شايب الجنوب
06-16-2003, 05:29 AM
كانت قبيلة غفّار من قبائل العرب الوثنية ، تسكن في المناطق القريبة من المدينة المنوّرة ( يثرب ) ، حيث تمرّ قوافل مكّة التجارية .
و أفراد قبيلة غفار يعبدون صنماً اسمه " مناة " و يعتقدون أن " مناة " بيده القضاء و القدر و الحظ ، و لذلك فإنّ أفراد القبيلة يذهبون إليه و يقدّمون له القرابين .
و ذات يوم توجّه شاب من قبيلة " غفار " إلى مناة و كان فقيراً فقدّم إلى مناة " اللبن " ، و راح ينظر إليه و لكن مناة لم يحرّك ساكناً و لم يشرب اللبن فظلّ ينتظر . و في الأثناء مرّ ثعلب لم ينتبه إلى وجود " جندب " فشرب اللبن . و لم يكتف بذلك بل رفع قدمه و بال في اُذن " مناة " ، و ظلّ مناة جامداً .
ضحك الشابّ ساخراً من " مناة " و من نفسه لأنّه يعبد صخرة صمّاء لا تفهم و لا تعي شيئاً .
و في طريق عودته الى القبيلة تذكّر " جندب " كلمات سمعها ذات يوم و هو يمشي في سوق " عكاظ " في مدينة مكّة . . تذكّر كلمات " قيس بن ساعدة " و هو يهتف بها في السوق :
أيُّها الناس اسمعوا و عوا
إنّ من عاش مات
و من مات فات
و كلّ ماهو آتٍ آت
ليل داج
و سماء ذات ابراج .
مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ؟!
أرضوا بالمقام فأقاموا ؟
أم تركوا هناك فناموا ؟!
نظر " جندب " إلى السماء الزرقاء الصافية ، و إلى الصحراء الممتدة بتلالها و رمالها ، و تذكّر ما فعله الثعلب ب " مناة " ، فآمن بأنّ لهذا العالم إلهاً كبيراً أكبر من مناة و من هبل و من اللات و من كلّ الأوثان .
و منذ ذلك الوقت و جندب بن جنادة يتوجّه بقلبه إلى السماء و الأرض .
طلوع الشمس
كان أهل الكتاب يبشّرون بظهور نبي جديد أطلّ زمانه ، و كانت القبائل العربية تتناقل هذه الأخبار . و كان الذين يسخرون من الأصنام و الأوثان يتشوّقون لرؤية النبي الجديد .
و ذات يوم مرّ رجل قادم من مكّة فقال لجندب :
ـ ان رجلاً في مكة يقول : لا إله إلاّ الله و يدّعى انّه نبي .
و سال جندب :
ـ من أي قبيلة هو ؟
قال الرجل :
ـ من قريش .
فقال جندب :
ـ من أي قريش ؟
أجاب الرجل :
ـ من نبي هاشم .
سأل جندب :
ـ و ماذا فعلت قريش ؟
قال الرجل :
ـ كذّبته و قالت انّه ساحر و مجنون .
انصرف الرجل ، و ظلّ " جندب " يفكّر و يفكّر .
أنيس
فكّر " جندب " أن يرسل أخاه أنيساً إلى مكّة ليأتيه بأخبار النبيّ الجديد ، و انطلق أنيس يقطع مئات الأميال الى مكّة ، و سرعان ما عاد ليخبر أخاه :
ـ رأيت رجلاً يأمر بالخير و ينهى عن الشرور و يدعو إلى عبادة الله وحده .
و رأيته يصلّي عند الكعبة و إلى جانبه فتى اسمه علي بن أبي طالب و هو ابن عمّه ، و خلفهما امرأة و هي زوجته خديجة .
و سأل جندب أخاه :
ـ و ماذا رأيت بعد ؟
أجاب أنيس :
ـ هذا ما رأيته و لم أجرؤ على الاقتراب منه خوفاً من زعماء قريش .
إلى مكّة
لم يقنع جندب بما سمعه ، فانطلق نفسه إلى مكّة ليتعرّف على النبيّ .
مالت الشمس إلى المغيب عندما وصل الشاب الغفاري مكّة فطاف حول الكعبة ، ثم جلس في زاوية من الحرم ليستريح و يفكّر في طريقة يلتقي فيها النبي .
