحديثها الآخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يَسَعُكِ طَوافُكِ بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ))، وكانت قارنة، ويوافق قول الجمهور. ولكن يُشكِلُ عليه حديث جابرٍ الذي رواه مسلم في ((صحيحه)): لم يطف النبيُّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ولا أصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافَه الأول. هذا يوافق قول مَن يقول: يكفى المتمتع سعىٌ واحد كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه اللَّه، نص عليها في رواية ابنه عبد اللَّه وغيره، وعلى هذا، فيقال: عائشة أثبتت، وجابر نفى، والمثبِت مُقدَّم على النافي، أو يقال: مراد جابر مَن قرن مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق الهَدْي، كأبي بكرٍ وعمر وطلحة وعلي رضى اللَّه عنهم، وذوي اليسار، فإنهم إنما سَعَوْا سعياً واحداً. وليس المراد به عمومَ الصحابة، أو يعلَّلُ حديث عائشة، بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام وهذه ثلاثة طرق للناس في حديثها.. واللَّه أعلم. وأما مَن قال: المتمتع يطوفُ ويسعى للقدوم بعد إحرامه بالحجِّ قبل خروجه إلى مِنَى، وهو قولُ أصحاب الشافعي، ولا أدرى أهُوَ منصوصٌ عنه أم لا؟ قال أبو محمد: فهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة البتة، ولا أمرهم به، ولا نقله أحد، قال ابن عباس: لا أرى لأهل مكَّة أن يطُوفوا، ولا أن يَسْعوا بين الصَّفا والمروةِ بعد إحرامهم بالحجِّ حتى يَرْجِعُوا من مِنَى. وعلى قول ابن عباس: قول الجمهور، ومالك، وأحمد، وأبى حنيفة، وإسحاق، وغيرهم. والذين استحبُّوه، قالوا: لما أحرم بالحج، صار كالقادم، فيطوفُ ويسعى للقُدوم. قالوا: ولأن الطواف الأولَ وقع عن العُمرة، فيبقى طوافُ القدوم، ولم يأت به. فاستُحِبَّ له فِعْلُه عقيبَ الإحرامِ بالحجِّ، وهاتان الحُجَّتانِ واهيتانِ، فإنه إنما كان قارناً لما طاف لِلعُمرة، فكان طوافُه للعُمرة مغنياً عن طواف القدوم، كمن دخل المسجد، فرأى الصلاة قائمة، فدخل فيها، فقامت مقامَ تَحية المسجد، وأغنته عنها. وأيضاً فإن الصحابة لما أحرموا بالحَجِّ مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يطُوفوا عقيبَه، وكان أكثرهم متمتعاً. وروى محمد بن الحسن، عن أبى حنيفة، أنه إن أحرم يومَ التروية قبل الزوال، طاف وسعى للقدوم، وإن أحرم بعد الزوال، لم يَطُفْ، وفَرَّق بين الوقتين، بأنه بعد الزوال يخرج من فوره إلى مِنَى، فلا يشتغِل عن الخروج بغيره، وقبل الزوال لا يخرج فيطوف، وقولُ ابن عباس والجمهور هو الصحيح الموافق لعمل الصحابة، وباللَّه التوفيق. فصل والطائفة الثانية قالت: إنه - صلى اللَّه عليه وسلم - سَعَى مع هذا الطواف وقالوا: هذا حُجَّة في أن القارن يحتاج إلى سعيينِ، كما يحتاج إلى طوافينِ، وهذا غلطٌ عليه كما تقدم، والصواب: أنه لم يَسْعَ إلا سعيَه الأول، كما قالته عائشةُ، وجابر، ولم يَصِحَّ عنه في السعيين حرفٌ واحد، بل كلُّها باطلة كما تقدَّم، فعليك بمراجعته. فصل والطائفة الثالثة: الذين قالوا: أخَّرَ طوافَ الزيارة إلى الليل، وهم طاووس، ومجاهد، وعروة، ففي سنن أبى داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث أبى الزبير المكي، عن عائشة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخَّرَ طوافَه يومَ النحر إلى الليل. وفى لفظ: طوافَ الزِّيارة، قال الترمذي: حديث حسن. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#97 |
![]() ![]() |
![]()
وهذا الحديث غلطٌ بيِّن خلاف المعلوم من فعله صلى اللَّه عليه وسلم الذي لا يَشُكُّ فيه أهلُ العلم بحَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم، فنحنُ نذكر كلامَ الناسِ فيه، قال الترمذي في كتاب ((العلل)) له: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، وقلت له: أَسَمعَ أبو الزبير من عائشة وابن عباس؟ قال: أمَّا مِن ابن عباس، فنعم، وفى سماعه من عائشة نظر. وقال أبو الحسن القطان: عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح، إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهاراً، وإنما اختلفُوا: هل صلَّى الظهر بمكة أو رجع إلى مِنَى، فصلَّى الظهرَ بها بعد أن فرغ من طوافه؟ فابنُ عمر يقولُ: إنه رجع إلى مِنَى، فصلَّى الظهرَ بها، وجابرٌ يقول: إنه صلَّى الظهر بمكة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية: ((أبى الزبير)) هذه التي فيها أنه أخَّر الطوافَ إلى الليل، وهذا شئ لم يُروَ إلا من هذا الطريق، وأبو الزبير مدلس لم يذكر هاهنا سماعاً من عائشة، وقد عهد أنه يروى عنها بواسطة، ولا عن ابن عباس أيضاً، فقد عُهِدَ كذلك أنه يروي عنه بواسطة، وإن كان قد سمع منه، فيجب التوقُّفُ فيما يرويه أبو الزبير عن عائشة وابن عباس مما لا يَذْكُرُ فيه سماعَه منهما، لِما عُرِفَ به من التدليس، لو عُرِفَ سماعُه منها لِغير هذا، فأمَّا ولم يَصِحَّ لنا أنه سمع من عائشة، فالأمر بيِّن في وجوب التوقف فيه، وإنما يختلِف العلماء في قبول حديث المدلِّس إذا كان عمن قد علم لِقاؤه له وسماعُه منه. هاهنا يقول قوم: يُقبل، ويقول آخرون: يُرد ما يُعنعِنُه عنهم حتى يتبيَّن الاتصالُ في حديث حديث، وأما ما يُعَنْعِنُه المدلِّسُ، عمن لم يُعلم لِقاؤه له ولا سماعُه منه، فلا أعلم الخلافَ فيه بأنه لا يُقبل. ولو كنا نقول بقول مسلم: بأن مُعَنْعَن المتعاصِرَيْنِ محمولٌ على الاتصال ولو لم يُعلم التقاؤهما، فإنما ذلك في غير المدلِّسين، وأيضاً فلما قدمناه مِن صحة طواف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهاراً، والخلاف في رد حديث المدلِّسين حتى يُعلم اتصالُه، أو قبوله حتَّى يعلم انقطاعه، إنما هو إذا لم يُعارضه ما لا شكَّ في صحته وهذا قد عارضه ما لا شك في صحته... انتهى كلامه.
ويدل على غلط أبى الزُّبيرِ على عائشة، أن أبا سلمة بنَ عبد الرحمن روى عن عائشة، أنَّها قالت: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ. وروى محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة، وزار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلاً، وهذا غلط أيضاً. قال البيهقي: وأصحُّ هذه الرواياتِ حديثُ نافع عن ابن عمر، وحديثُ جابر، وحديثُ أبى سلمة عن عائشة، يعنى: أنه طاف نهاراً. قلتُ: إنما نشأ الغلطُ مِن تسمية الطوافِ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّرَ طوافَ الوَدَاع إلى الليل، كما ثبت في ((الصحيحين)) من حديث عائشة. قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث، إلى أن قالت: فَنَزَلْنَا المُحَصَّبَ، فدعا عَبْدَ الرحمن بنَ أبى بكر، فقال: ((اخْرُجْ بأخْتِكَ مِنَ الحَرَمِ، ثم افْرُغَا مِن طَوَافِكُما، ثم ائتياني هاهنا بالمُحَصَّبِ)) قالت: فَقَضَى الله العُمرة، وفرغنا مِن طوافنا في جَوْفِ اللَّيل، فأتيناه بالمحَصَّبِ، فقال: ((فَرَغْتُمَا))؟ قُلنا:نعم. فأذَّن في الناسِ بالرحيل، فمرَّ بالبيتِ، فطافَ به، ثم ارتحلَ متوجهاً إلى المدينة. فهذا هو الطواف الذي أخَّره إلى الليل بلا ريب، فغلط فيه أبو الزبير، أو مَنْ حدَّثه بِه، وقال: طواف الزيارة، واللَّه الموفق. ولم يَرْمُلْ صلَّى اللَّه عليه وسلم في هذا الطواف، ولا في طَوافِ الوَدَاعِ، وإنما رَمَلَ في طوافِ القُدوم. فصل ثمَّ أتى زمزمَ بعد أن قضى طوافَه وهم يسقون، فقال: ((لَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُم النَّاسُ، لنَزَلْتُ فَسَقَيْتُ مَعَكُمْ)) ثُمَّ ناولُوه الدَّلْوَ، فَشَربَ وهُوَ قَائِم. فقيل: هذَا نسخٌ لنهيه عن الشرب قائماً، وقيل: بل بيان منه أن النهي على وجه الاختيار وترك الأَوْلى، وقيل: بل للحاجة، وهذا أظهر. وهل كان في طوافه هذا راكباً أو ماشياً؟ فروى مسلم في ((صحيحه))، عن جابر قال: ((طافَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالبَيْتِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ على رَاحِلته يَستلِم الرُّكنَ بِمحْجَنِه لأن يراه الناسُ وليُشْرِفَ، ولِيسألُوه، فإنَّ الناسَ غَشُوْهُ)). وفى ((الصحيحين))، عن ابنِ عباس قال: ((طافَ النبي صلى الله عليه وسلم في حَجة الوداع، على بعير يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمحْجَنٍ)). وهذا الطواف، ليس بطواف الوداع، فإنه كان ليلاً، وليس بطواف القُدوم لوجهين. أحدهما: أنه قد صحَّ عنه الرَّمَلُ في طواف القدوم، ولم يقل أحد قطُّ: رَمَلَتْ بِه رَاحِلَتُه، وإنما قالوا: رَمَلَ نَفْسُهُ. والثاني: قول الشريد بن سويد: ((أفضتُ مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فما مَسَّتْ قدماه الأرْضَ حتَّى أتى جَمْعاً)). وهذا ظاهره، أنه من حين أفاض معه، ما مسَّت قدماه الأرض إلى أن رجع، ولا ينتقِضُ هذا بركعتي الطواف، فإن شأنَهما معلوم. قلت: والظاهر: أن الشريد بن سويد، إنما أراد الإفاضة معه من عرفة، ولهذا قال: حتى أتى جَمْعاً وهى مزدلفة، ولم يُرد الإفاضة إلى البيت يومَ النحر، ولا ينتقِضُ هذا بنزوله عند الشِّعب حين بال، ثم رَكِبَ لأنه ليس بنزول مستقر، وإنما مسَّت قدماه الأرضَ مساً عارِضاً. واللَّه أعلم. فصل ثم رجع إلى مِنَى، واختُلِفَ أين صلَّى الظهر يومئذ، ففي ((الصحيحين)): عن ابنِ عُمر، أنه -صلَّى اللَّه عليه وسلم- أفاضَ يوم النحر، ثم رجع، فصلَّى الظهرَ بِمنَى. وفى ((صحيح مسلم)): عن جابر، أنه -صلَّى اللَّه عليه وسلم- صلَّى الظُّهرَ بمكَّة وكذلك قالت عائشةُ. واختُلِفَ في ترجيح أحدِ هذينِ القولين على الآخر، فقال أبو محمد بن حزم: قول عائشة وجابر أولى وتَبِعَه على هذا جماعة، ورجَّحوا هذا القولَ بوجوه. أحدها: أنه روايةُ اثنين، وهما أولى من الواحد. الثاني: أن عائشة أخصُّ الناسِ به صلَّى الله عليه وسلم، ولها من القُرب والاختصاص به والمزية ما ليس لغيرها. الثالث: أن سياق جابر لِحَجَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، أتمُّ سياق، وقد حَفِظَ القِصَّةَ وضبطها، حتى ضبط جزئياتها، حتَّى ضبط منها أمراً لا يتعلَّق بالمناسك، وهو نزولُ النبي صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ جَمْعٍ في الطَّريق، فقَضَى حاجَته عند الشِّعب، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، فمَن ضبط هذا القدر، فهو بضبط مكانِ صلاته يومَ النحر أولى. الرابع: أن حَجَّة الوداع كانت في آذار، وهو تساوى الليلِ والنهارِ، وقد دفع مِن مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى مِنَى، وخطب بها الناسَ، ونحر بُدْناً عظيمة، وقَسمَها، وطُبِخَ له من لحمها، وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلَقَ رأسَه، وتطيَّب، ثم أفاض، فطافَ وشرب من ماء زمزم، ومِن نبيذ السِّقاية، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال تبدو في الأظهر أنها لا تنقضي في مقدارٍ يُمكِنُ معه الرجوعُ إلى مِنى، بحيثُُ يُدرِكُ وقت الظهر في فصل آذار. الخامس: أن هذين الحديثينِ، جاريانِ مجرى الناقِل والمبقى، فقد كانت عادتُه - صلَّى اللَّه عليه وسلم - في حَجته الصلاةَ في منزله الذي هو نازِل فيه بالمسلمين، فجرى ابن عمر على العادة، وضبط جابر وعائشة رضى اللَّه عنهما الأمر الذي هو خارج عن عادته، فهو أولى بأن يكون هو المحفوظ. ورجَّحت طائفة أخرى قول ابن عمر، لوجوه: أحدها: أنه لو صلَّى الظُّهر بمكة، لم تُصَلِّ الصحابة بِمنَى وحداناً وزَرَافاتٍ، بل لم يكن لهم بُدٌّ من الصلاة خلفَ إمام يكون نائباً عنه، ولم يَنْقُلْ هذا أحدٌ قطٌّ، ولا يقول أحد: إنه استناب مَن يُصلِّى بهم، ولولا علمُه أنه يرجع إليهم فيُصلِّى بهم، لقال: إن حَضَرَتِ الصلاةُ ولستُ عندكم، فليُصلِّ بكم فلان، وحيث لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلَّى الصحابة هناك وحداناً قطعاً، ولا كان مِن عادتهم إذا اجتمعوا أن يُصلُّوا عِزِين، عُلِمَ أنهم صلُّوا معه على عادتهم. الثاني: أنه لو صلَّى بمكة، لكان خَلْفَهُ بعضُ أهل البلد وهم مقيمون، وكان يأمرهم أن يُتِمُّوا صلاتهم، ولم يُنقل أنهم قاموا فأتموا بعد سلامه صلاتهم، وحيث لم يُنقل هذا ولا هذا، بل هو معلوم الانتفاء قطعاً، عُلِمَ أنه لم يُصلِّ حينئذ بمكة، وما ينقلُه بعض مَن لا علم عنده، أنه قال: ((يا أَهْلَ مَكَّة أَتِمُّوا صَلاتَكُم فإنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ))، فإنما قاله عامَ الفتح، لا في حَجته. الثالث: أنه من المعلوم، أنه لما طاف، ركع ركعتي الطواف، ومعلوم أن كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه، فلعله لما ركع ركعتي الطواف، والناس خلفه يقتدُون به، ظن الظانُّ أنها صلاةُ الظهر، ولا سيما إذا كان ذلك في وقت الظهر، وهذا الوهمُ لا يُمكن رفعُ احتماله، بخلاف صلاته بِمنَى، فإنها لا تحتمِل غير الفرض. الرابع: أنه لا يُحفظ عنه في حَجه أنه صلَّى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يُصلِّى بمنزله بالأبطح بالمسلمين مُدّة مقامه كان يُصلِّى بهم أين نزلوا لا يُصلِّي في مكان آخر غير المنزل العام. الخامس: أن حديث ابن عمر، متفق عليه، وحديث جابر، من أفراد مسلم، فحديث ابن عمر، أصح منه، وكذلك هو في إسناده، فإن رواته أحفظ، وأشهر، وأتقن، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عُبيد اللَّه بن عمر العمري، وأين يقع حفظ جعفر مِن حفظ نافع؟. السادس: أن حديث عائشة، قد اضطربَ في وقت طوافه، فرُوى عنها على ثلاثة أوجه، أحدها: أنه طاف نهاراً، الثاني: أنه أخَّر الطَّواف إلى الليل، الثالث: أنه أفاض مِن آخر يومه، فلم يضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصلاة، بخلاف حديث ابن عمر. السابع: أن حديثَ ابنِ عمر أصحُّ منه بلا نزاع، فإن حديثَ عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به، ولم يُصرِّحْ بالسماع، بل عنعنه، فكيف يُقدَّم على قول عُبيد اللَّه: حدثني نافع، عن ابن عمر. الثامن: أن حديث عائشة، ليس بالبيِّن أنه -صلَّى اللَّه عليه وسلم- صلَّى الظهر بمكة، فإن لفظه هكذا: ((أفاض رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِن آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهر، ثم رجع إلى مِنَى، فمكث بها ليالي أيامِ التشريق يرمى الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات))، فأين دلالة هذا الحديثِ الصريحة، على أنه صلَّى الظهرَ يومئذ بمكة، وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر: ((أفاض يوم النحر، ثم صلَّى الظهر بمِنَى))، يعنى راجعاً. وأين حديثٌ اتفق أصحاب الصحيح على إخراجه إلى حديثٍ اختُلِف في الاحتجاج به. والله أعلم. فصل قال ابن حزم: وطافت أمُّ سلمة في ذلك اليوم على بعيرها مِن وراء الناس وهى شَاكية، استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فأذن لها، واحتج عليه بما رواه مسلم في ((صحيحه)) من حديث زينب بنت أُم سلمة، عن أُم سلمة، قالت: شكوتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أني أشتكى، فقال: ((طُوفي مِنْ وَراءِ النَّاس وأَنْتِ رَاكبة)) قالت: فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ يُصَلِّي إلَى جَنْبِ البَيْتِ، وهُوَ يَقْرَأُ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1-2]، ولا يتبيَّنُ أن هذا الطوافَ هُوَ طوافُ الإفاضَة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي ذلك الطواف بالطور، ولا جهر بالقراءة بالنهار بحيث تسمعُه أمُّ سلمة من وراء الناس، وقد بيَّن أبو محمد غلطَ مَن قال: إنه أخَّره إلى الليل، فأصاب في ذلك. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#98 |
![]() ![]() |
![]()
وقد صح من حديث عائشة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، أرسل بأُمِّ سلمة ليلةَ النحر، فرمت الجمرةَ قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت فكيف يلتئمُ هذا مع طوافها يومَ النحر وراءَ الناس، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى جانب البيت يُصلِّى ويقرأ في صلاته: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1-2]؟ هذا مِن المُحال، فإن هذه الصلاةَ والقراءة، كانت في صلاة الفجر، أو المغربِ، أو العشاءِ، وأمَّا أنها كانت يومَ النحر، ولم يكن ذلك الوقت رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة قطعاً، فهذا من وهمه رحمه اللَّه.