حلّ الظلام و أقفرت الكعبة من الناس ، و في الأثناء دخل فتىً ساحة المسجد الحرام و راح يطوف حول الكعبة بخشوع ، و انتبه الفتى إلى وجود الرجل الغريب فتقدّم إليه و سأله بأدب :
ـ كأنّك غريب ؟
أجاب الغفاري : نعم .
قال الفتى :
ـ انهض معي إلى المنزل .
و شكر جندب في نفسه الفتى و هو يتبعه إلى المنزل صامتاً .
و في الصباح ودّع جندب الفتى و انطلق إلى بئر زمزم لعلّه يتعرّف على النبيّ .
و مرّت الساعات و جندب يترقّب و ينتظر إلى أن حلّ الظلام .
اللقاء
مرّةً أُخرى جاء الفتى و طاف حول الكعبة كعادته و رأى الرجل الغريب في مكانه فقال له :
ـ أما آن للغريب أن يعرف منزله ؟
أجاب جندب :
ـ لا .
قال الفتى :
ـ انطلق معي الى المنزل .
نهض " جندب " مع الفتى إلى منزله ، كان صامتاً أيضاً .
قال الفتى :
ـ أراك تفكّر ، فما هي حاجتك ؟
قال جندب بحذر :
ـ إذا كتمت عليّ أخبرتك .
قال الفتى :
ـ أكتم عليك إن شاء الله .
و ارتاح جندب إلى ذكر الله فقال بصوت خافت :
ـ سمعت بظهور نبي في مكة فأردت أن ألقاه .
قال الفتى و هو يبتسم :
ـ لقد أرشدك الله . . سأدلّك على منزله فاتبعني من بعيد . فإن رأيتُ أحداً أخافه عليك ، وقفت كأنّي أصلحُ نعلي ، فلا تقف و امض في طريقك .
و مضى الفتى إلى منزل سيّدنا محمّد و جندب يتبعه إلى أن وصلا .
الإيمان
و يدخل جندب منزل النبي و يلتقي سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) ، فاذا هو أمام إنسان يجسّد كلّ مكارم الأخلاق .
سأل سيّدُنا محمّد ضيفه :
ـ ممّن الرجل ؟
أجاب جندب :
ـ من قبيلة غفار .
و سأل النبيّ :
ـ ما هي حاجتك ؟
قال جندب :
ـ أعرض عليّ الإسلام .
قال النبيّ :
ـ الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله و أني رسول الله .
و بعد ؟
ـ أن تنتهي عن الفحشاء و المنكر و تسلك مكارم الأخلاق ، و تترك عبادة الأوثان إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، و ان لا تسرف و لا تظلم . .
و امتلأ الشابّ إيماناً بالله و رسوله ، فقال :
ـ أشهد أن لا إله إلاّ الله و أنّك رسول الله . . رضيت بالله ربّاً و بك نبيّاً .
و في تلك اللحظة ولدت شخصية اُخرى هي شخصية الصحابي الكبير أبي ذر الغفاري جُندب بن جنادة .
نهض أبو ذر و هتف بحماس :
ـ و الذي بعثك لأصرخنّ بها .
و قبل أن يغادر المنزل سأل أبو ذر سيّدنا محمّداً :
ـ من هذا الفتى الذي دلّني عليك .
أجاب النبيّ باعتزاز :
ـ هو ابن عمّي عليّ .
و أوصاه سيّدنا محمّد قائلاً :
ـ يا أباذر اكتم هذا الأمر و ارجع إلى بلادك .
و أدرك أبو ذر أن رسول الله يخشى عليه انتقام قريش فقال :
ـ و الذي بعثك بالحقّ نبيّاً لأصرخن بها بينهم و لتفعل قريش ما تريد .
و في الصباح انطلق أبو ذر إلى الكعبة بيت الله الحرام ، كانت الأصنام جامدة في أماكنها لا تتحرّك و أبو ذر يشقّ طريقه ، و جبابرة قريش جالسون يفكّرون بأمر الدين الجديد .
و في تلك اللحظات دوّت صرخة جريئة :
ـ يا معشر قريش . . إني أشهد أن لا إله إلاّ الله و أشهد أنّ محمداّ رسول الله .
و اهتزت الأوثان و قلوب المشركين .
و صاح قرشي :
ـ من هذا الذي يسبّ آلهتنا .
و ركضوا نحوه و انهالوا عليه ضرباً حتى فقد وعيه و الدماء تنزف منه .
و تدخّل العباس عمّ سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) و أنقذه قائلاً :
ـ ويلكم يا معشر قريش تقتلون رجلاً من " غفار " ! و طريق قوافلكم على قبيلته .
و أفاق أبو ذر و ذهب إلى " زمزم " فشرب من مائها و غسل من جسمه الدماء .
و مرّة اُخرى أراد أبو ذر أن يتحدّى قريش بإيمانه ، فانطلق نحو الكعبة و دوّت صرخته :
ـ أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمّداً رسول الله .
و هجموا عليه مثل الذئاب و راحوا يكيلون له الضربات .
و سقط على الأرض فاقداً وعيه ، و أنقذه العباس أيضاً .
العودة
ذهب أبو ذر إلى سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) .
و تألم النبي لمنظره فقال له بإشفاق :
ـ ارجع إلى قومك و ادُعهم إلى الإسلام .
قال أبو ذر :
ـ سأذهب يا رسول الله إلى قومي و سأدعوهم إلى الإسلام و لن أنسى ما فعلته قريش بي .
و عاد أبو ذر إلى قبيلته و راح يدعوهم إلى نور الإسلام . فأسلم أخوه أنيس و أسلمت اُمّه و أسلمت نصف قبيلته . أما النصف الآخر فقالوا : حتى يأتي النبيّ .
الهجرة
و تمرّ الأيام و المشهور و الأعوام . . و يهاجر سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) من مكّة إلى المدينة ، و تصل الأخبار إلى أبي ذر . فخرج مع قبيلته إلى استقباله في الطريق .
و لاح سيّدنا محمّد من بعيد على ناقته " القصواء " فأسرع أبو ذر إليه و أخذ بزمام الناقة و قال مبشّراً :
ـ يا رسول الله أسلم أخي و أسلمت اُمي و أسلم الكثيرون من قبيلتي .
و فرح سيّدنا محمّد و هو يشاهد جموع المستقبلين .
قال احدهم :
ـ يا رسول الله إن أباذر علّمنا ما علمته فأسلمنا و شهدنا انّك رسول الله .
و أسلم الباقون من قبيلة " غفار " ثم جاءت قبيلة اُخرى مجاورة اسمها " أسلم " فأسلمت و أعلنت أن لا إله إلاّ الله و أن محمّداً رسول الله .
فقال سيّدنا محمّد متأثراً :
ـ " غفار " غفر الله لها ، و " أسلم " سالمها الله .
و مضى رسول الله إلى مدينة " يثرب " و رافقه أبو ذر مسافة من الطريق .
و عندما عاد أبو ذر إلى قبيلته سأله بعضهم :
ـ هل حدّثك رسول الله بشيء ؟
فقال أبو ذر :
ـ نعم أمرني بسبع :
أمرني بحبّ المساكين و الدنو منهم .
و أمرني أن أنظر من هو دوني و لا أنظر من هو فوقي .
و أمرني أن أصل الرحم و إن أدبرت .
و أمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً .
وأمرني أن أقول الحق و لو كان مرّاً .
و أمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم .
و أمرني أن أكثر من قول " لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم " .
فانّهنّ كنز تحت العرش .
و ظلّ أبو ذر في قبيلته يرشدهم و يعلّمهم ، و كان مثال المسلم المؤمن .
أوصني يا رسول الله
ذات يوم دخل أبو ذر المسجد فوجد سيّدنا محمّداً وحده ، فجلس قربه .
قال سيّدنا محمّد :
ـ يا أبا ذر إن للمسجد تحية و هي ركعتان .
نهض أبو ذر و صلّى ركعتين ثم عاد فجلس قرب النبيّ و قال :
ـ يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟
ـ إيمان بالله عز وجل و جهاد في سبيل الله .
ـ أي المؤمنين أكمل إيماناً ؟
ـ أحسنهم خلقاً .
ـ يا رسول الله فأي المؤمنين أسلم ؟
ـ من سلم الناس من لسانه و يده .
ـ يا رسول الله فأي الهجرة أفضل ؟
ـ هجر السيئات .