فطافت عائشة في ذلك اليوم طوافاً واحداً، وسعت سعياً واحداً أجزأها عن حَجِّها وعُمرتها، وطافت صفيَّةُ ذلك اليوم، ثُمَّ حاضت فأجزأها طوافُها ذلك عن طواف الوداع، ولم تُوَدِّعْ، فاستقرَّت سُنَّتُه - صلى اللَّه عليه وسلم - في المرأة الطاهرة إذا حاضت قبل الطواف - أو قبل الوقوف -، أن تَقْرِنَ، وتكتفيَ بطواف واحد، وسعي واحد، وإن حاضت بعد طواف الإفاضة اجتزأت به عن طواف الوداع. فصل في رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مِنَى وبياته بها ثم رجع صلى اللَّه عليه وسلم إلى مِنَى مِن يومه ذلك، فباتَ بها، فلما أصبَحَ، انتظرَ زوالَ الشَّمْسِ، فلما زالت، مشى مِن رحله إلى الجمَارِ، ولم يَرْكَبْ، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مَسْجِدَ الخَيْفِ، فرماها بسبع حَصَياتٍ واحدةً بعدَ واحدةٍ، يقول مع كُلِّ حصاة: ((اللَّهُ أكْبَرُ))، ثم تقدَّم على الجمرة أمامها حتى أسهلَ، فقام مستقبلَ القِبْلة، ثم رفعَ يديهِ وَدَعَا دُعاءاً طَوِيلاً بقدر سُورَةِ البقرة، ثم أتى إلى الجَمرة الوُسطى، فرماها كذلك، ثم انحدرَ ذاتَ اليَسارِ مما يلي الوادي، فوقفَ مستقبِلَ القِبْلة رافعاً يديه يدعو قريباً مِن وقُوفِه الأولِ، ثم أتى الجمرَة الثَّالِثَة وهي جمرة العَقبة، فاستبطن الوادي، واستعرض الجَمرة، فجعل البَيْتَ عَن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك. ولم يِرمِها مِن أعلاها كما يفعل الجُهَّال، ولا جعلها عن يمينه واستقبل البيتَ وقت الرمي كما ذكره غيرُ واحد من الفقهاء. فلما أكمل الرمي، رجع مِن فوره ولم يقف عندها، فقيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل - وهو أصح: إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى جمرة العقبة، فرغ الرميُ، والدعاءُ في صُلب العبادة قبل الفراغ منها أفضلُ منه بعد الفراغ منها، وهذا كما كانت سُنَّته في دعائه في الصلاة، إذ كان يدعو في صُلبها، فأما بعد الفراغ منها، فلم يثبت عنه أنه كان يعتادُ الدعاء، ومَن روى عنه ذلك، فقد غَلِط عليه، وإن رُوى في غير الصحيح أنه كان أحياناً يدعو بدعاءٍ عارِض بعد السلام، وفى صحته نظر. وبالجملة.. فلا ريبَ أن عامة أدعيته التي كان يدعو بها، وعلَّمها الصِّدِّيق، إنما هي في صُلب الصلاة، وأما حديثُ معاذ بن جبل: ((لا تَنْسَ أنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلى ذِكْركَ وشُكْرِكَ، وَحُسْن عِبادتِك))، فدُبُر الصلاة يُراد به آخرها قبل السلام منها، كدُبُر الحيوان، ويراد به ما بعد السلام كقوله: ((تُسَبِّحُونَ اللَّهَ وتكبِّرونَ وتحمدونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ))... الحديث، واللَّه أعلم. فصل في هل كان صلى الله عليه وسلم يرمى قبل صلاة الظهر أو بعدها؟ ولم يزل في نفسي، هل كان يرمى قبلَ صلاة الظهر أو بعدَها؟ والذي يغلِبُ على الظن، أنه كان يرمي قبل الصلاة، ثم يَرجع فيُصلِّى، لأن جابراً وغيرَه قالوا: كانَ يرمي إذا زالتِ الشمس، فعقَّبوا زوالَ الشمس برميه. وأيضاً، فإن وقت الزوال للرمي أيامَ مِنَى، كطلوع الشمس لرمى يوم النحر، والنبي صلى الله عليه وسلم يومَ النحر لما دخل وقتُ الرمي، لم يُقَدِّمْ عليه شيئاً من عِبادات ذلك اليوم، وأيضاً فإن الترمذي، وابنَ ماجه، رويا في ((سننهما)) عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يرمى الجِمارَ إذا زالت الشمس. زاد ابن ماجه: قَدْرَ ما إذا فرغ من رميه صلَّى الظهر، وقال الترمذي: حديث حسن، ولكن في إسناد حديث الترمذي: الحجاج بن أرطاة، وفي إسناد حديث ابن ماجه: إبراهيمُ ابن عثمان أبو شيبة، ولا يُحتج به، ولكن ليس في الباب غيرُ هذا. وذكر الإمام أحمد أنه كان يرمى يوم النحر راكباً، وأيام مِنَى ماشياً في ذهابه ورجوعه. فصل في تضمن حجَتَّه صلى الله عليه وسلم ست وقفات فقد تضمَّنت حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم سِتَّ وقفات للدعاء. الموقف الأول: على الصفا، والثاني: على المروة، والثالث: بعرفة، والرابع: بمزدلفة، والخامس: عند الجمرة الأولى، والسادس: عند الجمرة الثانية. فصل في خطبه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج وخطب صلى اللَّه عليه وسلم الناس بمِنَى خطبتين: خطبةً يوم النحر وقد تقدَّمت، والخطبَة الثانية: في أوسط أيَّامِ التشريق، فقيل: هو ثاني يوم النحر، وهو أوسطُها، أي: خيارها، واحتج مَن قال ذلك: بحديث سَرَّاء بنت نبهان، قالت: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((أتدرون أيُّ يَوْمٍ هذَا))؟ -قَالَت: وهُو اليَوْمُِ الَّذي تَدْعُونَ يَوْمَ الرُّؤوس- قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((هذَا أوْسَطُ أيَّامِ التَّشْريقِ، هَلْ تَدْرُونَ أيُّ بَلَد هذَا))؟ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: ((هذَا المَشْعَرُ الحَرَامُ))، ثُمَّ قَال: ((إنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عامي هذَا، ألاَ وَإنَّ دمَاءَكُم، وأَمْوالَكُم، وَأَعْرَاضَكُم عَلَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هذَا، في شهركم هذا، في بَلَدِكُمْ هذَا، حَتَّى تَلْقُوْا رَبَّكم، فَيَسْأَلَكُم عَنْ أَعْمالِكُم، ألاَ فَلْيُبَلِّغْ أَدْنَاكُم أقصاكم، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ))؟ فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينة، لَمْ يَلْبَثْ إلاَّ قَلِيلاً حَتَّى مَاتَ صلى اللَّه عليه وسلم. رواه أبو داود. ويوم الرؤوس: هو ثاني يوم النحر بالاتفاق. وذكر البيهقي، من حديث موسى بن عُبيدة الرّبَذِي، عن صدقة بن يسار، عن ابنِ عمر، قال: أُنْزِلَتْ هَذِه السُّورَةُ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ} [النصر: 1]، على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في وسط أيَّامِ التشريقِ، وعُرِفَ أنه الوداعُ، فأمر براحلته القَصْواء، فَرُحِلَتْ، واجتمع الناسُ فقال: ((يا أيها النَّاسُ))... ثم ذكر الحديث في خطبته. فصل في ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم البيتوتة خارج مِنَى لمن له عذر واستأذنه العباسُ بنُ عبد المطلب أن يَبيت بمكة ليالي مِنَى مِن أجل سقايته، فأذن له. واستأذنه رِعاءُ الإبِلِ في البيتوتة خارِجَ مِنَى عند الإبل، فأرخص لهم أن يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثم يَجْمَعُوا رمىَ يومين بَعْدَ يوم النحر يرمُونَه في أحدهما. قال مالك: ظننتُ أنه قال: في أول يوم منهما، ثم يرمُون يومَ النَّفْرِ. وقال ابنُ عيينة: في هذا الحديث رخَّص للرِّعاء أن يرموا يوماً، ويَدَعوا يوماً فيجوز لِلطَّائفتين بالسُّنَّة تركُ المبيت بمِنَى، وأما الرمي، فإنهم لا يتركُونه، بل لهم أن يُؤخِّروه إلى الليل، فيرمُون فيه، ولهم أن يجمعوا رمىَ يومين في يوم، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رخَّصَ لأهل السقاية، وللرِّعاء في البيتوتة، فمَن له مال يخافُ ضياعه، أو مريض يَخافُ مِن تخلُّفه عنه، أو كان مريضاً لا تمكنه البيتوتة، سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء، واللَّه أعلم. فصل في أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين بل تأخر حتى أكمل رمى أيام التشريق الثلاثة ولم يتعجل صلى اللَّه عليه وسلم في يومين، بل تأخر حتَّى أكمل رمىَ أيامِ التشريق الثلاثَةَ، وأفاض يومَ الثلاثاء بعد الظهر إلى المُحَصَّبِ، وهو الأبطح، وهو خَيْف بنى كِنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب له فيه قُبَةً هناك، وكان على ثَقَلِه توفيقاً مِن اللَّه عَزَّ وجَلَّ، دون أن يأمرَه به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلَّى الظُّهر، والعصرَ، والمغربَ، والعِشاء، ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلاً سحراً، ولم يَرْمُلْ في هذا الطَّوافِ، وأخبرته صفية أنها حائض، فقال: ((أحَابِسَتُنا هي))؟ فقالُوا له: إنها قَدْ أَفَاضَتْ قال: ((فَلْتَنْفِرْ إذاً)). ورَغِبَتْ إليه عائشةُ تلك الليلة أن يُعْمِرَها عُمرةً مفردَة، فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزأَ عن حجِّها وعُمرتها، فأبت إلا أن تعتمِرَ عُمرة مفردة، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يُعْمِرَها مِن التنعيم، فَفَرَغَتْ مِن عُمرتها لَيلاً ثمَّ وافَتِ المُحَصَّبَ مَعَ أخيها، فأتيا في جَوْفِ الليلِ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((فَرَغْتُمَا))؟ قالت: نَعَمْ، فنادَى بالرَّحِيل في أصحابه، فارتحلَ الناسُ، ثم طافَ بالبيت قبلَ صَلاةَ الصُّبح هذا لفظ البخاري. فإن قيل: كيف تجمعون بين هذا، وبين حديث الأسود عنها الذي في ((الصحيح)) أيضاً؟ قالت: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم نَرَ إلا الحَجَّ.... فذكرتِ الحديثَ، وفيه: فلما كانت ليلة الحَصْبَةِ، قلتُ: يا رسول اللَّه ؛ يرجعُ النَّاس بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ، وأَرْجعُ أَنا بِحَجَّةٍ؟ قَالَ: أَوَ مَا كُنْتِ طُفْتِ لَيَالي قَدِمْنَا مَكَّةَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ. قَالَ: ((فاذْهَبي مَعَ أخِيكِ إلَى التَّنْعِيم، فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ ثُمَّ مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا)) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَقِيني رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ، وأَنَا مُنْهَبطَةٌ عَلَيْهَا، أوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا. ففي هذا الحديث، أنهما تلاقيا في الطَّريق، وفى الأول، أنه انتظرها في منزله، فلما جاءت نادى بالرحيلِ في أصحابه، ثم فيه إشكالٌ آخر، وهو قولُها: لقيني وهو مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ وأَنَا مُنْهَبطَة عليها، أو بالعكس، فإن كانَ الأول، فيكون قد لقيها مُصعِداً منها راجعاً إلى المدينة، وهى منهبطة عليها للعُمرة، وهذا يُنَافى انتظاره لها بالمحصَّب. قال أبو محمد بن حزم: الصوابُ الذي لا شك فيه، أنها كانت مُصْعِدَةً مِنْ مَكَّة، وهو منهبِط، لأنها تقدَّمت إلى العُمرة، وانتظرها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جاءت، ثم نهضَ إلى طواف الوَداع، فلقيها منصرِفة إلى المحصَّبِ عن مكة، وهذا لا يصح، فإنها قالت: وهو منهبط منها، وهذا يقتضي أن يكون بعد المحصَّب، والخروج من مكة، فكيف يقول أبو محمد: إنه نهض إلى طواف الوَداع وهو منهبط مِن مكة؟ هذا محال. وأبو محمد لم يحج، وحديث القاسم عنها صريح كما تقدَّم في أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم انتظرها في منزله بعد النَّفْرِ حتى جاءت، فارتحل، وأذَّن في الناسِ بالرحيل، فإن كان حديثُ الأسود هذا محفوظاً، فصوابُه: لقيني رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنا مُصعِدة من مكة، وهو منهبط إليها، فإنها طافت وقضت عُمرتها، ثم أصعدت لميعاده، فوافته قد أخذ في الهُبوط إلى مكَّة للوداع، فارتحل، وأذَّن في النَّاسِ بالرحيل، ولا وجه لحديث الأسود غير هذا. وقد جُمِعَ بينهما بجمعين آخرين، وهما وهم. أحدهما: أنه طاف للوداع مرتين: مرةً بعد أن بعثها، وقبل فراغها، ومرة بعد فراغها للوداع، وهذا مع أنه وَهمٌ بيِّن، فإنه لا يرفع الإشكال، بل يزيده فتأمله. الثاني: أنه انتقل من المحصَّب إلى ظهر العقبة خوفَ المشقة على المسلمين في التحصيب، فَلَقِيَتْهُ وهى منهبطة إلى مكة، وهو مصعد إلى العَقبة، وهذا أقبحُ من الأول، لأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يخرج من العقبة أصلاً، وإنما خرج من أسفل مكة من الثَّنِيَّةِ السُّفلى بالاتفاق. وأيضاً: فعلى تقدير ذلك، لا يحصُل الجمع بين الحديثين. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#99 |
![]() ![]() |
![]()
وذكر أبو محمد بن حزم، أنه رجع بعد خروجه مِن أسفل مكة إلى المحصَّب، وأمر بالرحيل، وهذا وهم أيضاً، لم يَرجعْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وداعه إلى المحصَّب، وإنما مرَّ مِن فوره إلى المدينة.