ـ يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟
ـ جهد من مقل يسير إلى فقير .
ـ يا رسول الله فأي آية مما أنزل الله أعظم ؟
ـ آية الكرسي . . يا أباذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلاّ كحلقة ملقاة بأرض فلاة .
ـ يا رسول الله كم الأنبياء ؟
ـ مائة ألف و أربعة و عشرون ألفاً . .
يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم و شيت و خنوخ ـ إدريس ـ و هو أول من خط بالقلم و نوح ، و أربعة من العرب : هود و صالح و شعيب و نبيّك .
ـ يا رسول الله كم كتاب لله تعالى ؟
ـ مائة كتاب و أربعة ، أُنزل على شيت خمسون صحيفة ، وأُنزل على خنوخ ( إدريس ) ثلاثون صحيفة ، و أُنزل على إبراهيم عشر صحائف ، و أُنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، و أُنزل التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان ( القرآن ) .
ـ يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم ( عليه السَّلام ) ؟
ـ أمثالاً كلّها : " أيّها الملك المسلّط المبتلى المغرور فإنني لم أبعثك لتجمع الدّنيا بعضها إلى بعض و لكن لترد عني دعوة المظلوم فاني لا أردها و لو كانت من كافر . .
ـ يا رسول الله فما كانت صحف موسى ( عليه السَّلام ) ؟
ـ كانت عبراً كلّها : عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك ، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ، عجبت لمن رأى الدّنيا و تقلّبها بأهلها ثم اطمأن إليها ، عجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل .
بكى أبو ذر خشوعاً و قال :
ـ يا رسول الله أوصني ؟
ـ أوصيك بتقوى الله فانّه رأس الأمر كلّه .
ـ يا رسول الله زدني .
ـ عليك بتلاوة القرآن فهو نور لك في الأرض و ذكر لك في السماء .
ـ يا رسول الله زدني .
ـ حبّ المساكين و جالسهم .
في الطريق إلى تبوك
مضت سنوات و سنوات ، أصبح المسلمون اُمّة واحدة و أصبح لهم دولة ، و انتصروا على أعدائهم من المشركين و اليهود . و دخلت القبائل العربيّة دين الله أفواجاً .
و لمّا كان سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) رسول الله إلى الناس جميعاً ، فقد أراد للإسلام أن يعبر حدود جزيرة العرب إلى العالم كلّه .
أعلن سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) الجهاد و أمر المسلمين بالاستعداد للتوجّه نحو " تبوك " في شمال الجزيرة العربية .
و فوجئ المسلمون بإعلان النبي و تحدّيه لأكبر دولة في العالم آنذاك .
و قال المنافقون :
ـ سوف يقهرهم " هرقل " بجيوشه الجرّارة .
و كانوا يجتمعون في بيت " سويلم " اليهودي و يخوّفون المسلمين من التوجّه إلى تبوك .
و لمّا غادر النبي المدينة و تخلّف المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ، قرّر سيّدنا محمّد أن يستخلف على المدينة ابن عمّه بطل الإسلام علي بن أبي طالب ، حتى يحبط مؤامرات المنافقين .
و شعر المنافقون بالضيق من " علي " فأشاعوا بين الناس : إنّ الرسول خلّفه استثقالاً له .
و لكي تتبيّن الحقيقة للناس أخذ علي سلاحه و لحق بالنبي خارج المدينة في منطقة تدعى " الجرف " و أخبره بما يقوله المنافقون :
ـ يا نبيّ الله زعم المنافقون انّك إنّما خلَّفتني لأنّك استثقلتني .
ابتسم سيّدنا محمّد و قال :
ـ كذب المنافقون و لكنّي خلّفتك لتحفظ المدينة و تحميها من مكرهم . أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبيّ بعدي ؟
أجاب علي :
نعم رضيت يا رسول الله .
و عاد علي إلى المدينة مسروراً بكلمات الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
كن أباذر
مضى النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) يقود الجيش الإسلامي عبر الصحراء ، و كان بعض المسلمين من ضعفاء الإيمان يتخلّفون في الطريق و يعودون إلى المدينة فيخبر بعضهم سيّدنا محمّداً قائلين : تخلّف فلان . فكان رسول الله يقول :
ـ دعوه فإن يَكُ فيه خير فسيلحقه الله بكم .
هناك تكمله..;) ;)
و أفراد قبيلة غفار يعبدون صنماً اسمه " مناة " و يعتقدون أن " مناة " بيده القضاء و القدر و الحظ ، و لذلك فإنّ أفراد القبيلة يذهبون إليه و يقدّمون له القرابين .
و ذات يوم توجّه شاب من قبيلة " غفار " إلى مناة و كان فقيراً فقدّم إلى مناة " اللبن " ، و راح ينظر إليه و لكن مناة لم يحرّك ساكناً و لم يشرب اللبن فظلّ ينتظر . و في الأثناء مرّ ثعلب لم ينتبه إلى وجود " جندب " فشرب اللبن . و لم يكتف بذلك بل رفع قدمه و بال في اُذن " مناة " ، و ظلّ مناة جامداً .
ضحك الشابّ ساخراً من " مناة " و من نفسه لأنّه يعبد صخرة صمّاء لا تفهم و لا تعي شيئاً .
و في طريق عودته الى القبيلة تذكّر " جندب " كلمات سمعها ذات يوم و هو يمشي في سوق " عكاظ " في مدينة مكّة . . تذكّر كلمات " قيس بن ساعدة " و هو يهتف بها في السوق :
أيُّها الناس اسمعوا و عوا
إنّ من عاش مات
و من مات فات
و كلّ ماهو آتٍ آت
ليل داج
و سماء ذات ابراج .
مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ؟!
أرضوا بالمقام فأقاموا ؟
أم تركوا هناك فناموا ؟!
نظر " جندب " إلى السماء الزرقاء الصافية ، و إلى الصحراء الممتدة بتلالها و رمالها ، و تذكّر ما فعله الثعلب ب " مناة " ، فآمن بأنّ لهذا العالم إلهاً كبيراً أكبر من مناة و من هبل و من اللات و من كلّ الأوثان .
و منذ ذلك الوقت و جندب بن جنادة يتوجّه بقلبه إلى السماء و الأرض .
طلوع الشمس
كان أهل الكتاب يبشّرون بظهور نبي جديد أطلّ زمانه ، و كانت القبائل العربية تتناقل هذه الأخبار . و كان الذين يسخرون من الأصنام و الأوثان يتشوّقون لرؤية النبي الجديد .
و ذات يوم مرّ رجل قادم من مكّة فقال لجندب :
ـ ان رجلاً في مكة يقول : لا إله إلاّ الله و يدّعى انّه نبي .
و سال جندب :
ـ من أي قبيلة هو ؟
قال الرجل :
ـ من قريش .
فقال جندب :
ـ من أي قريش ؟
أجاب الرجل :
ـ من نبي هاشم .
سأل جندب :
ـ و ماذا فعلت قريش ؟
قال الرجل :
ـ كذّبته و قالت انّه ساحر و مجنون .
انصرف الرجل ، و ظلّ " جندب " يفكّر و يفكّر .
أنيس
فكّر " جندب " أن يرسل أخاه أنيساً إلى مكّة ليأتيه بأخبار النبيّ الجديد ، و انطلق أنيس يقطع مئات الأميال الى مكّة ، و سرعان ما عاد ليخبر أخاه :
ـ رأيت رجلاً يأمر بالخير و ينهى عن الشرور و يدعو إلى عبادة الله وحده .
و رأيته يصلّي عند الكعبة و إلى جانبه فتى اسمه علي بن أبي طالب و هو ابن عمّه ، و خلفهما امرأة و هي زوجته خديجة .
و سأل جندب أخاه :
ـ و ماذا رأيت بعد ؟
أجاب أنيس :
ـ هذا ما رأيته و لم أجرؤ على الاقتراب منه خوفاً من زعماء قريش .
إلى مكّة
لم يقنع جندب بما سمعه ، فانطلق نفسه إلى مكّة ليتعرّف على النبيّ .
مالت الشمس إلى المغيب عندما وصل الشاب الغفاري مكّة فطاف حول الكعبة ، ثم جلس في زاوية من الحرم ليستريح و يفكّر في طريقة يلتقي فيها النبي .