وذكر في بعض تآليفه، أنه فعل ذلك، ليكون كالمحلِّق على مكة بدائرة في دخوله وخروجه، فإنه بات بذي طُوى، ثم دخل من أعلى مكة، ثم خرج من أسفلها، ثم رجع إلى المحصَّب، ويكون هذا الرجوعُ من يماني مكة حتى تحصُل الدائرةُ، فإنه صلى اللَّه عليه وسلم لما جاء، نزل بذي طُوى، ثم أتى مكَّة مِن كَدَاء، ثم نزل به لما فرغ من الطواف، ثم لما فرغ من جميع النُّسُكِ، نزل به، ثم خرج من أسفل مَكَّة وأخذ من يمينها حتى أتى المحصَّب، ويحمل أمرُه بالرحيل ثانياً على أنه لقي في رجوعه ذلك إلى المحصِّب قوماً لم يرحلوا، فأمرهم بالرحيل، وتوجه مِن فوره ذلك إلى المدينة. ولقد شان أبو محمد نفسه وكتابه بهذا الهذيان البارد السمج الذي يُضحَك منه، ولولا التنبيهُ على أغلاط من غِلَطَ عليه- صلى اللَّه عليه وسلم- لرغبنا عن ذكر مثل هذا الكلام. والذي كأنك تراه مِن فعله أنه نزل بالمحصَّب، وصلَّى به الظهرَ، والعصرَ، والمغربَ، والعشاء، ورقد رقدةً، ثم نهض إلى مكة، وطاف بها طواف الوداع ليلاً، ثم خرج مِن أسفلها إلى المدينة، ولم يرجعْ إلى المحصَّب، ولا دار دائرة، ففي ((صحيح البخاري)): عن أنس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، صلَّى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ورقد رَقدة بالمحصَّب، ثم ركب إلى البيت، وطاف به. وفى ((الصحيحين)): عن عائشة: خرجنا مَعَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذكرتِ الحديثَ، ثم قالت: حِين قضى اللَّهُ الحجَّ، ونَفَرْنَا مِن مِنَى، فنزلنا بالمحصَّب، فَدَعَا عَبْدَ الرحمنِ بنَ أبى بكر فقال له: ((اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الحرَمَ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُما، ثُمَّ ائتِيَانِي هاهنا بِالمُحَصَّب)). قالَتْ فَقَضَى اللَّهُ العُمْرَةَ، وفرغنا مِنْ طَوَافِنَا في جَوْفِ اللَّيْلِ، فأتيناه بالمُحَصَّبِ. فَقَالَ: ((فَرغْتُمَا))؟ قُلنَا: نَعَمْ. فَأَذَّنَ في النَّاسِ بالرَّحِيل، فَمَرَّ بِالبَيْتِ فَطَافَ بِهِ، ثُمَّ ارتَحَلَ مُتَوَجِّهاً إلى المَدِينَةِ. فهذا من أصح حديث على وجه الأرض، وأدلِّه على فساد ما ذكره ابنُ حزم، وغيرُه مِن تلك التقديرات التي لم يقع شيء منها، ودليل على أن حديثَ الأسود غيرُ محفوظ، وإن كان محفوظاً، فلا وجه له غير ما ذكرنا وباللَّه التوفيق. وقد اختلف السَلَفُ في التحصيب هل هو سُنَّة، أو منزل اتفاق؟ على قولين. فقالت طائفة: هو من سنن الحج، فإن في ((الصحيحين)) عن أبى هريرة، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن يَنفِرَ مِنْ مِنَى: ((نَحْنُ نَازِلُون غَداً إن شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بنى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلى الكُفْر)). يعنى بذلك المحصَّب، وذلك أن قريشاً وبنى كنانة، تقاسَموا على بنى هاشم، وبنى المطَّلِب، ألاَّ يُناكحوهم، ولا يكونَ بينهم وبينهم شيءٌ حتى يُسلموا إليهم رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقصدَ النبي صلى الله عليه وسلم إظهارَ شعائِرِ الإسلام في المكان الذي أظهرُوا فيه شعائِر الكُفر، والعداوة لله ورسوله، وهذه كانت عادته صلوات اللَّه وسلامه عليه، أن يُقيم شِعارَ التَّوحيد في مواضع شَعائِر الكُفر والشِّرك، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبنَى مسجدُ الطَّائِفِ مَوْضِعَ اللاَّت والعُزَّى. قالوا: وفى ((صحيح مسلم)): عن ابن عمر، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، كانوا ينزلونه. وفى رواية لمسلم، عنه: أنه كان يرى التَّحصِيبَ سُنَّةٌ. وقال البخاري عن ابن عمر: كان يُصَلِّى به الظهرَ، والعصرَ، والمغرب، والعشاء، ويَهْجَعُ، ويذكر أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. وذهب آخرون - منهم ابنُ عباس، وعائشةُ - إلى أنه ليس بِسُّنَّة، وإنما هو منزل اتفاق، ففي ((الصحيحين)): عن ابن عباس، لَيْسَ المُحَصَّبُ بِشَيءٍ، وإنَّما هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. وفي ((صحيح مسلم)): عن أبي رافع، لم يأمُرْني رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن أنزلَ بمن معي بالأبطح، ولكن أنا ضربتُ قُبَّتَه، ثم جاء فنزل. فأنزله الله فيه بتوفيقه، تصديقاً لقول رسوله: ((نَحْنُ نَازِلُونَ غَداً بِخَيْفِ بنى كِنَانَة))، وتَنْفِيذاً لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ، ومَوَافَقَةً مِنْهُ لِرَسُولِه صلوات اللَّه وسلامه عليه. فصل في دخوله صلى الله عليه وسلم في الكعبة هاهنا ثلاثُ مسائل: هل دخل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم البيت في حَجَّته، أم لا؟ وهل وقف في الملتزم بعد الوداع، أم لا؟ وهل صَلَّى الصُّبح ليلةَ الوَداع بمكة، أو خارجاً منها؟ فأما المسألة الأولى، فزعم كثيرٌ من الفقهاء وغيرهم، أنه دخل البيت في حَجَّتِه، ويرى كثيرٌ من الناس أن دخولَ البيتِ مِنْ سُنن الحج اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. والذي تَدُلُّ عليه سُنَّتُه، أنه لم يَدْخُلِ البيتَ في حَجته ولا في عُمرته، وإنما دخله عام الفتح، ففي ((الصحيحين)) عن ابن عمر قال: دخلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقة لأُسامة، حتى أناخَ بفناء الكعبة، فدعا عُثمان بن طلحة بالمفتاح، فجاءه به، ففتح، فدخلَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامةُ، وبلالٌ، وعثمانُ بن طلحة، فأجافُوا عليهم الباب مَلِيّاً، ثم فتحوه. قال عبدُ اللَّه: فبادرتُ الناس، فوجدتُ بلالاً على الباب. فقلت: أين صلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: بين العمودين المقدَّمين. قال: ونسيتُ أن أسأله، كمْ صلَّى. وفى ((صحيح البخاري)) عن ابن عباس، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، لما قَدم مكة، أبى أن يَدْخُلَ البيتَ وفيه الآلِهَة، قال: فأمر بِهَا فَأُخْرِجَت، فأخَرجُوا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وإسماعيلَ فى أيْدِيهِمَا الأَزْلاَمُ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((قَاتَلَهُمُ اللَّه، أَمَا واللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِما بِها قَطُّ)). قال: فَدَخَلَ البَيْتَ، فكَبَّرَ فى نَوَاحِيه، ولم يُصَلِّ فِيهِ. فقيل: كان ذلك دُخولين، صلَّى فى أحدهما، ولم يُصلِّ في الآخر. وهذه طريقةُ ضعفاء النقد، كلما رأوْا اختلافَ لفظ، جعلُوه قِصة أخرى، كما جعلوا الإسراء مِراراً لاختلاف ألفاظه، وجَعَلُوا اشتراءَه مِن جابر بَعيرَه مِراراً لاختلاف ألفاظِه، وجعلوا طوافَ الوَداع مرَّتين لاختلاف سياقه، ونظائر ذلك. وأما الجهابذة النُّقاد، فيرغبُون عن هذه الطريقةِ، ولا يجبُُنُون عن تغليط مَنْ ليس معصوماً مِن الغَلَطِ ونسبته إلى الوهم، قال البخاري وغيرُه من الأئمة: والقولُ قولُ بلال، لأنه مثبت شاهدَ صلاته، بخلاف ابن عباس. والمقصود: أن دخوله البيت إنما كان فى غزوةِ الفتح، لا فى حَجَّهِ ولا عُمَرِهِ، وفى ((صحيح البخاري))، عن إسماعيل بن أبى خالد، قال: قلتُ لعبد اللَّه بن أبى أوفى: أدخلَ النبي صلى الله عليه وسلم فى عُمْرَتِهِ البَيْتَ؟ قال: لا. وقالت عائشةُ: خرجَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِن عندي وهو قَرِيرُ العَيْنِ، طيِّبُ النَّفْسِ، ثم رجع إلىَّ وهو حزينُ القلب، فقلتُ: يا رَسُولَ اللَّه ؛ خرجتَ من عندي وأنتَ كذا وكذا. فقال: ((إني دخلتُ الكعبة، وَوَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ، إنِّى أَخَافُ أَنْ أَكونَ قَدْ أَتْعَبْتُ أُمَّتي مِنْ بَعْدِى))، فهذا ليس فيه أنه كان في حَجته، بل إذا تأملتَهُ حقَّ التأمُّلِ، أطلعَكَ التَّأمُّلُّ على أنه كان في غَزاة الفتح، واللَّه أعلم، وسألته عائشة أن تدخل البيت، فأمرها أن تُصَلِّى فى الحِجْرِ رَكْعَتَيْنِ. فصل في وقوفه صلى الله عليه وسلم في الملتزم وأما المسألة الثانية: وهى وقوفُه فى الملتزم، فالذي روى عنه، أنه فعله يوم الفتح، ففي سنن أبى داود، عن عبد الرحمن بن أبى صفوان، قال: ((لما فتح رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، انطلقتُ، فرأيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَد خَرَجَ مِنَ الكَعْبَةِ هُوَ وأَصْحَابُه وقد استلَمُوا الرُّكْنَ مِنَ البَابِ إلى الحَطِيم، وَوَضَعُوا خُدُودَهُم على البَيْتِ، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَسطَهُم)). وروى أبو داود أيضاً: مِن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: ((طُفْتُ مَعَ عَبدِ اللَّه، فَلَّما حَاذَى دُبُرَ الكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلاَ تَتَعَوّذُ؟ قال: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النار، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الحَجَرَ، فَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالبَابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِراعَيْهِ هَكَذا، وَبَسَطَهُمَا بَسْطاً، وقَالَ: هَكَذَا رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ)). فهذا يحتمِل أن يكونَ في وقت الوداع، وأن يكونَ في غيره، ولكن قال مجاهد والشافعي بعده وغيرُهما: إنه يُستحَب أن يَقِفَ في الملتزم بعد طواف الوَداع ويدعو، وكان ابنُ عباس رضى اللَّه عنهما يلتزِمُ ما بين الرُّكن والبَابِ، وكان يقول: لا يلتزمُ ما بينهما أحدٌ يسأل اللَّه تعالى شيئاً إلا أعطاه إيَّاه، واللَّه أعلم. فصل في موضع صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع وأما المسألة الثالثة: وهى موضِعُ صلاته صلى اللَّه عليه وسلم صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع، ففي ((الصحيحين)): عَن أمِّ سلمة، قالت: شكوتُ إلى رَسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنِّى أشْتَكِى، فَقَالَ: ((طُوفي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ)). قالت: فطُفتُ ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حِينئذ يُصلِّى إلى جنبِ البَيْتِ، وهُوَ يَقْرَأ بـ {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1-2] فهذا يحتمِل، أن يكونَ في الفجر وفى غيرها، وأن يكونَ فى طواف الوَداعِ وغيرِه، فنظرنا في ذلك، فإذا البخاري قد روى في ((صحيحه)) في هذه القصة، أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الخُروج، ولم تكن أُمُّ سلمة طافت بالبيت، وأرادتِ الخُروج، فقال لها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إذا أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ، فَطُوفِي عَلى بَعِيرِكِ، والنَّاسُ يُصَلُّونَ)) فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ. وهذا محال قطعاً أن يكون يومَ النحر، فهو طواف الوَداع بلا ريب، فظهر أنَّه صلَّى الصُّبْحَ يومئذ عند البيت، وسمعته أُم سلمة يقرأ فيها بالطور. فصل ثم ارتحل صلى اللَّه عليه وسلم راجعاً إلى المدينَةِ، فلما كانَ بالرَّوحَاءِ، لقى ركباً، فسلَّم عليهم، وقال: ((مَنِ القَوْمُ))؟ فَقَالُوا: المُسْلِمُونَ، قالوا: فَمَنِ القَوْمُ؟ فَقَالَ: ((رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم))، فَرَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبياّ لَهَا مِنْ مِحفَّتِها، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلِهَذَا حَج؟ قال: ((نَعَمْ، ولَكِ أَجْرٌ)). فلما أتى ذَا الحُلَيْفَةِ، باتَ بِهَا، فَلَمَّا رَأى المَدِينَةَ، كَبَّرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وقال: ((لا إله إلاَّ اللَّهُ وًَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلى كُلِّ شَئٍ قَدِير، آيبِوُن تَائِبونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنا حَامدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَه)). ثم دخلها نهاراً مِن طَرِيق المُعَرَّسِ، وخَرَج مِن طرِيق الشَّجَرَةِ واللَّه أعلم. فصل فى الأوهام فمنها: وهم لأبى محمد بن حزم فى حَجَّة الوداع، حيث قال: إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أعْلَم النَّاسَ وقتَ خروجه ((أنَّ عُمْرَةً فى رَمَضَانَ، تَعْدِلُ حَجَّةً)) وهذا وَهْمٌ ظاهر، فإنَه إنما قال ذلك بعد رجوعه إلى المدينة من حَجَّته، إذ قال لأُمِّ سِنَان الأَنْصَارِية: ما مَنَعَكِ أنْ تَكُونى حَجَجْتِ مَعَنا؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إلاَّ نَاضِحَانِ، فَحَجَّ أَبُو وَلَدى وَابْنى عَلَى نَاضِحٍ، وتَرَكَ لَنَا ناضحاً نَنْضَحُ عَلَيْهِ. قَالَ: ((فإذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فاعْتَمرى، فإنَّ عُمْرَةً فى رَمَضَانَ تَقْضى حَجَّةً)) هكذا رواه مسلم فى صحيحه |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#100 |
![]() ![]() |
![]()
وكذلِكَ أيضاً قال هذا لأُمِّ معقلِ بعد رجوعه إلَى المدينة، كما رواه أبو داود، من حديث يوسف بن عبداللَّه بن سلام، عن جدَّته أم مَعْقِلٍ، قالت: لما حجَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حجَّة الوَدَاع، وكان لنا جمل، فجعله أبو مَعْقِل فى سبيل اللَّه، فأصابنا مرضٌ، فهلك أبو مَعْقِل، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما فَرَغَ من حَجِّهِ، جئتُه، فَقال: ((مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجى مَعَنا))؟ فقالت: لقد تهيَّأنا، فهلَكَ أبو مَعقِل، وكان لنا جمل وهو الذى نَحُجُّ عليه، فأوصى به أبو مَعْقل فى سبيل اللَّه. قال: ((فَهَلاَّ خَرَجْتِ عَلَيْهِ؟ فإنَّ الحَجَّ فى سَبيلِ اللَّه، فَأمَّا إذْ فَاتَتْكِ هذِه الحَجَّةُ مَعَنَا فاعْتَمرى فى رَمَضَانَ، فإنَّها كحَجَّة)).
فصل ومنها وَهْمٌ آخر له، وهو أنَّ خروجه كان يومَ الخميس لِستٍ بَقِين من ذى القِعْدَةِ، وقد تقدَّم أنه خرج لخمس، وأن خروجه كان يومَ السبت. فصل ومنها وَهْمٌ آخر لبعضهم: ذكر الطبرى فى ((حَجة الوداع)) أنه خرج يومَ الجمعة بعد الصَّلاة. والذى حمله على هذا الوهم القبيح، قوله فى الحديث: ((خرج لِستٍ بقين))، فظن أن هذا لا يُمكن إلا أن يكون الخروجُ يومَ الجمعة، إذ تمامُ الست يوم الأربعاء، وأولُ ذى الحِجة كان يوم الخميس بلا ريب، وهذا خطأ فاحش، فإنه من المعلوم الذى لا ريب فيه، أنه صلَّى الظهرَ يومَ خروجه بالمدينة أربعاً، والعصر بذى الحُليفة ركعتين، ثبت ذلك فى ((الصحيحين)). وحكى الطبرى فى حَجته قولاً ثالثاً: إن خروجه كان يومَ السبت، وهو اختيارُ الواقدى، وهو القول الذى رجحناه أولاً، لكن الواقدى، وهم فى ذلك ثلاثة أوهام، أحدها: أنه زعم أن النبى صلى الله عليه وسلم صلَّى يومَ خروجه الظهر بذى الحُليفة ركعتين، الوهم الثانى: أنه أحرم ذلكَ اليومَ عَقيبَ صلاةِ الظهر، وإنما أحرم من الغد بعد أن بات بذى الحُليفة، الوهم الثالث: أن الوقفة كانت يومَ السبت، وهذا لم يقلْه غيره، وهو وَهْمٌ بيِّنٌ. فصل ومنها وَهْمٌ للقاضى عياض رحمه اللَّه وغيره: أنه صلى اللَّه عليه وسلم، تطيَّب هُناكَ قبل غسله، ثم غسل الطِّيب عنه لما اغتسل، ومنشأ هذا الوهم، مِن سياق ما وقع فى ((صحيح مسلم)) فى حديثِ عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت: ((طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ طافَ عَلى نِسائِه بَعدَ ذلِك، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِماً)). والذى يردُّ هذا الوهم، قولُها: طيَّبتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لإحرامه، وقولُها: كأنى أنظر إلى وَبِيصِ الطِّيب - أى: بريقه - فى مفارِق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو مُحرِم، وفى لفظ: وهو يُلبِّى بعد ثلاثٍ من إحرامه، وفى لفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرم، تطيَّب بأطيبِ ما يجد، ثم أرَى وَبيصَ الطِّيبِ فى رأسه ولحيته بعد ذلك، وكل هذه الألفاظ ألفاظُ الصحيح. وأما الحديثُ الذى احتج به، فإنه حديث إبراهيم بن محمد بن المنتَشِرِ، عن أبيه، عنها: ((كُنْتُ أُطَيِّبُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِماً)). وهذا ليس فيه ما يمنع الطيب الثانى عند إحرامه. فصل ومنها وَهْمٌ آخر لأبى محمد بن حزم: أنه صلى الله عليه وسلم أحرم قبل الظهر، وهو وَهْمٌ ظاهر، لم يُنقل فى شىء من الأحاديث، وإنما أهلَّ عقيب صلاة الظهر فى موضع مُصلاه، ثم ركب ناقته، واستوت به على البيداء وهو يُهِلُّ، وهذا يقيناً كان بعد صلاة الظهر، واللَّه أعلم. فصل ومنها وَهْمٌ آخر له وهو قوله: وساق الهَدْى مع نفسه، وكان هَدْىَ تطوع، وهذا بناء منه على أصله الذى انفرد به عن الأئمة، أن القارِن لا يلزمه هَدْى، وإنما يلزم المتمتع، وقد تقدَّم بطلانُ هذا القول. فصل ومنها وَهْمٌ آخر لمن قال: إنه لم يُعيِّن فى إحرامه نُسُكاً، بل أطلقه، ووَهْمٌ مََن قال: إنه عيَّن عُمرة مفردة كان متمتعاً بها، كما قاله القاضى أبو يعلى، وصاحب ((المغنى)) وغيرهما، ووَهْمُ مَن قال: إنه عيَّن حَجّاً مفرداً مجرداً لم يعتمِر معه، ووَهْمُ مَن قال: إنه عيَّن عُمرة، ثم أدخل عليها الحَجَّ، ووَهْمُ مَن قال: إنه عيَّن حجاً مفرداً، ثم أدخل عليه العُمرة بعد ذلك، وكان مِن خصائصه، وقد تقدَّم بيانُ مستند ذلك، ووجهُ الصوابِ فيه. واللَّه أعلم. فصل ومنها وَهْمٌ لأحمد بن عبد اللَّه الطبرى فى ((حَجة الوداع)) له: أنهم لما كانوا ببعض الطريق، صاد أبو قتادة حِماراً وحشياً ولم يكن محرماً، فأكل منه النبىُّ صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما كان فى عُمرة الحُديبية، كما رواه البخارى. فصل ومنها وَهْمٌ آخر لبعضهم، حكاه الطبرى عنه صلى اللَّه عليه وسلم: أنه دخل مكة يوم الثلاثاء وهو غلط، فإنما دخلها يوم الأحد صُبح رابعةٍ من ذى الحِجة. فصل ومنها وَهْمُ مَن قال: إنه صلى اللَّه عليه وسلم حلَّ بعد طوافه وسعيه، كما قاله القاضى أبو يعلى وأصحابُه، وقد بيَّنا أن مستند هذا الوهم وَهْمُ معاوية، أو مَنْ روى عنه أنه قصَّر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ على المروة فى حجته. فصل ومنها وَهْمُ مَن زعم: أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يُقَبِّل الرُّكن اليمانى فى طوافه، وإنما ذلك الحجرُ الأسود، وسماه اليمانى، لأنه يُطلق عليه، وعلى الآخر اليمانيين، فعبَّر بعضُ الرواة عنه باليمانى منفرداً. فصل ومنها وَهْمٌ فاحش لأبى محمد بن حزم: أنه رَمَلَ فى السعى ثلاثة أشواط، ومشى أربعة، وأعجبُ من هذا الوهم، وهمُه فى حكاية الاتفاق على هذا القول الذى لم يقله أحد سواه. فصل ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه طاف بين الصفَّا والمروة أربعةَ عشر شوطاً، وكان ذهابُه وإيابُه مرةً واحدة، وقد تقدَّم بيانُ بطلانه. فصل ومنها وَهْمُ مَن زعم، أنَّه صلى اللَّه عليه وسلم صلَّى الصُّبْحَ يومَ النَّحر قبل الوقت، ومُسْتَنَدُ هذا الوهم، حديثُ ابن مسعود، أن النبى صلى الله عليه وسلم صلَّى الفجر يومَ النحر قبلَ ميقاتها وهذا إنما أراد به قبلَ ميقاتها الذى كانت عادتُه أن يُصليَها فيه، فعجَّلها عليه يومئذ، ولا بُدَّ من هذا التأويل، وحديث ابن مسعود، إنما يدل على هذا، فإنه فى صحيح البخارى عنه، أنه قال ![]() فصل ومنها وَهْمُ مَن وَهِمَ فى أنه صلَّى الظُّهر والعًَصْرَ يومَ عرفة، والمغربَ، والعِشاء، تلك الليلة، بأذانين وإقامتين، ووَهْمُ مَن قال: صلاَّهما بإقامتين بلا أذان أصلاً، ووَهْمُ مَن قال: جمع بينهما بإقامَةٍ واحِدة، والصحيح: أنه صلاَّهُما بأذان واحد، وإقامة لِكلِّ صلاة. فصل ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه خطب بعرفة خُطبتين، جلس بينهما، ثمَّ أذَّن المؤذِّنُ، فلما فرغ، أخذ فى الخُطبة الثانية، فلما فرغ منها، أقام الصَّلاة، وهذا لم يجئ فى شئ من الأحاديث البتة، وحديث جابر صريح، فى أنه لما أكمل خُطبته أذَّن بلال، وأقامَ الصلاَة، فصلَّى الظهر بعد الخطبة. فصل ومنها وَهْمٌ لأبى ثور: أنه لما صَعِدَ، أذَّن المؤذِّن، فلما فرغ، قام فخطب، وهذا وهم ظاهر، فإن الأذان إنما كان بعد الخطبة. فصل ومنها وَهْمُ مَن روى، أنه قدَّم أُمَّ سلمة ليلةَ النحر، وأمرها أن تُوافيَه صلاة الصبح بمكة، وقد تقدَّم بيانه. فصل ومنها وَهْمُ مَن زعم، أنه أخَّر طواف الزيارة يومَ النحر إلى الليل، وقد تقدَّم بيانُ ذلك، وأن الذى أخَّره إلى الليل، إنما هو طوافُ الوَداع، ومستند هذا الوهم - واللَّه أعلم - أن عائشة قالت: ((أفاضَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من آخر يومه))، كذلك قال عبدُ الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها، فحمل عنها على المعنى، وقيل: أخَّر طواف الزيارة إلى الليل. فصل ومنها وَهْمُ مَن وَهِمَ وقال: إنه أفاض مرتين: مرَّة بالنهار، ومرةً مع نسائه بالليل، ومستند هذا الوهم، ما رواه عمر بن قيس، عن عبد الرحمنِ ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، ((أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم، أَذِنَ لأصحابه، فزارُوا البيتَ يَوْمَ النَّحرِ ظهيرةً، وزارَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلاً)). وهذا غلط، والصحيح عن عائشة خلاف هذا: أنه أفاض نهاراً إفاضة واحدة، وهذه طريقة وخيمة جداً، سلكها ضِعافُ أهل العلم المتمسكون بأذيال التقليد. والله أعلم. فصل ومنها وَهْمُ مَن زعم، أنه طاف للقدوم يومَ النحر، ثم طافَ بعده للزيارة، وقد تقدَّم مستندُ ذلك وبطلانُه. فصل ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه يومئذ سعى مع هذا الطواف. واحتج بذلك على أن القارِن يحتاجُ إلى سعيين، وقد تقدَّم بطلانُ ذلك عنه، وأنه لم يسع إلا سعياً واحداً، كما قالت عائشةُ وجابر رضى اللَّه عنهما. فصل ومنها - على القول الراجح - وَهْمُ مَن قال: إنه صلَّى الظهر يومَ النحر بمكة، والصحيح: أنه صلاها بمِنَى كما تقدَّم. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#101 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه لم يُسرِعْ فى وادى مُحَسِّرٍ حين أفاض من جَمْع إلى مِنَى، وأن ذلك إنما هو فعل الأعراب، ومستند هذا الوهم قولُ ابن عباس: إنما كان بدْءُ الإيضَاع من قِبَلِ أهل البادية، كانوا يقِفون حافتى الناس حتى علَّقوا القِعَابَ والعِصِىَّ والجِعَابَ، فإذا أفاضوا، تقعقعت تلك فنفروا بالناس، ولقد رؤى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن ذِفْرَى ناقته لَيَمَسُّ حَارِكَها وهو يقول: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ؛ عَلَيْكُم السَّكِينَة)). وفى رواية: ((إنَّ البِرَّ لَيْسَ بِايجَافِ الخَيْلِ وَالإبِلِ، فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ))، فَمَا رَأَيْتُها رَافِعَةً يَدَيْهَا حَتَّى أَتَى مِنَى، رواه أبو داود ولذلك أنكره طاووس والشعبىُّ، قال الشعبى: حدَّثنى أُسامة بن زيد، أنه أفاض مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِن عرفة، فلم ترفع راحلتُه رِجلها عاديةً حتى بلغ جَمْعاً. قال: وحدثنى الفضلُ بنُ عباس، أنه كان رديفَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى جَمْع، فلم ترفع راحلتُه رجلها عادية حتَّى رمى الجمرة. وقال عطاء: إنما أحدث هؤلاء الإسراع، يُريدون أن يفوتوا الغُبار. ومنشأ هذا الوهم اشتباهُ الإيضاع وقتَ الدفع من عرفة الذى يفعله الأعرابُ وجفاةُ الناس بالإيضاع فى وادى مُحَسِّرٍ، فإن الإيضَاعَ هناك بدعة لم يفعلْه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، بل نهى عنه، والإيضاعُ فى وادى محسِّر سُـنَّة نقلها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: جابر، وعلى بن أبى طالب، والعباسُ بن عبد المطلب رضى اللَّه عنهم، وفعله عمرُ بن الخطاب رضى اللَّه عنه، وكان ابن الزبير يُوضِع أشدَّ الإيضاعِ، وفعلته عائشةُ وغيرُهم مِن الصحابة، والقولُ فى هذا قولُ مَن أثبت، لا قولُ مَن نفى. واللَّه أعلم. فصل ومنها وَهْمُ طاووس وغيره: أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يُفيضُ كُلَّ ليلة من ليالى مِنَى إلى البيت، وقال البخارى فى ((صحيحه)): ويُذكر عن أبى حسان، عن ابنِ عباس أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم ((كان يزورُ البيتَ أيامَ مِنَى)) ورواه ابنُ عَرْعَرَةَ، دفع إلينا مُعاذُ بنُ هِشام كتاباً قال: سمعتُه من أبى ولم يقرأه، قال: وكان فيه عن أبى حسان، عن ابن عباس أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ((كان يزورُ البيت كُلَّ ليلةٍ ما دام بمِنَى)). قال: وما رأيتُ أحداً واطأه عليه... انتهى. ورواه الثورى فى ((جامعه)) عن ابن طاووس عن أبيه مرسلاً، وهو وَهْمٌ، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَرْجِعْ إلى مكة بعد أن طاف للإفاضة، وبقى فى مِنَى إلى حين الوَداع، واللَّه وأعلم. فصل ومنها وَهْمٌ مَن قال: إنه ودَّع مرتين، ووَهْمُ مَن قال: إنه جعل مكة دائرة فى دخوله وخروجه، فبات بذى طُوَى، ثم دخل من أعلاها، ثم خرج من أسفلها، ثم رجع إلى المحصَّب عن يمين مكة، فكملت الدائرة. فصل ومنها وَهْمُ مَن زعم: أنه انتقل من المحصَّب إلى ظهر العقبة، فهذه كلُّها من الأوهام نبهَّنا عليها مفصَّلاً ومجملاً، وباللَّه التوفيق. فصل فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الهدايا والضحايا والعقيقة وهى مختصة بالأزواج الثمانيةِ المذكورةِ فى سُورة ((الأنعام)) ولم يُعرف عنه صلى اللَّه عليه وسلم، ولا عن الصَّحابة هَدْى، ولا أُضحية، ولا عقيقةٌ مِن غيرها، وهذا مأخوذ من القرآن من مجموع أربع آيات.. إحداها: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنعَامِ} [المائدة: 1]. والثانية: قولُه تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فى أيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28]. والثالثة: قولُه تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشَاً، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ، إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُبِينٌ * ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} [الأنعام: 142-143] ثم ذكرها. الرابعة: قولُه تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. فدلَّ على أنَّ الذى يبلُغ الكعبةَ من الهَدْى هو هذه الأزواجُ الثمانية وهذا استنباطُ علىّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه. والذبائح التى هى قُرْبة إلى اللَّه وعبادة: هى ثلاثة: الهَدْىُ، والأُضحية، والعقيقةُ. فأهدى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغنَم، وأهدى الإبل، وأهدى عن نسائه البقرَ، وأهدى فى مقامه، وفى عُمرته، وفى حَجته، وكانت سُـنَّتُه تقليدَ الغنم دون إشعارها. وكان إذا بعث بهَدْيِه وهو مُقيم لم يَحْرُمْ عَلَيْهِ شىء كان مِنه حَلالاً. وكان إذا أهدى الإبل، قلَّدها وأَشْعَرَها، فيشُقُّ صفحة سَنَامِها الأيمنِ يسيراً حتى يَسيلَ الدم. قال الشافعى: والإشعار فى الصفحة اليمنى، كذلك أشعر النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم. وكان إذا بعث بهَدْيهِ، أمرَ رسولَه إذا أشرف على عَطَبٍ شىءٌ منه أن يَنحره، ثم يَصْبغَ نعلَه فى دمه، ثم يجعلَه على صفحته، ولا يأكل منه هو، ولا أحدٌ من أهل رفقته ثم يقسِمُ لحمه، ومنعه من هذا الأكل سداً للذريعة، فإنه لعلَّه ربَّما قصَّر فى حفظه ليُشارِفَ العطَب، فينحره، ويأكل منه، فإذا علم أنه لا يأكلُ منه شيئاً، اجتهَد فى حفظه. وشرَّك بين أصحابه فى الهَدْى كما تقدَّم:البدنةُ عن سبعة، والبقرةُ كذلك. وأباح لسائق الهَدْى ركوبَه بالمعروف إذا احتاج إليه حتى يَجِدَ ظهراً غيرَه وقال علىُّ رضى اللَّه عنه: يشربُ مِن لَبنها ما فضَل عن ولدها. وكان هَديُه صلى اللَّه عليه وسلم نحرَ الإبل قياماً، مقيَّدة، معقولَة اليُسرى، على ثلاث، وكان يُسمِّى اللَّهَ عِند نحره، ويُكبِّرُ، وكان يذبح نُسُكه بيده، وربما وكَّل فى بعضه، كما أمر علياً رضى اللَّه عنه أن يذبح ما بقى من المائة. وكان إذا ذبح الغنم، وضع قدَمه على صِفاحها ثم سمَّى وكبَّر، وذبح، وقد تقدَّم أنه نحر بمِنَى وقال ![]() وأباحَ صلى اللَّه عليه وسلم لأُمَّتِه أن يأكُلوا من هَداياهم