حلّ الظلام و أقفرت الكعبة من الناس ، و في الأثناء دخل فتىً ساحة المسجد الحرام و راح يطوف حول الكعبة بخشوع ، و انتبه الفتى إلى وجود الرجل الغريب فتقدّم إليه و سأله بأدب :
ـ كأنّك غريب ؟
أجاب الغفاري : نعم .
قال الفتى :
ـ انهض معي إلى المنزل .
و شكر جندب في نفسه الفتى و هو يتبعه إلى المنزل صامتاً .
و في الصباح ودّع جندب الفتى و انطلق إلى بئر زمزم لعلّه يتعرّف على النبيّ .
و مرّت الساعات و جندب يترقّب و ينتظر إلى أن حلّ الظلام .
اللقاء
مرّةً أُخرى جاء الفتى و طاف حول الكعبة كعادته و رأى الرجل الغريب في مكانه فقال له :
ـ أما آن للغريب أن يعرف منزله ؟
أجاب جندب :
ـ لا .
قال الفتى :
ـ انطلق معي الى المنزل .
نهض " جندب " مع الفتى إلى منزله ، كان صامتاً أيضاً .
قال الفتى :
ـ أراك تفكّر ، فما هي حاجتك ؟
قال جندب بحذر :
ـ إذا كتمت عليّ أخبرتك .
قال الفتى :
ـ أكتم عليك إن شاء الله .
و ارتاح جندب إلى ذكر الله فقال بصوت خافت :
ـ سمعت بظهور نبي في مكة فأردت أن ألقاه .
قال الفتى و هو يبتسم :
ـ لقد أرشدك الله . . سأدلّك على منزله فاتبعني من بعيد . فإن رأيتُ أحداً أخافه عليك ، وقفت كأنّي أصلحُ نعلي ، فلا تقف و امض في طريقك .
و مضى الفتى إلى منزل سيّدنا محمّد و جندب يتبعه إلى أن وصلا .
الإيمان
و يدخل جندب منزل النبي و يلتقي سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) ، فاذا هو أمام إنسان يجسّد كلّ مكارم الأخلاق .
سأل سيّدُنا محمّد ضيفه :
ـ ممّن الرجل ؟
أجاب جندب :
ـ من قبيلة غفار .
و سأل النبيّ :
ـ ما هي حاجتك ؟
قال جندب :
ـ أعرض عليّ الإسلام .
قال النبيّ :
ـ الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله و أني رسول الله .
و بعد ؟
ـ أن تنتهي عن الفحشاء و المنكر و تسلك مكارم الأخلاق ، و تترك عبادة الأوثان إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، و ان لا تسرف و لا تظلم . .
و امتلأ الشابّ إيماناً بالله و رسوله ، فقال :
ـ أشهد أن لا إله إلاّ الله و أنّك رسول الله . . رضيت بالله ربّاً و بك نبيّاً .
و في تلك اللحظة ولدت شخصية اُخرى هي شخصية الصحابي الكبير أبي ذر الغفاري جُندب بن جنادة .
نهض أبو ذر و هتف بحماس :
ـ و الذي بعثك لأصرخنّ بها .
و قبل أن يغادر المنزل سأل أبو ذر سيّدنا محمّداً :
ـ من هذا الفتى الذي دلّني عليك .
أجاب النبيّ باعتزاز :
ـ هو ابن عمّي عليّ .
و أوصاه سيّدنا محمّد قائلاً :
ـ يا أباذر اكتم هذا الأمر و ارجع إلى بلادك .
و أدرك أبو ذر أن رسول الله يخشى عليه انتقام قريش فقال :
ـ و الذي بعثك بالحقّ نبيّاً لأصرخن بها بينهم و لتفعل قريش ما تريد .
و في الصباح انطلق أبو ذر إلى الكعبة بيت الله الحرام ، كانت الأصنام جامدة في أماكنها لا تتحرّك و أبو ذر يشقّ طريقه ، و جبابرة قريش جالسون يفكّرون بأمر الدين الجديد .
و في تلك اللحظات دوّت صرخة جريئة :
ـ يا معشر قريش . . إني أشهد أن لا إله إلاّ الله و أشهد أنّ محمداّ رسول الله .
و اهتزت الأوثان و قلوب المشركين .
و صاح قرشي :
ـ من هذا الذي يسبّ آلهتنا .