وضحاياهم، ويتزوَّدوا منها، ونهاهم مرةً أن يدَّخِروا منها بعد ثلاثٍ لدافَّةٍِ دَفَّتْ عليهم ذلكَ العامَ مِن الناس، فأحبَّ أن يُوسِّعوا عليهم. وذكر أبو دواد من حديث جُبير بن نفير، عن ثوبان قال: ضَحَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثم قَالَ: ((يا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَنَا لَحْمَ هذِهِ الشَّاةِ)) قال: فَمَا زِلْتُ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ. وروى مسلم هذه القصة، ولفظه فيها:أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له فى حَجة الوداع ![]() وكان رُبَّما قسم لُحوم الهَدْى، ورُبما قال: ((مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ)) فعل هذا، وفعل هذا، واستدل بهذا على جواز النُّهبة فى النِّثار فى العُرس ونحوه، وفُرِّقَ بينهما بما لا يَتَبَّينُ. فصل فى ذبح هَدْى المتمتع أو القارن وكان مِن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم ذبحُ هَدْى العُمرة عند المروةِ، وهَدْىِ القِران بمِنَى، وكذلك كان ابنُ عمر يفعل، ولم ينحر هَدْيَه صلى اللَّه عليه وسلم قطُّ إلا بعد أن حَلَّ، ولم ينحره قبل يومِ النحر، ولا أحدٌ مِن الصحابة البتة، ولم ينحره أيضاً إلا بعد طُلوع الشمس، وبعد الرمى، فهى أربعة أُمور مرتبة يوم النحر، أولها: الرمىُ، ثم النَّحرُ، ثمَّ الحلقُ، ثم الطوافُ، وهكذا رتَّبها صلى اللَّه عليه وسلم ولم يُرخِّص فى النحر قبل طلوعِ الشمس البتة، ولا ريبَ أن ذَلكَ مخالف لهَدْيِه، فحكمُه حكمُ الأُضحية إذا ذُبحت قبلَ طلوعِ الشمسِ. فصل وأما هديُه صلى الله عليه وسلم فى الأضاحى فإنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يكن يَدَعُ الأُضحية، وكان يُضَحِّى بكبشين، وكان ينحرُهما بعد صلاة العيد، وأخبر أن: ((مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فى شَىءٍ، وإنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ)). هذا الَّذى دلَّت عليه سُـنَّتُه وهَدْيُه، لا الاعتبارُ بوقت الصلاة والخطبة، بل بنَفس فِعلها، وهذا هو الذى ندينُ اللَّه به، وأمرهم أن يَذبحوا الجَذَعَ مِن الضَّأْنِ والثَّنِىَّ مِمَّا سِوَاهُ، وهى المُسِنَّة. وروى عنه أنه قَال: ((كُلُّ أيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ)) لكنَّ الحديثَ مُنقطعٌ لا يثبُت وصلُه. وأما نهيهُ عن ادِّخارِ لحومِ الأضاحى فوقَ ثلاثٍ، فلا يدُل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط، لأن الحديث دليل على نهى الذابح أن يدَّخِرَ شيئاً فوق ثلاثة أيام مِن يوم ذبحه، فلو أخَّر الذبح إلى اليوم الثالث، لجاز له الادِّخارُ وقتَ النهى ما بينه وبين ثلاثة أيام، والَّذين حدَّدوه بالثلاث، فهموا من نهيه عن الادِّخار فوقَ ثلاث أنَّ أولها من يوم النحر، قالوا: وغيرُ جائز أن يكون الذبحُ مشروعاً فى وقت يحرُم فيه الأكلُ، قالوا: ثم نُسِخَ تحريم الأكل فبقى وقت الذبح بحاله. فيقال لهم: إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ إلا عن الادِّخارِ فوق ثلاث، لم ينه عن التضحية بعد ثلاث، فأين أحدهما من الآخر، ولا تلازم بين ما نهى عنه، وبين اختصاصِ الذبح بثلاث لوجهين.. أحدهما: أنه يسوغُ الذبحُ فى اليوم الثانى والثالثِ، فيجوزُ له الادِّخار إلى تمام الثلاث من يوم الذبح، ولا يَتِمُّ لكم الاستدلالُ حتى يثبت النهىُ عن الذبح بعد يوم النحر، ولا سبيلَ لكم إلى هذا. الثانى: أنه لو ذبح فى آخر جزءٍ من يوم النحر، لساغ له حينئذ الادِّخارُ ثلاثة أيامٍ بعده بمقتضى الحديث، وقد قال علىُّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه: أيامُ النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده، وهو مذهبُ إمام أهلِ البصرةِ الحسنِ، وإمام أهل مكة عطاءِ بن أبى رباح، وإمامِ أهلِ الشام الأوزاعى، وإمامِ فقهاء أهلِ الحديث الشافعى رحمه اللَّه، واختاره ابنُ المنذر، ولأن الثلاثة تختصُّ بكونها أيام مِنَى، وأيام الرمى، وأَيام التشريق، ويحرُم صيامُها، فهى إخوة فى هذه الأحكام، فكيف تفترق فى جواز الذبح بغير نص ولا إجماع. وروى من وجهين مختلفين يَشُدُّ أحدُهما الآخر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كُلُّ مِنَى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ أَيامِ التَّشريِقِ ذَبْحٌ))، وروى من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع، ومن حديث أُسامة بن زيد، عن عطاء، عن جابر. قال يعقوب بن سفيان: أُسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون، وفى هذه المسألة أربعةُ أقوال، هذا أحدُها. والثانى: أنَّ وقتَ الذبح، يومُ النَّحر، ويومانِ بعده، وهذا مذهبُ أحمد، ومالك، وأبى حنيفة رحمهم اللَّه، قال أحمد: هو قولُ غيرِ واحدٍ من أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وذكره الأثرم عن ابن عمر، وابن عباس رضى اللَّه عنهم. الثالث: أنَّ وقتَ النحر يومٌ واحد، وهو قولُ ابنِ سيرين، لأنه اختصَّ بهذه التسميةِ، فدلَّ على اختصاص حكمِها به، ولو جاز فى الثلاثة، لقيل لها: أيامُ النحر، كما قيل لها: أيامُ الرمى، وأيامُ مِنَى، وأيامٍُ التشريقِ، ولأن العيد يُضاف إلى النَّحر، وهو يومٌ واحد، كما يقال: عيد الفطر. الرابع: قولُ سعيدِ بنِ جبير، وجابرِ بن زيد: أنه يوم واحد فى الأمصار، وثلاثةُ أيام فى مِنَى، لأنها هناك أيام أعمالِ المناسكِ من الرمىِ والطواف والحلقِ، فكانت أياماً للذبح، بخلاف أهلِ الأمصار. فصل فى الحظر على المضحى أن يأخذ من ظفره أو شعره إذا دخل العشر من ذى الحِجَّة حتى يُضَحِّى ومن هَدْيه - صلى اللَّه عليه وسلم -: أن مَن أراد التَّضحيةَ، ودخل يومُ العشر، فلا يأخُذْ مِن شعره وبشره شيئاً، ثبت النهىُ عن ذلك فى ((صحيح مسلم)) وأما الدارقطنى فقال: الصحيحُ عندى أنه موقوف على أُمِّ سلمة. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#102 |
![]() ![]() |
![]()
وكان مِن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم اختيارُ الأُضحيةِ، واستحسانُها، وسلامُتها مِن العُيوب، ونهى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الأَذُنِ والقَرْنِ، أى: مقطوعة الأذن، ومكسورة القَرن، النصف فما زاد، ذكره أبو داود، وأمرَ أَنْ تُسْتَشْرَفَ العَيْنُ والأُذُنُ، أى: يُنظر إلى سلامتها، وأن لا يُضحَّى بِعَوْرَاءَ، ولا مُقابَلَة، ولا مُدَابَرَة، ولا شرقاءَ، ولا خَرْقَاءَ. والمُقَابَلَةُ: هى التى قُطِعَ مُقَدَّمُ أُذُنِها، والمُدَابَرَةُ: الَّتِى قُطِعَ مُؤَخَّرُ أُذُنِهَا، والشَّرُقَاءُ: الَّتى شُقَّتْ أُذُنُها، والخَرْقَاءُ: الَّتى خُرِقَتْ أُذُنُها. ذكره أبو داود.
وذكر عنه أيضاً: ((أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِئُ فى الأَضَاحِى: العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، والمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، والعَرْجَاءُ البَيِّنُ عَرَجُهَا، والكَسيرَةُ الَّتى لا تُنْقى، والعَجْفَاءُ التى لا تُنْقى)) أى: من هزالها لا مُخَّ فيها. وذكر أيضاً أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المُصْفَرةِ، والمُسْتَأْصَلَةِ، والبَخْقَاء، والمُشَيَّعَةِ، والكَسْراء. فالمُصُفَرة: التى تُستأصل أذُنها حتى يَبْدُوَ صِمَاخُها، والمُستَأْصَلَةُ: التى استُؤصِلَ قَرْنُها مِنْ أَصْلِهِ، والبَخْقَاء: التى بخقت عينُها، والمشيَّعة: التى لا تتبع الغنم عَجَفاً وضَعْفاً، والكَسْرَاءُ: الكَسِيرة، واللَّه أعلم. فصل فى أن من هَدْيه صلى الله عليه وسلم أن يُضحِّى بالمُصلَّى وكان مِن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم أن يُضحِّىَ بالمُصلَّى، ذكره أبو داود عن جابر أنه شَهِدَ معه الأضحى بالمصلَّى، فلما قَضَى خُطبته نزل مِن منبره، وأُتى بِكَبْشٍ، فذبحه بيده وقال: ((بِسْمِ اللَّه، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، هذَا عَنِّى وَعَمَّن لَمْ يُضَحِّ مِنْ أمتى)) وفى ((الصحيحين)) أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يَذْبَحُ وينحَرُ بالمصَلَّى. وذكر أبو داود عنه: أنه ذبح يومَ النحر كبشيْنِ أقرنين أمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَينِ، فلما وجَّهَهُمَا قال: ((وجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً، ومَا أَنَا مِنَ المُشْركِينَ، إنَّ صَلاتى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتى للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَريكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أوَّلُ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللَّهِ، واللَّهُ أكْبَرُ)) ثُمَّ ذَبَح. وأمَر الناسَ إذا ذبحوا أن يُحسِنُوا الذبح، وإذا قتلُوا أن يُحسِنوا القِتلة، وقال: ((إن اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ)). وكان من هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم أن الشاة تُجزِئُ عَنًِ الرَّجُلِ، وعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ولو كَثُرَ عددُهم، كما قال عطاءُ بن يسار: سألتُ أبا أيوبٍ الأنصارىَّ: ((كيف كانت الضَّحايا على عهدِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنْ كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّى بالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ)). قال الترمذى: حديث حسن صحيح. فصل فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى العقيقة فى ((الموطأ)) أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ العَقِيقَةِ، فقالَ: ((لاَ أُحِبُّ العُقُوقَ)) كأنه كَرِهَ الاسم، ذكره عن زيد بن أسلم، عن رجل من بنى ضَمْرَةَ، عن أبيه. قال ابن عبد البر: وأحسنُ أسانيده ما ذكره عبد الرزاق: أنبأ داود ابن قيس، قال: سمعتُ عمرو بن شعيب يُحدِّث عن أبيه، عن جده قال: سُئل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ العَقِيقَةِ، فقال: ((لا أُحِبُّ العُقُوقَ)) وكَأَنَّهُ كَرِهَ الاسْمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ يَنْسُكُ أَحَدُنَا عَنْ وَلَدِهِ؟ فَقَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ مِنْكُم أنَ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ، فَلْيَفْعَلْ: عَنِ الغُلاَم شَاتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاة)). وصح عنه من حديث عائِشَةَ رضى اللَّه عنها: ((عَنِ الغُلام شَاتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ)). وقال: ((كُلُّ غُلاَم رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، ويُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَمَّى)). قال الإمام أحمد: معناه: أنه محبوسٌ عن الشفاعة فى أبويه، والرهن فى اللُّغة: الحبس، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، وظاهر الحديثِ أنه رهينةٌ فى نفسه، ممنوعٌ محبوس عن خير يُراد به، ولا يلزمُ من ذلك أن يُعاقَب على ذلك فى الآخرة، وإن حُبِسَ بترك أبويه العقيقةَ عما ينالُه مَنْ عَقَّ عنه أبواه، وقد يفوتُ الولَد خير بسبب تفريطِ الأبوين وإن لم يكن مِن كسبه، كما أنَّه عند الجِماع إذا سمَّى أبوه، لم يضرَّ الشيطانُ ولَدَه، وإذا ترك التسميةَ، لم يحصل للولد هذا الحِفْظُ. وأيضاً فإنَّ هذا إنما يدُلُّ على أنها لازمة لا بُد منها، فشبه لزومَها وعدَمَ انفكاك المولود عنها بالرهن. وقد يَسْتَدِلُّ بهذا مَن يرى وجوبَها كالليث بن سعْد والحسن البصرى، وأهل الظاهر. واللَّه أعلم. فإن قيل: فكيف تصنعون فى رواية همَّام عن قتادة فى هذا الحديث: ((ويُدَمَّى)) قال همام: سُئِلَ قتادةُ عن قوله: و ((يُدَمَّى)) كيف يصنعُ بالدم؟ فقال: إذا ذُبِحَت العقيقةُ، أُخِذَتْ منها صوفة، واستُقبِلَت بها أوداجُها، ثم تُوضعُ على يافوخِ الصَّبىِّ حتى تَسِيلَ على رأسه مثلَ الخيط، ثم يُغسل رأسه بعد ويُحلق. قيل: اختَلَف الناسُ فى ذلك، فمِن قائل: هذا من رواية الحسن عن سَمُرَةَ، ولا يَصِحُّ سماعُه عنه، ومِن قائل: سماعُ الحسن عن سَمُرَةَ حديث العقيقة هذا صحيح، صحَّحه التِرمِذىُّ، وغيرُه، وقد ذكره البخارىُّ فى ((صحيحه)) عن حبيب بن الشهيد قال: قال لى محمَّدُ بنُ سيرين: اذهب فَسَلِ الحَسَنَ ممن سمِع حديثَ العقيقة؟ فسأله فقال: سمعته من سَمُرَة. ثم اختُلِفَ فى التدميةِ بعدُ: هل هى صحيحة، أو غلط؟ على قولين. فقال أبو داود فى ((سننه)): هى وهم مِن همَّام بن يحيى. وقوله: ((ويُدَمَّى))، إنما هو ((ويُسَمَّى)) وقال غيرُه: كان فى لسان هَمَّام لُثْغَةٌ فقال: ((ويُدَمَّى)) وإنما أراد أن يُسمَّى، وهذا لا يصِح، فإن هماماً وإن كان وَهِمَ فى اللفظ، ولم يُقِمْه لِسانُه، فقد حكى عن قتادة صفةَ التدمية، وأنه سئل عنها فأجاب بذلك، وهذا لا تحتمِلُه اللُّغة بوجه، فإن كان لفظُ التدمية هنا وَهْماً، فهو من قتادة، أو من الحسن، والذين أثبتوا لفظَ التدمية قالوا: إنه من سُـنَّة العقيقة، وهذا مروى عن الحسن وقتادة، والذين منعوا التدمية، كمالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، قالوا: ((ويُدَمَّى)) غلط، وإنما هو: ((ويُسمَّى))، قالوا: وهذا كان مِن عملِ أهلِ الجاهلية، فأبطله الإسلامُ، بدليل ما رواه أبو داود، عن بُريدة بنِ الحُصَيْبِ قال: كُنَّا فى الجَاهِلِيَّةِ إذَا وُلِدَ لأَحَدِنَا غُلامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بالإسْلاَم، كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُه بِزَعْفَرَان. قالوا: وَهَذَا وإنْ كَانَ فى إسناده الحسين بن واقد، ولا يُحتَجُّ به، فإذا انضاف إلى قولِ النبىَّ صلى الله عليه وسلم: ((أَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى)) والدم أذى، فكيف يأمرهم أن يلطِّخوه بالأذى؟ قالوا: ومعلومٌ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الحَسَنِ والحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ، وَلَمْ يُدَمِّهِمَا، ولا كانَ ذلكَ مِنْ هَدْيه، وهَدْىِ أصحابِه، قالوا:وكيفِ يكونُ مِن سُـنَّته تنجيسُ رأسِ المولود، وأين لهذا شاهدٌ ونظيرٌ فى سُـنَّته؟؟وإنما يَليقُ هذا بأهلِ الجَاهلية. فصل فى عَقِّه صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين فإن قيل: عَقُّه عن الحسن والحُسينِ بِكبش كبشٍ، يَدُلُّ على أن هَدْيه أن على الرأسِ رأساً، وقد صحح عبدُ الحق الإشبيلى من حديثِ ابنِ عبَّاس وأنسٍ أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الحَسَنِ بِكَبْشٍ، وعَنِ الحُسينِ بِكَبْشٍ وكَانَ مولدُ الحسن عامَ أُحُدٍ والحسين فى العام القابل منه. وروى الترمذىُّ من حديث علىّ رضى اللَّه عنه قال: عَقَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الحسنِ شاة، وقال: ((يا فَاطِمَةُ احْلِقِى رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِى بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً))، فوزنَّاه فَكَانَ وزنُه دِرهماً أوْ بعضَ دِرهمَ، وهذا وإن لم يكن إسناده متصلاً فحديثُ أَنس وابن عباس يكفيان. قالُوا: لأنه نُسُكٌ، فكان على الرأس مثلُه، كالأُضحية ودمِ التمتع. فالجواب أن أحاديثَ الشّاتين عن الذكر، والشاة عن الأُنثى، أولى أن يؤخذ بها لوجوه.. أحدُها: كثرتُها، فإن رواتَها: عائشةُ، وعبدُ اللَّه بن عمرو، وأمَُّ كُرْزِ الكعبية، وأسماءُ. فروى أبو داود عن أمِّ كُرز قالت: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَارِيةِ شَاةٌ)). قال أبو داود: وسمعتُ أحمد يقولُ: مُكافئتانِ: مستويتانِ أو مقاربتان، قلتُ: هو مكَافَأتانِ بفتح الفاء، ومكَافِئَتان بكسرها، والمحدِّثون يختارونَ الفتحَ، قال الزمخشرى: لا فرقَ بين الروايتين، لأن كل مَنْ كافأْته، فقد كافأَك. وروى أيضاً عنها ترفعُه: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا)) وسمعتُه يقول: ((عَن الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ، لاَ يَضُرُّكُم أذُكْرَاناً كُنَّ أَمْ إنَاثاً))، وعنها أيضاً ترفعه: ((عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مِثْلانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ))، وقال الترمذى: حديثٌ صحيح. وقد تقدَّم حديثُ عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه فى ذلك، وعَنْ عائِشة أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أَمرَهُم عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَاريَةِ شَاةٌ. قال الترمذى: حديث حسن صحيح. وروى إسماعيل بن عَيَّاش، عن ثابتِ بنِ عَجلان، عن مجاهد عن أسماء، عَن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((يُعَقُّ عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ)). قال مهنا: قلتُ لأحمد: مَن أسماء؟ فقال: ينبغى أن تكون أسماءَ بنتَ أبى بكر. وفى كتاب الخلال: قال مهنا: قلتُ لأحمد: حدثنا خَالِدُ بنُ خِداش، قال: حدثنا عبد اللَّه بن وهب، قال: حدثنا عمرو بن الحارث أن أيوب ابن موسى حدَّثه، أن يزيد بن عبد المزنى حدَّثه، عن أبيه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((يُعَقُّ عَنِ الغُلامِ، وَلاَ يُمَسُّ رَأْسُهُ بِدَمٍ))، وقال: ((فى الإبِلِ الفَرَعُ، وَفى الغَنَمِ الفَرَعُ)) فقال أحمد: ما أعرفه، ولا أعرِفُ عبد بن يزيد المزنى، ولا هذا الحديث، فقلتُ له: أتنكره؟ فقال: لا أعرِفه، وقصةُ الحسنِ والحسين رضى اللَّه عنهما حديثُ واحد. الثانى: أنها من فعل النبى صلى الله عليه وسلم، وأحاديثُ الشاتين من قَوله، وقولُه عام، وفِعْلُه يحتمل الاختصاص. الثالث: أنها متضمِّنة لزيادة، فكان الأخذُ بها أولى. الرابع: أن الفعل يدُلُّ على الجواز، والقول على الاستحباب، والأخذُ بهما ممكن، فلا وجه لتعطيل أحدهما. الخامس: أن قصة الذبح عن الحسن والحسين كانت عام أُحُد والعام الذى بعده، وأم كُرز سَمِعَتْ مِن النبى صلى الله عليه وسلم ما روته عام الحُديبية سنة ست بعد الذبح عن الحسن والحسين، قاله النسائى فى كتابه الكبير. السادس: أن قِصة الحسنِ والحُسين يحتمِل أن يُراد بها بيان جنسِ المذبوح، وأنه مِن الكِباش لا تخصيصه بالواحد، كما قالت عائشة: ضحَّى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة، وكن تِسعاً، ومرادها: الجنس لا التخصيص بالواحدة. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#103 |
![]() ![]() |
![]()
السابع: أن اللَّه سُبْحَانَه فضَّل الذَّكَرَ على الأُنثى، كما قال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36]، ومقتضى هذا التفاضل ترجيحُه عليها فى الأحكام، وقد جاءت الشريعةُ بهذا التفضيل فى جعل الذكر كالأُنثيين، فى الشهادة، والميراثِ، والديةِ، فكذلك أُلْحِقَتِ العقيقةُ بهذه الأحكام.
الثامن: أن العقيقة تُشبه العِتق عن المولود، فإنه رهينٌ بعقيقته، فالعقيقةُ تَفُكُّه وتعتِقه، وكانَ الأولى أن يُعَقَّ عن الذكر بشاتين، وعن الأُنثى بشاة، كما أن عِتق الأُنثيين يقومُ مقام عِتق الذكر. كما فى ((جامع الترمذى)) وغيره عن أبى أُمامة قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((أيُّمَا امْرىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَءاً مُسْلِماً، كَانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنْهُ، وَأيُّمَا امْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَق امْرَأتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجزى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْواً مِنْهُ، وأَيُّمَا امْرأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرأَةً مُسْلِمَةً كانت فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ، يُجْزى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهَا)) وهذا حديث صحيح. فصل ذكر أبو داود فى ((المراسيل)) عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال فى العقيقة التى عقَّتْها فاطِمةُ عن الحسن والحسين رضى اللَّه عنهما: ((أَنِ ابْعَثُوا إلَى بَيْتِ القَابِلَةِ بِرِجْلٍ وَكُلُوا وَأَطْعِمُوا وَلاَ تَكْسِرُوا مِنْهَا عَظْماً)). فصل وذكر ابنُ أيمن مِن حديث أنس رضى اللَّه عنه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ، وهذا الحديثُ قال أبو داود فى ((مسائله)): سمعتُ أحمد حدََّّثهم بحديث الهيثم بنِ جميل، عن عبد اللَّه بن المثنى عن ثُمامة عن أنس أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن نفسه، فقال أحمد: عبد اللَّه بن محرز عن قتادة عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن نفسه، قال مهنا: قال أحمد: هذا منكر، وضعَّف عبد اللَّه بن المحرر. فصل ذكر أبو داود عن أبى رافع قال ![]() فصل فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى تسمية المولود وخِتانه قد تقدَّم قولُه فى حديث قتادة عن الحسن، عن سَمُرَةَ فى العقيقة: ((تُذْبَحُ يَوْمَ سًَابِعِهِ وَيُسَمَّى)) قال الميمونى: تذاكرنا لِكَم يُسَمَّى الصبىُّ؟ قال لنا أبو عبد اللَّه: يُروى عن أنس أنه يُسمَّى لثلاثة، وأما سَمُرة، فقال: يُسمَّى فى اليوم السابع، فأمّا الخِتَان، فقال ابنُ عبّاس: كانوا لا يختنون الغلام حتى يُدرِكَ، قال الميمونى: سمعتُ أحمد يقول: كان الحسن يكره أن يُختن الصبىُّ يومَ سابعه، وقال حنبل: إن أبا عبد اللَّه قال: وإن خُتِنَ يومَ السابع، فلا بأس، وإنما كره الحسن ذلك لئلا يتشبه باليهود، وليس فى هذا شىء. قال مكحول: ختن إبراهيمُ ابنه إسحاق لسبعة أيام، وختن إسماعيل لثلاث عشرة سنة، ذكره الخلال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فصار خِتان إسحاق سُـنَّة فى ولده، وخِتان إسماعيل سُـنَّة فى ولده، وقد تقدَّم الخلافُ فى ختان النبىَّ صلى الله عليه وسلم متى كان ذلك. فصل فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الأسماء والكُنى ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ، لاَ مَلِكَ إلاَّ اللَّهُ)). وثبت عنه أنه قال: ((أحَبُّ الأسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وهَمَّامٌ، وأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةٌ)). وثبت عنه أنه قال: ((لا تُسَمِينَّ غُلامَكَ يَسَاراً وَلاَ رَبَاحاً وَلاَ نَجِيحاً وَلاَ أَفْلَحَ، فَإنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّتَ هُوَ؟ فَلاَ يَكُونُ، فَيُقَالُ: لا)). وثبت عنه أنه غيَّر اسم عاصية، وقال: ((أنتِ جَميلَةٌ)). وكان اسم جُوَيْريَةَ: بَرَّةً، فغيَّره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باسم جُوَيْرِيَة. وقالت زينبُ بنتُ أمِّ سلمة: نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُسَمَّى بِهذا الاسمِ، فَقَالَ: ((لاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُم، اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ البِّر مِنْكُم)). وغيَّر اسم أَصْرَم بزُرعةَ، وغيَّرَ اسمَ أبى الحَكَم بأبى شُرَيْحٍ. وغيَّرَ اسم حَزْن جدِّ سعيد بن المسيب وجعله سَهلاً فأبَى، وقال ((السَّهْلُ يُوطَأ وَيُمْتَهَنُ)). قال أبو داود: وغيَّرَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم اسمَ العَاصِ، وعَزِيز، وعَتْلَةَ، وشَيطَان والحَكَم، وغُراب، وحُباب، وشِهاب، فسماه هِشاماً، وسمِّى حرباً سِلْماً، وسمَّى المضطجعَ المنبعِثَ، وأرضاً عَفْرَةً سمَّاها خَضِرَةً، وشِعْبُ الضَّلالَةِ سماه شِعْبَ الهُدى، وبنو الزِّنية سماهم بنى الرِّشدة، وسمَّى بنى مُغوِيَةَ بنى رِشْدَةَ. فصل فى فقه هذا الباب لما كانت الأسماءُ قوالِبَ للمعانى، ودالَّةً عليها، اقتضتِ الحكمةُ أن يكونَ بينها وبينها ارتباطٌ وتناسبٌ، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبى المحضِ الذى لا تعلُّقَ له بها، فإن حِكمة الحكيم تأبى ذلك، والواقِعُ يشهد بِخَلافه، بل للأسماء تأثيرٌ فى المسميَات، وَلِلْمُسَمَّيَاتِ تأثُّر عن أسمائها فى الحُسن والقبح، والخِفَّة والثِّقَل، واللطافة والكَثَافة، كما قيل: وقلَّما أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ *** إلاَّ وَمَعْنَاهُ إن فَكَّرتَ فى لَقَبِهْ وكان صلى اللَّه عليه وسلم يستحِبُّ الاسم الحسَن، وأمر إذا أَبْرَدُوا إليهِ بَرِيداً أن يَكُونَ حَسَنَ الاسْمِ حَسَنَ الوَجْهِ. وكانَ يأخذ المعانى من أسمائِهَا فى المنامِ واليقظة، كما رأى أنه وأصحابَه فى دار عُقبة بن رافِع، فأُتُوا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابَ، فأَوَّله بأن لهم الرفعةَ فى الدنيا، والعاقبةَ فى الآخرةِ، وأنَّ الدِّينَ الذى قد اختاره اللَّه لهم قد أرطب وطَابَ، وتَـأوَّلَ سُهولة أمرِهم يومَ الحديبية مِن مجيـئ سُهيل بن عمرو إليـه. وندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجلٌ يحلُبها، فقال: ((ما اسْمُكَ))؟ قال: مُرَّة، فقال: ((اجْلِسْ))، فَقَامَ آخَرُ فقال: ((ما اسْمُكَ))؟ قال: أظنه حَرْب، فقال: ((اجْلِسْ))، فَقَامَ آخرُ فقال: ((ما اسْمُكَ))؟ فقال: يَعِيشُ، فَقَال: ((احلُبها)). وكان يكره الأمكِنةَ المنكرةَ الأسماء، ويكره العُبُورَ فيها، كمَا مَرَّ فى بعضِ غزواته بين جبلين، فسأل عن اسميهما فقالوا: فاضِحٌ ومُخزٍ، فعدلَ عنهما، ولَم يَجُزْ بينهما. ولما كان بين الأسماء والمسميَّاتِ مِن الارتباط والتناسُبِ والقرابةِ، ما بين قوالب الأشياءِ وحقائِقها، وما بينَ الأرواحِ والأجسامِ، عَبَرَ العَقْلُ مِن كل منهما إلى الآخر، كما كان إياسُ بن معاوية وغيرُه يرى الشخصَ، فيقولُ: ينبغى أن يكونَ اسمُه كَيْتَ وكَيْتَ، فلا يكاد يُخطىءُ، وضِدُّ هذا العبور من الاسم إلى مسماه، كما سأل عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه رجلاً عن اسمه، فقال: جَمْرَةُ، فقال: واسمُ أبيك؟ قال: شِهَابٌ، قال: مِمَّن؟ قال: مِنَ الحُرَقَةِ، قال: فمنزلُك؟ قال: بِحرَّة النَّار، قال: فأينَ مسكنُكَ؟ قال: بِذَاتِ لَظَى. قال: اذهَبْ فقد احترق مسكنك، فذهب فوجد الأمرَ كذلك، فَعَبَرَ عمر من الألفاظ إلى أرواحها ومعانيها، كما عَبَرَ النبى صلى الله عليه وسلم من اسم سُهيل إلى سهولة أمرهم يَوْم الحُديبية، فكان الأمرُ كذلك، وقد أمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّته بتحسين أسمائهم، وأخبر أنهم يُدعَوْنَ يومَ القِيَامَةِ بها، وفى هذا - واللَّه أعلم - تنبيهٌ على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء، لتكون الدعوة على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسنِ، والوصفِ المناسِبِ له. وتأمل كيف اشتُقَّ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم مِن وصفه اسمان مطابقان لمعناه، وهما أحمد ومحمَّد، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمَّد، ولِشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، فارتبط الاسمُ بالمسمى ارتباطَ الروحِ بالجسد، وكذلك تكنيتُه صلى اللَّه عليه وسلم لأبى الحكم بن هشام بأبى جهل كنية مطابقة لوصفه ومعناه، وهو أحقُّ الخَلْقِ بهذه الكُنية، وكذلِك تكنيةُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ لعبد العُزَّى بأبى لهب، لما كان مصيره إلى نار ذاتِ لهب، كانت هذه الكُنية أليقَ به وأوفقَ، وهو بها أحقُّ وأخلقُ. ولما قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم المدينة، واسمها يَثْرِبُ لا تُعرف بغير هذا الاسم، غيَّره بـ ((طيبة)) لـمَّا زال عنها ما فى لفظ يثرِب من التثريب بما فى معنى طَيبة من الطِّيب، استحقت هذا الاسم، وازدادت به طيباً آخر، فأثَّر طِيبُها فى استحقاق الاسم، وزادها طِيباَ إلى طيبها. ولما كان الاسمُ الحسنُ يقتضى مسمَّاه، ويستدعيه من قرب، قال النبى صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب وهو يدعوهم إلى اللَّه وتوحيده: ((يَابَنى عَبْد اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ قَدْ حَسَّنَ اسْمَكُم واسْمَ أَبِيكُم)) فانظر كيف دعاهم إلى عبودية اللَّه بحسن اسم أبيهم، وبما فيه من المعنى المقتضى للدعوة، وتأمل أسماءَ الستة المتبارِزين يومَ بدر كيف اقتضى القَدَرُ مطابقة أسمائهم لأحوالهم يومئذ، فكان الكفارُ: شيبة، وعُتبةَ، والوليدَ، ثلاثة أسماء من الضعف، فالوليدُ له بداية الضعف، وشيبة له نهاية الضعف، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم: 54] وعُتْبة من العتب، فدلت أسماؤهم على عتبٍ يَحِلُّ بهم، وضَعْفٍ ينالُهم، وكان أقرانهم من المسلمين: علىٌ، وعبيدةُ، والحارِث، رضى اللَّه عنهم، ثلاثة أسماء تُناسب أوصافهم، وهى العلو، والعبودية، والسعى الذى هو الحرث فعَلَوْا عليهم بعبوديتهم وسعيهم فى حرث الآخرة، ولما كان الاسم مقتضياً لمسماه، ومؤثِّراً فيه، كان أحبُّ الأسماءِ إلى اللَّهِ ما اقتضى أحبَّ الأوصاف إليه، كعبدِ اللَّه، وعبدِ الرحمن، وكان إضافةُ العبودية إلى اسم الله، واسم الرحمن، أحبَّ إليه من إضافتها إلى غيرهما، كالقاهر، والقادر، فعبدُ الرحمن أحبُّ إليه من عبد القادر، وعبدُ اللَّهِ أحبُّ إليه من عَبْدِ ربِّه، وهذا لأن التعلق الذى بين العبد وبين اللَّه إنما هو العبوديةُ المحضة، والتعلُّقُ الذى بين اللَّهِ وبينَ العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجودُه وكمالُ وجوده، والغايةُ التى أوجده لأجلها أن يتألّه له وحده محبةً وخوفاً، ورجاءاً وإجلالاً وتعظيماً، فيكون عَبْداً لِلَّهِ وقد عبده لما فى اسم اللَّه من معنى الإلهية التى يستحيلُ أن تكون لغيره، ولما غلبت رحمتُه غضَبه وكانت الرحمةُ أحبَّ إليه من الغضب، كان عبدُ الرحمن أحبَّ إليه من عبد القاهر. فصل فى المحظور من الأسماء ولما كان كلُّ عبد متحركاً بالإرادة، والهمُّ مبدأُ الإرادة، ويترتب على إرادته حركتُه وكسبُه، كان أصدقَ الأسماء اسمُ همَّام واسمُ حارث، إذ لا ينفكُّ مسماهما عن حقيقة معناهما، ولما كان المُلْكُ الحقُّ لِلَّهِ وحده، ولا ملك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضَعه عند اللَّه، وأغضَبه له سمُ ((شاهان شاه)) أى: ملكُ الملوك، وسلطانُ السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير اللَّه، فتسميةُ غيره بهذا من أبطل الباطل، واللَّه لا يُحب الباطلَ. وقد ألحقَ بعض أهل العلم بهذا: ((قاضى القضاة)) وقال: ليس قاضى القضاة إلا مَن يقضى الحقّ وهو خيرُ الفاصلين، الذى إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون. ويلى هذا الاسم فى الكراهة والقبح والكذب: سيِّدُ الناس، وسيِّدُ الكل، وليس ذلك إلا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاصة، كما قال: ((أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ)) فلا يجوز لأحد قطُّ أن يقول عن غيره: إنَّه سيِّدُ الناس وسيِّدُ الكل، كما لا يجوز أن يقول: إنَّه سيِّد ولدِ آدم. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#104 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