و ركضوا نحوه و انهالوا عليه ضرباً حتى فقد وعيه و الدماء تنزف منه .
و تدخّل العباس عمّ سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) و أنقذه قائلاً :
ـ ويلكم يا معشر قريش تقتلون رجلاً من " غفار " ! و طريق قوافلكم على قبيلته .
و أفاق أبو ذر و ذهب إلى " زمزم " فشرب من مائها و غسل من جسمه الدماء .
و مرّة اُخرى أراد أبو ذر أن يتحدّى قريش بإيمانه ، فانطلق نحو الكعبة و دوّت صرخته :
ـ أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمّداً رسول الله .
و هجموا عليه مثل الذئاب و راحوا يكيلون له الضربات .
و سقط على الأرض فاقداً وعيه ، و أنقذه العباس أيضاً .
العودة
ذهب أبو ذر إلى سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) .
و تألم النبي لمنظره فقال له بإشفاق :
ـ ارجع إلى قومك و ادُعهم إلى الإسلام .
قال أبو ذر :
ـ سأذهب يا رسول الله إلى قومي و سأدعوهم إلى الإسلام و لن أنسى ما فعلته قريش بي .
و عاد أبو ذر إلى قبيلته و راح يدعوهم إلى نور الإسلام . فأسلم أخوه أنيس و أسلمت اُمّه و أسلمت نصف قبيلته . أما النصف الآخر فقالوا : حتى يأتي النبيّ .
الهجرة
و تمرّ الأيام و المشهور و الأعوام . . و يهاجر سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) من مكّة إلى المدينة ، و تصل الأخبار إلى أبي ذر . فخرج مع قبيلته إلى استقباله في الطريق .
و لاح سيّدنا محمّد من بعيد على ناقته " القصواء " فأسرع أبو ذر إليه و أخذ بزمام الناقة و قال مبشّراً :
ـ يا رسول الله أسلم أخي و أسلمت اُمي و أسلم الكثيرون من قبيلتي .
و فرح سيّدنا محمّد و هو يشاهد جموع المستقبلين .
قال احدهم :
ـ يا رسول الله إن أباذر علّمنا ما علمته فأسلمنا و شهدنا انّك رسول الله .
و أسلم الباقون من قبيلة " غفار " ثم جاءت قبيلة اُخرى مجاورة اسمها " أسلم " فأسلمت و أعلنت أن لا إله إلاّ الله و أن محمّداً رسول الله .
فقال سيّدنا محمّد متأثراً :
ـ " غفار " غفر الله لها ، و " أسلم " سالمها الله .
و مضى رسول الله إلى مدينة " يثرب " و رافقه أبو ذر مسافة من الطريق .
و عندما عاد أبو ذر إلى قبيلته سأله بعضهم :
ـ هل حدّثك رسول الله بشيء ؟
فقال أبو ذر :
ـ نعم أمرني بسبع :
أمرني بحبّ المساكين و الدنو منهم .
و أمرني أن أنظر من هو دوني و لا أنظر من هو فوقي .
و أمرني أن أصل الرحم و إن أدبرت .
و أمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً .
وأمرني أن أقول الحق و لو كان مرّاً .
و أمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم .
و أمرني أن أكثر من قول " لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم " .
فانّهنّ كنز تحت العرش .
و ظلّ أبو ذر في قبيلته يرشدهم و يعلّمهم ، و كان مثال المسلم المؤمن .
أوصني يا رسول الله
ذات يوم دخل أبو ذر المسجد فوجد سيّدنا محمّداً وحده ، فجلس قربه .
قال سيّدنا محمّد :
ـ يا أبا ذر إن للمسجد تحية و هي ركعتان .
نهض أبو ذر و صلّى ركعتين ثم عاد فجلس قرب النبيّ و قال :
ـ يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟
ـ إيمان بالله عز وجل و جهاد في سبيل الله .
ـ أي المؤمنين أكمل إيماناً ؟
ـ أحسنهم خلقاً .
ـ يا رسول الله فأي المؤمنين أسلم ؟
ـ من سلم الناس من لسانه و يده .
ـ يا رسول الله فأي الهجرة أفضل ؟
ـ هجر السيئات .
ـ يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟
ـ جهد من مقل يسير إلى فقير .