ولما كان مسمى الحربِ والمُرَّة أكرَه شئ للنفوس وأقبَحَها عندها، كان أقبحُ الأسماء حرباً ومُرَّة، وعلى قياس هذا حنظلة وحَزْن، وما أشبههما، وما أجدرَ هذه الأسماء بتأثيرها فى مسمياتها، كما أثَّر اسم ((حَزْن)) الحزونة فى سعيد بن المسيِّب وأهلِ بيته. فصل فى ندبه صلى الله عليه وسلم أُمَّته إلى التسمى بأسماء الأنبياء ولما كان الأنبياءُ ساداتِ بنى آدم، وأخلاقُهم أشرفَ الأخلاق، وأعمالُهم أَصَحَّ الأعمال، كانت أسماؤهم أشرفَ الأسماء، فندب النبىُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّته إلى التسمى بأسمائهم، كما فى سنن أبى داود والنسائى عنه: ((تَسَمَّوْا بأَسْمَاءِ الأنْبِيَاءِ)) ولو لم يكن فى ذلك من المصالح إلا أن الاسمَ يُذَكِّرُ بمسمَّّاه، ويقتضى التعلُّقَ بمعناه، لكفى به مصلحةً مع ما فى ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذِكرها، وأن لا تُنسى، وأن تُذكِّر أسماؤُهم بأوصافهم وأحوالهم. فصل فى النهى عن التسمية ببعض الأسماء وأما النهى عن تسمية الغلام بـ: يسار وأفلحَ ونجيح ورباح، فهذا لمعنى آخر قد أشار إليه فى الحديث، وهو قوله: ((فإنك تقولُ: أَثَمَّتَ هو؟ فيُقال: لا)) - واللَّه أعلم - هل هذه الزيادة من تمام الحديث المرفوع، أو مدرجةٌ من قول الصحابى، وبكل حال فإن هذه الأسماء لما كانت قد تُوجب تطيُّراً تكرَهه النفوس، ويَصُدُّها عما هى بصدده، كما إذا قلت لرجل: أعندك يَسار، أو رَبَاح، أو أفلَح؟ قال: لا، تطيَّرت أنْتَ وهو مِن ذلك، وقد تقع الطِّيَرةُ لا سيما على المتطيِّرين، فقلَّ مَن تطيَّر إلا ووقعت به طِيرَتُه، وأصابه طائرُه، كما قيل: تَعَلَّمْ أنَّه لاَ طَيْرَ إلاَّ *** عَلَى مُتَطَيِّرٍ فَهُو الثُّبُورُ اقتضت حكمةُ الشارع، الرءوف بأُمَّته، الرحيمِ بهم، أن يمنعَهم من أسبابٍ تُوجب لهم سماعَ المكروه أو وقوعَه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تُحَصِّلُ المقصودَ من غير مفسدة، هذا أولى، مع ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الاسم عليه، بأن يُسمى يساراً مَن هو مِن أعسر الناس، ونجيحاً مَن لا نجاح عنده، ورَبَاحاً مَن هو من الخاسرين، فيكون قد وقع فى الكذب عليه وعلى اللَّه، وأمر آخر أيضاً وهو أن يُطالَب المسمَّى بمقتضى اسمه، فلا يُوجد عنده، فيجعل ذلك سبباً لذمِّة وسبِّه، كما قيل: سَمَّوْكَ مِنْ جَهْلِهِم سَدِيــداً *** واللَّه ِ مَا فِيكَ مِن ْ سَـدَادِ أنتَ الَّـذِى كَــوْنُه فَسَاداً *** فِى عَالَمِ الكَوْنِ والفَسَـادِ فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمَّى به، ولى من أبيات: وسَمَّيْـتـُه صَالِحَاً فاغْتَـدَى *** بِضِدِّ اسْمِهِ فى الوَرَى سَائِراً وَظَــنَّ بأنَّ اسْمَهُ سَاتِــرٌ*** لأوْصَافِهِ فَغَـدَا شَــاهِراً وهذا كما أن من المدح ما يكون ذماً وموجِباً لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يُمدح بما ليس فيه، فتُطالبه النفوسُ بما مُدِحَ به، وتظنّه عنده، فلا تجدهُ كذلك، فتنقلِبُ ذَمّاً، ولو تُرِكَ بغير مدح، لم تحصُلْ له هذه المفسدة، ويُشبه حاله حال مَن ولى وِلاية سيئة، ثم عُزِلَ عنها، فإنه تَنْقُصُ مرتبتُه عما كان عليه قبل الولاية، وينقُصُ فى نفوس الناس عما كان عليه قبلها، وفى هذا قال القائل: إذَا مَا وَصَفْتَ امْرَءَاً لامْرئٍ *** فَلاَ تَغْلُ فى وَصْفِهِ وَاقْصِـدِ فَإنَّْكَ إنْ تَغْلُ تَغْلُ الظُّنُو *** نُ فـيهِ إلـى الأمَدِ الأَبْعَدِ فَيَنْقُـصُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَه *** لِفَضْلِ المَـغِيبِ عَنِ المَشْهَدِ وأمر آخر: وهو ظنُّ المسمى واعتقادُه فى نفسه أنه كذلك، فيقعُ فى تزكية نفسه وتعظيمها وترفُّعِهَا على غيره، وهذا هو المعنى الذى نهى النبىُّ صلى الله عليه وسلم لأجله أن تُسمى ((بَرَّة)) وقال: ((لا تُزَكُّوا أنْفُسَكُم، اللَّه أعْلَمُ بِأَهْلِ البِرِّ مِنْكُم)). وعلى هذا فتُكره التسمية بـ: التَّقى، والمتَّقى، والمُطيعِ، والطائع، والراضى، والمُحسن، والمخلِص، والمنيب، والرشيدِ، والسديد. وأما تسميةُ الكفار بذلك، فلا يجوز التمكينُ منه، ولا دُعاؤُهُم بشئٍ من هذه الأسماء، ولا الإخبارُ عنهم بها، واللَّه عَزَّ وجَلَّ يغضَب مِن تسميتهم بذلك. فصل فى الكُنَى وأما الكُنْية فهى نوعُ تكريم لِلمَكْنِّى وتنويهٌ به كما قال الشاعر: أَكْنِيهِ حينَ أُنَادِيهِ لأُكْرِمَه *** وَلاَ أُلِقِّبُهُ وَالسَّوْءَةُ اللَّقَبُ وكنَّى النبى صلى الله عليه وسلم صُهيباً بأبى يحيى، وكًَنَّى علياً رضى اللَّه عنه بأبى تراب إلى كنيته بأبى الحسن، وكانت أحبَّ كنيته إليه، وكنَّى أخا أنسِ بن مالك وكان صغيراً دون البلوغ بأبى عُمير. وكان هَدْيُه صلى اللَّه عليه وسلم تكنيةَ مَن له ولد، ومَن لا ولد له، ولم يثبُت عنه أنه نهى عن كُنية إلا الكنية بأبى القاسم، فصح عنه أنه قال: ((تسمَّوْا بِاسْمِى وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيتِى)) فاختلف الناسُ فى ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يجوزُ التَّكَنِّى بكُنيته مطلقاً، سواء أفردها عن اسمه، أو قرنها به، وسواء محياه وبعدَ مماته، وعمدتُهم عمومُ هذا الحديث الصحيح وإطلاقُه، وحكى البيهقى ذلك عن الشافعى، قالوا: لأن النهى إنما كان لأَنَّ معنى هذه الكُنية والتسمية مختصةٌ به صلى اللَّه عليه وسلم، وقد أشار إلى ذلك بقوله: ((واللَّهِ لاَ أُعْطِى أَحَداً، وَلاَ أَمْنَعُ أحَداً، وَإنَّمَا أنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ)) قالوا: ومعلوم أن هذه الصفة ليست على الكمال لغيره، واختلف هؤلاء فى جواز تسمية المولود بقاسم، فأجازه طائفة، ومنعه آخرون، والمجيزون نظروا إلى أنَّ العِلَّة عدمُ مشاركة النبى صلى الله عليه وسلم فيما اختصَّ به من الكُنية، وهذا غيرُ موجود فى الاسم، والمانعون نظروا إلى أن المعنى الذى نهى عنه فى الكُنية موجود مثله هنا فى الاسم سواء، أو هو أولى بالمنع، قالوا: وفى قوله: ((إنما أنا قاسم)) إشعار بهذا الاختصاص. القول الثانى: أن النهى إنما هو عن الجمع بين اسمه وكُنيته، فإذا أُفِرد أحدُهما عن الآخر، فلا بأس. قال أبو داود: باب مَن رأى أن لا يجمع بينهما، ثم ذكر حديث أبى الزبير عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن تسمَّى باسمى فلا يَتَكَنَّ بكُنيتى، ومَن تكنَّى بكُنيتى فلا يتسَمَّ باسمى)) ورواه الترمذى وقال: حديث حسن غريب، وقد رواه الترمذى أيضاً من حديث محمد ابن عجلان عن أبيه عن أبى هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يَجْمَعَ أحَدٌ بَيْنَ اسمِهِ وكُنيته، ويُسمِّى مُحمَداً أبا القاسم. قال أصحابُ هذا القول: فهذا مقيِّد مفسِّر لما فى ((الصحيحين)) من نهيه عن التكنى بكُنيته، قالوا: ولأن فى الجمع بينهما مشاركةً فى الاختصاص بالاسم والكُنية، فإذا أُفْرِدَ أحدُهما عن الآخر، زال الاختصاص. القول الثالث: جوازُ الجمع بينهما وهو المنقولُ عن مالك، واحتجَّ أصحابُ هذا القول بما رواه أبو داود، والترمذى من حديث محمد ابن الحنفية، عن علىّ رضى اللَّه عنه قال: قلت: يا رسولَ اللَّه ؛ إنْ وُلِدَ لى وَلَدٌ مِنْ بَعْدِكَ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ وَأَكْنِيةِ بِكُنْيَتِكَ؟ قال: ((نعم)) قال الترمذى: حديث حسن صحيح. وفى سنن أبى داود عن عائشة قالت: جاءت امرأة، إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رَسُولَ اللَّه ؛ إنى وَلَدْتُ غُلاماً فسميتُه محمداً وكنًَّيته أبا القاسم، فذُكِرَ لى أنك تكره ذلك؟ فقال: ((ما الَّذى أحَلَّ اسْمِى وَحَرَّمَ كُنْيَتِى))، أو ((مَا الَّذِى حَرَّمَ كُنْيَتِى وَأَحَلَّ اسْمِى))؟ قال هؤلاء: وأحاديث المنع منسوخة بهذين الحديثين. القول الرابع: أن التكنى بأبى القاسم كان ممنوعاً منه فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وهو جائز بعد وفاته، قالوا: وسببُ النَّهى إنَّما كان مختصاً بحياته، فإنه قد ثبت فى ((الصحيح)) من حديث أنس قال: نادى رجل بالبَقيع: يا أبا القاسم، فالتفتَ إليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللَّه إنى لَمْ أَعْنِكَ، إنما دعوتُ فلاناً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((تسمَّوْا باسْمِى وَلا تَكنَّوا بكُنيتى)) قالوا: وحديثُ علىّ فيه إشارة إلى ذلك بقوله: إن وُلِدَ مِنْ بعدك وَلَدٌ، ولم يسأله عمن يولد له فى حياته، ولكن قال علىّ رضى اللَّه عنه فى هذا الحديث،: ((وكانت رخصة لى)) وقد شذَّ مَن لا يُؤبَه لقوله، فمنع التسمية باسمه صلى اللَّه عليه وسلم قياساً على النهى عن التكَّنى بكُنيته، والصواب أن التسمى باسمه جائز، والتكنى بكُنيته ممنوع منه، والمنع فى حياته أشدُّ، والجمعُ بينهما ممنوع منه، وحديثُ عائشة غريب لا يُعارَض بمثله الحديث الصحيح، وحديث علىّ رضى اللَّه عنه فى صحته نظر، والترمذى فيه نوع تساهل فى التصحيح، وقد قال علىّ: إنها رخصة له، وهذا يدل على بقاء المنع لمن سواه، واللَّه أعلم. فصل وقد كره قومٌ من السَلَف والخَلَف الكنيةَ بأبى عيسى، وأجازها آخرون، فروى أبو داود عن زيد بن أسلم أن عُمَرَ بنَ الخطاب ضرب ابناً له يُكنى أبا عيسى، وأن المغيرةَ بنَ شعبة تكنَّى بأبى عيسى، فقال له عمر: أما يكفيك أن تُكْنَى بأبى عبد اللَّه؟ فقال: إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كنَّانى، فقال: إن رسولَ اللَّه قَد غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخر، وإنَّا لفى جَلْجَتِنَا فلم يَزَل يُكنَّى بأبى عبد اللَّه حتى هَلَكَ. وقد كنَّى عائشة بأُمِّ عَبْدِ اللَّه، وكان لنسائه أيضاً كُنَى كأُمِّ حبيبة، وأُمّ سلمة. فصل فى النهى عن تسمية العنب كَرْماً ونهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن تسمية العِنَبِ كَرْماً وقال: ((الكَرْمُ قَلْبُ المُؤمِنِ)) وهذا لأن هذه اللفظةَ تَدُلُّ على كثرة الخير والمنافع فى المسمَّى بها، وقلبُ المؤمن هو المستحِقُّ لذلك دون شجرة العِنَب، ولكن: هل المرادُ النهىُ عن تخصيصِ شجرة العِنب بهذا الاسم، وأن قلب المؤمن أولى به منه، فلا يُمنع من تسميته بالكَرْم كما قال فى ((المِسكين)) و ((الرَّقُوب)) و ((المُفلِسِ))؟ أو المرادُ أنَّ تسميته بهذا مع اتخاذ الخمرِ المحرَّم منه وصف بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشراب الخبيثِ المحرَّمِِ، وذلك ذريعةٌ إلى مدح ما حرَّم اللَّه وتهييجِ النفوس إليه؟ هذا محتمل، واللَّه أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم، والأولى أن لا يُسمى شجرُ العنب كَرْماً. فصل فى كراهة تسمية العِشاء بالعتمة قال صلى اللَّه عليه وسلم: ((لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ عَلَى اسم صَلاتِكُم، أَلاَ وَإنَّهَا العِشَاءُ، وَإنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا العَتَمَةَ))، وصح عنه أنه قال: ((لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِى العَتَمَةِ والصُّبْحِ، لأَتَوْهُمَا وَلَو حَبْواً)) فقيل: هذا ناسخ للمنع، وقيل بالعكس، والصواب خلافُ القولين، فإن العلم بالتاريخ متعذِّر، ولا تعارُضَ بين الحديثين، فإنه لم يَنْهَ عن إطلاق اسم العتمة بالكُلِّية، وإنما نهى عن أن يُهْجَرَ اسمُ العِشَاء، وهو الاسمُ الذى سمَّاها اللَّه به فى كتابه، ويَغْلِبَ عليها اسمُ العَتَمَةِ، فإذا سُميت العِشَاءَ وأُطلق عليها أحياناً العتمة، فلا بأس، واللَّه أعلم. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#105 |
![]() ![]() |
![]()
وهذا محافظة منه صلى اللَّه عليه وسلم على الأسماء التى سمَّى الله بها العبادات، فلا تُهجر، ويؤثر عليها غيرُها، كما فعله المتأخرون فى هجران ألفاظ النصوص، وإيثار المصطلحات الحادثة عليها، ونشأ بسبب هذا من الجهل والفساد ما اللَّهُ به عليم، وهذا كما كان يُحافظ على تقديم ما قدَّمه اللَّه ُ وتأخيرِ ما أخرَّه، كما بدأ بالصفا، وقال: ((أَبْدَأ بمَا بَدَأ اللَّهُ بِهِ)) وبدأ فى العيد بالصلاة. ثم جعل النَّحْرَ بعدها، وأخبر أن: ((مَنْ ذَبَحَ قَبْلَهَا، فَلا نُسَكَ لَهُ)) تقديماً لما بدأ اللَّهُ به فى قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} [الكوثر: 2] وبدأ فى أعضاء الوضوء بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرِّجلين، تقديماً لما قدَّمه اللَّه، وتأخيراً لما أخَّره، وتوسيطاً لما وسَّطه، وقدَّم زكاة الفطر على صلاة العيد تقديماً لما قدَّمه فى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 13-14] ونظائرهُ كثيرة.
فصل فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى حفظ المنطق واختيار الألفاظ كان يتخيَّر فى خِطابه، ويختارُ لأُمته أحسنَ الألفَاظ، وأجملها، وألطفها، وأبعَدها من ألفاظ أهلِ الجفاء والغِلظة والفُحش، فلم يكن فاحشاً ولا متفحِّشاً ولا صَخَّاباً ولا فَظَّاً. وكان يكرهُ أن يُسْتَعْمَلَ اللفظُ الشريفُ المصونُ فى حقِّ مَنْ ليس كذلك، وأن يُسْتَعمل اللفظُ المَهينُ المكروه فى حقِّ مَن ليس مِن أهله. فمِن الأول منعهُ أن يُقال للمنافق: ((يا سيدنا)) وقال: ((فإنَّه إنْ يكُ سَيِّداً فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُم عَزَّ وَجَلَّ))، ومنعُه أن تُسمى شجرةُ العِنب كَرْماً، ومنعُه تسمية أبى جهل بأبى الحَكَم، وكذلك تغييره لاسم أبى الحكم من الصحابة: بأبى شريح، وقال: ((إنَّ اللَّه هو الحكم، وإليه الحكمُ)). ومِن ذلك نهيُه للمملوك أن يقول لسيِّده أو لسيدته: ربِّى وَرَبَّتِى، وللسَّـيِّدِ أن يقول لمملوكِهِ: عَبْدِى، ولَكِن يَقُولُ المالِكُ: فَتَاىَ وفَتَاتِى، ويَقُولُ المملوكُ: سيِّدى وسيِّدتى، وقال لمن ادَّعى أنه طبيب: ((أنْتَ رجلٌ رَفِيقٌ، وَطَبِيبُها الَّذِى خَلَقَهَا))، والجاهِلون يُسمُّون الكافرَ الذى له عِلْمٌ بشئ من الطبيعة حكيماً، وهو مِن أسفه الخلق. ومن هذا قولُه للخطيب الذى قال: مَنْ يُطع اللَّهَ وَرَسُولَه فَقَدْ رَشَدَ، ومَنْ يَعْصِهِمَا فَقَد غَوَى: ((بئسَ الخَطِيبُ أنْتَ)). ومن ذلك قولُه: ((لاَ تَقُولُوا: مَاشَاءَ اللَّهُ وشَاءَ فُلانٌ، وَلَكِن قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مَا شَاءَ فُلاَنٌ))، وقال له رجل: ما شَاءَ اللَّهُ وشِئْتَ، فَقَالَ: ((أَجَعلْتَنِى لِلَّهِ نِدَّاً؟ قُل: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ)). وفى معنى هذا الشرك المنهى عنه قولُ مَن لا يتوقَّى الشرك: أنا باللَّهِ وَبِكَ، وأنا فى حَسْبِ اللَّهِ وحَسْبِكَ، وما لى إلا اللَّهُ وأنتَ، وأنا متوكِّل على اللَّه وعليك، وهذا من اللَّهِ ومِنك، واللَّهُ لى فى السماء وأنت لى فى الأرض، وواللَّهِ وحياتِك، وأمثال هذا من الألفاظ التى يجعل فيها قائِلُهَا المخلوقَ نِدّاً للخالق، وهى أشدُّ منعاً وقُبْحاً من قوله: ما شَاءَ اللَّهُ وشئتَ. فأما إذا قال: أنا باللَّهِ، ثم بك، وما شاء اللَّهُ، ثم شئتَ، فلا بأس بذلك، كما فى حديث الثلاثة: ((لاَ بَلاَغَ لِىَ اليَوْمَ إلا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ))، وكما فى الحديث المتقدِّم الإذن أن يقال: ما شاء اللَّهُ ثم شاءَ فلان. فصل فى النهى عن سب الدهر وأما القِسْمُ الثانى وهو أن تُطلق ألفاظُ الذمِّ على مَن ليس مِن أهلها، فمثلُ نهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن سبِّ الدهرِ، وقال: ((إنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ))، وفى حديث آخر: ((يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَارَ))، وفى حديث آخر ((لا يَقُولَنَّ أحَدُكُم: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ)). فى هذا ثلاثُ مفاسد عظيمة. إحداها: سَبُّه مَنْ ليس بأهلٍ أن يُسَب، فإن الدهرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِن خلق اللَّه، منقادٌ لأمره، مذلَّلٌ لتسخيره، فسابُّه أولى بالذمِّ والسبِّ منه. الثانية: أن سبَّه متضمِّن للشرك، فإنه إنما سبَّه لظنَّه أنه يضرُّ وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرَّ مَن لا يستحق الضرر، وأعطى مَن لا يستحقُّ العطَاءَ، ورفع مَن لا يستحقُّ الرِّفعة، وحرم مَن لا يستحِقُ الحِرمان، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعارُ هؤلاء الظلمة الخونة فى سبِّه كثيرةٌ جداً، وكثيرٌ من الجُهَّال يُصرِّح بلعنه وتقبيحِه. الثالثة: أن السبَّ منهم إنما يقعُ على مَن فعل هذه الأفعال التى لو اتَّبَعَ الحقُّ فيها أهواءَهم لفسدتِ السماواتُ والأرض، وإذا وقعت أهواؤُهم، حَمِدُوا الدهرَ، وأَثْنَوْا عليه. وفى حقيقةِ الأمر، فَربُّ الدهر تعالى هو المعطى المانِعُ، الخافِضُ الرافعُ، المعزُّ المذِلُّ، والدهرُ ليس له من الأمر شئ، فمسبَّتهم للدهر مسبَّة للَّه عَزَّ وجَلَّ، ولهذا كانت مؤذيَةً للربِّ تعالَى، كما فى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((قالَ اللَّه تَعالَى: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأَنَا الدَّهْرُ))، فسابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما. إما سبُّه لِلَّهِ، أو الشِّركُ به، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع اللَّه فهو مشرك، وإن اعتقد أن اللَّه وحده هو الذى فعل ذلك وهو يسبُّ مَن فعله، فقد سبَّ اللَّه. ومن هذا قولُه صلى اللَّه عليه وسلم: ((لاَ يَقُولَنَّ أحَدُكُم: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ البَيْتِ، فَيَقُولُ: بِقُوَّتِى صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بسْمِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ)). وفى حديث آخر: ((إنَّ العَبْدَ إذَا لَعَنَ الشَّيْطَانَ يَقُولُ: إنَّكَ لَتَلْعَنُ مُلَعَّناً)). ومثل هذا قولُ القائل: أخزى اللَّه الشيطان، وقبَّح اللَّهُ الشيطان، فإن ذلك كله يفرحه ويقول علم ابن آدم أنى قد نلته بقوتى ، وذلك مما يعينه على إغوائه ، ولا يفيده شيئاً ، فأرشد النبى صلى الله عليه وسلم من مسه شىء من الشيطان أن يذكر الله تعالى ، ويذكر اسمه ، ويستعيذ بالله منه ، فإن ذلك أنفع له ، وأغيظ للشيطان فصل فى النهى عن قول الرجل: خبثت نفسى مِن ذلك: نهيُه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقولَ الرجل: ((خَبُثَتْ نَفْسِى، ولَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِى)) ومعناهما واحد: أى: غَثَتْ نفسى، وساء خُلُقُها، فكره لهم لفظَ الخُبث لما فيه من القُبح والشنَاعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن، وهجران القبيح، وإبدالِ اللفظ المكروه بأحسن منه. ومِن ذلك نهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن قول القائل بعد فواتِ الأمر: ((لَو أنِّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا)) وقال: ((إنَّ ((لو)) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)) وأرشده إلى ما هو أنفعُ له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: ((قَدَّرَ اللَّهُ ومَا شَاءَ فَعَلَ)) وذلك لأن قوله: لو كنتُ فعلتُ كذا وكذا، لم يَفُتْنِى ما فاتنى، أو لم أقع فيما وقعتُ فيه، كلامٌ لا يُجدى عليه فائدةً البتة، فإنه غيرُ مستقبِل لما استدبر من أمره، وغيرُ مستقِيل عَثْرَتَه بـ ((لو))، وفى ضمن ((لو)) ادعاء أن الأمر لو كان كما قدَّره فى نفسه، لكان غيرَ ما قضاه اللَّه وقدَّرَه وشاءه، فإنَّ ما وقع مما يتمنَّى خلافَه إنما وقع بقضاء اللَّه وقَدَرِه ومشيئته، فإذا قال: لو أنى فعلتُ كذا، لكان خلافَ ما وقع فهو مُحال، إذ خلافُ المقدَّر المقْضىِّ مُحال، فقد تضمَّن كلامُه كذباً وجهلاً ومُحالاً، وإن سَلِمَ من التكذيب بالقَدَر، لم يَسْلَم مِن معارضته بقوله: لو أنى فعلتُ كذا، لدفعتُ ما قَدَّر اللَّهُ علىَّ. فإن قيل: ليس فى هذا ردٌ للقَدَر ولا جَحدٌ له، إذ تلك الأسبابُ التى تمنَّاها أيضاً مِن القَدَر، فهو يقول: لو وقفتُ لهذا القَدَر، لاندفع به عنِّى ذلك القَدَرُ، فإن القَدَرَ يُدفع بعضُه ببعض، كما يُدفع قَدَرُ المرضِ بالدواءِ، وقدرُ الذنوب بالتوبةِ، وقدرُ العدوِّ بالجهاد، فكلاهما من القَدَر. قيل: هذا حقّ، ولكن هذا ينفعُ قبل وقوعِ القَدَر المكروه، وأما إذا وقع، فلا سبيلَ إلى دفعه، وإن كان له سبيلٌ إلى دفعه أو تخفيفه بقَدَر آخر، فهو أولى به من قوله: لو كنتُ فعلته، بل وظيفتُه فى هذه الحالة أن يستقبلَ فعلَه الذى يدفع به أو يخفف أثرَ ما وقع، ولا يتمنَّى ما لا مطمع فى وقوعه، فإنه عجزٌ محضٌ، واللَّه يلومُ على العجز، ويُحب الكَيْسَ، ويأمر به، والكَيْسُ: هو مباشرةُ الأسباب التى ربطَ اللَّهُ بها مُسِّبباتِها النافعة للعبد فى معاشه ومعاده، فهذه تفتحُ عمل الخيرِ، وأما العجزُ، فإنه يفتحُ عملَ الشيطان، فإنه إذا عَجَزَ عما ينفعُه، وصار إلى الأمانى الباطِلة بقوله: لَوْ كَانَ كَذَا وكَذَا، ولو فعلتُ كَذَا، يُفتح عليه عمل الشيطان، فإن بابَه العجزُ والكسل، ولهذا استعاذ النبىُّ صلى الله عليه وسلم منهما، وهما مفتاحُ كلِّ شر، ويصدر عنهما الهمُّ، والحَزَنُ، والجُبْنُ، والبُخْلُ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ، وغَلَبَةُ الرِّجَالِ، فمصدرُها كُلها عن العجز والكسل، وعنوانها ((لو))، فلذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((فإن ((لو)) تفتحُ عمل الشيطان)) فالمتمنِّى مِن أعجز الناس وأفلسهم، فإن التمنى رأسُ أموال المفاليسِ، والعجزُ مفتاح كُلِّ شر. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
::: حق الله على العباد ::: لشيخنا الدكتور محمد سعيد رسلان حفظه الله تعالى | Aboabdalah | الصوتيات والمرئيات الإسلامية وأناشيد الأطفال | 2 | 09-16-2009 01:15 AM |