ـ يا رسول الله فأي آية مما أنزل الله أعظم ؟
ـ آية الكرسي . . يا أباذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلاّ كحلقة ملقاة بأرض فلاة .
ـ يا رسول الله كم الأنبياء ؟
ـ مائة ألف و أربعة و عشرون ألفاً . .
يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم و شيت و خنوخ ـ إدريس ـ و هو أول من خط بالقلم و نوح ، و أربعة من العرب : هود و صالح و شعيب و نبيّك .
ـ يا رسول الله كم كتاب لله تعالى ؟
ـ مائة كتاب و أربعة ، أُنزل على شيت خمسون صحيفة ، وأُنزل على خنوخ ( إدريس ) ثلاثون صحيفة ، و أُنزل على إبراهيم عشر صحائف ، و أُنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، و أُنزل التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان ( القرآن ) .
ـ يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم ( عليه السَّلام ) ؟
ـ أمثالاً كلّها : " أيّها الملك المسلّط المبتلى المغرور فإنني لم أبعثك لتجمع الدّنيا بعضها إلى بعض و لكن لترد عني دعوة المظلوم فاني لا أردها و لو كانت من كافر . .
ـ يا رسول الله فما كانت صحف موسى ( عليه السَّلام ) ؟
ـ كانت عبراً كلّها : عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك ، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ، عجبت لمن رأى الدّنيا و تقلّبها بأهلها ثم اطمأن إليها ، عجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل .
بكى أبو ذر خشوعاً و قال :
ـ يا رسول الله أوصني ؟
ـ أوصيك بتقوى الله فانّه رأس الأمر كلّه .
ـ يا رسول الله زدني .
ـ عليك بتلاوة القرآن فهو نور لك في الأرض و ذكر لك في السماء .
ـ يا رسول الله زدني .
ـ حبّ المساكين و جالسهم .
في الطريق إلى تبوك
مضت سنوات و سنوات ، أصبح المسلمون اُمّة واحدة و أصبح لهم دولة ، و انتصروا على أعدائهم من المشركين و اليهود . و دخلت القبائل العربيّة دين الله أفواجاً .
و لمّا كان سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) رسول الله إلى الناس جميعاً ، فقد أراد للإسلام أن يعبر حدود جزيرة العرب إلى العالم كلّه .
أعلن سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) الجهاد و أمر المسلمين بالاستعداد للتوجّه نحو " تبوك " في شمال الجزيرة العربية .
و فوجئ المسلمون بإعلان النبي و تحدّيه لأكبر دولة في العالم آنذاك .
و قال المنافقون :
ـ سوف يقهرهم " هرقل " بجيوشه الجرّارة .
و كانوا يجتمعون في بيت " سويلم " اليهودي و يخوّفون المسلمين من التوجّه إلى تبوك .
و لمّا غادر النبي المدينة و تخلّف المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ، قرّر سيّدنا محمّد أن يستخلف على المدينة ابن عمّه بطل الإسلام علي بن أبي طالب ، حتى يحبط مؤامرات المنافقين .
و شعر المنافقون بالضيق من " علي " فأشاعوا بين الناس : إنّ الرسول خلّفه استثقالاً له .
و لكي تتبيّن الحقيقة للناس أخذ علي سلاحه و لحق بالنبي خارج المدينة في منطقة تدعى " الجرف " و أخبره بما يقوله المنافقون :
ـ يا نبيّ الله زعم المنافقون انّك إنّما خلَّفتني لأنّك استثقلتني .
ابتسم سيّدنا محمّد و قال :
ـ كذب المنافقون و لكنّي خلّفتك لتحفظ المدينة و تحميها من مكرهم . أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبيّ بعدي ؟
أجاب علي :
نعم رضيت يا رسول الله .
و عاد علي إلى المدينة مسروراً بكلمات الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
كن أباذر
مضى النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) يقود الجيش الإسلامي عبر الصحراء ، و كان بعض المسلمين من ضعفاء الإيمان يتخلّفون في الطريق و يعودون إلى المدينة فيخبر بعضهم سيّدنا محمّداً قائلين : تخلّف فلان . فكان رسول الله يقول :
ـ دعوه فإن يَكُ فيه خير فسيلحقه الله بكم .
هناك تكمله..;) ;)