حبيب ال طلحة
03-05-2006, 11:58 PM
عن عبيد الله بن محمد بن الحسن قال : حدثني أبي ، قال :
سمعت شيوخنا بالصراة ، وأهلنا يتحدثون : أن عمرو بن مسعدة ، كان مصعداً من واسط إلى بغداد ، في حر شديد وهو جالس في زلاّل ، فناداه رجل : يا صاحب الزلال ، بالله عليك إلا نظرت إليَ .
قال : فكشف سجق الزلال ، فإذا بشيخ ضعيف حاسر الرأس ، فقال له : قد ترى ما أنا عليه ، ولست أجد من يحملني ، فابتغ الأجر فيّ ، وتقدم إلى ملاحيك يطرحوني بين مجادفهم ، إلى أن أصل بلداً يطرحونني فيه .
قال عمرو بن مسعدة : فرحمته ، وقلت خذوه ، فأخذوه ، فغشي عليه ، وكاد يموت لما لحقه من المشي في الشمس .
فلما أفاق ، قلت له : يا شيخ ، ما حالك ، وما قصتك ؟
فقال : قصة طويلة ، فسكنته وطرحت عليه قميصاً ومنديلاً ، وأمرت له بدراهم ، فشكرني .
فقلت : لا بد أن تحدثني بحديثك.
فقال : أنا رجل ، كانت لله – عز وجل – علي نعمة جليلة ، وكنت صيرفياً ، فابتعت جارية بخمس مئة دينار ، فعشقتها عشقاً عظيماً
وكنت لا أقدر على أفارقها ساعة واحدة ، فإذا خرجت إلى الدكان ، أخذني الجنون والهيمان حتى أعود فأجلس معها يومي كله
فدام ذلك حتى تعطل دكاني وتعطل كسبي وأقبلت أنفق من رأس المال حتى لم يبق منه قليل ولا كثير ، وأنا مع ذلك لا أطيق أن أفارقها
فحبلت الجارية ، وأقبلت أنقض داري ، وأبيع نقضها ، حتى فرغت من ذلك ، فلم تبق لي حيلة فضربها الطلق ، فقالت : يا هذا ، هو ذا أموت ، فاحتل فيما تبتاع به عسلاً ، ودقيقاً ولحماً ، وإلا مت .
فبكيت وحزنت ، وخرجت على وجهي ، وجئت لأغرق نفسي في دجلة ، فذكرت حلاوة النفس ، وخوف العقاب في الآخرة ، فامتنعت.
ثم خرجت هائماً على وجهي إلى النهروان ، وما زلت أمشي من قرية إلى قرية ، حتى بلغت خراسان ، فصادفت بها من عرفني ، وتصرفت في ضياعه ، ورزقني الله 0 عز وجل – مالاً عظيماً ، فأثريت ، واتسعت حالي ، ومكثت سنين ، لا أعرف خبر منزلي ، فلم أشك أن الجارية قد ماتت . وتراخت السنون حتى حصل لي ما قيمته عشرون ألف دينار فقلت :
قد صارت لي نعمة ، فلو رجعت إلى وطني ، فابتعت بالمال كله متاعاً من خراسان وأقبلت أريد العراق ، من طريق فارس والأهواز ، فلما حصلت بينهما ، خرج على القافلة لصوص ، فأخذوا جميع ما فيها ، ونجوت بثيابي ، وعدتُ فقيراً . ودخلت الأهواز ، فبقيت بها متحيراً ، حتى كشفت خبري لبعض أهلها ممن أعرفه ، فأعطاني ما تحملت به إلى واسط .
ونفدت نفقتي ، فمشيت إلى هذا الموضع ، وقد كدت أتلف ، فاستغثت بك ، ولي منذ فارقت بغداد ثمان وعشرون سنة .
فعجبت من ذلك ، وقلت له : اذهب ، فاعرف خبر أهلك ، وصر إليّ ، فإني أتقدم بتصريفك فيما يصلح لمثلك
فشكر ، ودعا ، ودخلنا بغداد ومضت على ذلك مدة طويلة ، أنسيته فيها ، فبينا أنا يوماً قد ركبت أريد دار المأمون ، وإذا بالشيخ على بابي راكباً بغلاً فارهاً ، بمركب محلي ثقيل ، وغلام أسود بين يديه ، وثياب حسنة فلما رأيته رحبتُ به ، وقلت : ما الخبر ؟
فقال : طويل ، وها أنا آتي إليك في غد ، وأحدثك الخبر .
فلما كان من الغد ، جاءني ، فقلت له : عرفني خبرك ، فقد سررت بسلامتك ، وبظاهر حالك
فقال : إني صعدت من زلالك فقصدت داري ، فوجدت حائطها الذي يلي الطريق كما خلفته ، غير أن باب الدار كان مجلوا ، نظيفاً ، وعليه دكاكين ، وبواب ، وبقال مع شاكريه .
فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماتت جاريتي وملك الدار بعض الجيران ، فباعها من رجل من أصحاب السلطان ، ثم تقدمت إلى بقال كنت أعرفه في المحلة ، فوجدت في دكانه غلاماً حدثاً .
فقلت له: من تكون من فلان البقال ؟
فقال : أنا ابنه
فقلت : ومتى مات ؟
قال : منذ عشرين سنة
قلت : لمن هذه الدار ؟
قال : لابن داية أمير المؤمنين ، وهو الآن صاحب بيت ماله
قلت : بمن يعرف ؟
قال : بابن فلان الصيرفي ، فأسماني
قلت : فهذه الدار من باعها إليه ؟
قال : هذه دار أبيه
قلت : وأبوه يعيش ؟
قال : لا
قلت : أتعرف من حديثهم شيئاً ؟
قال : نعم حدثني أبي أن والد هذا الرجل كان صيرفياً جليلاً ، فافتقر ، وأن أم هذا الرجل ضربها الطلق ، فخرج أبوه يطلب لها شيئاً ، ففقد وهلك.
وقال أبي : جاءني رسول أم هذا يطلب لها شيئاً ، وهي تستغيث بي ، فقمت لها بحوائج الولادة ، ودفعت لها عشرة دراهم فما أنفقتها ، حتى قيل : قد ولد لأمير المؤمنين الرشيد مولود ذكر ، وقد عرض عليه جميع الدايات فلم يقبل ثديهن ، وقد طلب له الحرائر فجاؤوا بغير واحدة ، فما أخذ ثدي واحدة منهن ، وهم في طلب مرضع ، فأرشدت الذي طلب الداية إلى أم هذا ، فحملت إلى دار الرشيد ، فحين وضع فم الصبي على ثديها قبله ، فأرضعته ، وكان الصبي المأمون ، وصارت عندهم في حالة جليلة ، ووصل إليها منهم خير كثير .
ثم خرج المأمون إلى خراسان ، وخرجت هذه المرأة وابنها هذا معها ، ولم نعرف أخبارهم إلا منذ قريب ، لما عاد المأمون ، وعادت حاشيته ، رأينا هذا قد صار رجلاً ، ولم أكن رأيته قبل قط ، وقد كان أبي مات .
فقالوا : هذا ابن فلان الصيرفي ، وابن داية الخليفة المأمون ، فبنى هذه الدار وسواها.
فقلت : فعندك علم عن أمه أهي حية أم ميتة ؟
قال : هي حية ، تمضي إلى دار الخليفة أياماً ، وتكون عند ابنها أياماً هنا .
فحمدت الله – تعالى – على هذه الحال ، وجئت ، حتى دخلت الدار مع الناس ، فرأيت الصحن في نهاية العمارة والحسن ، وفيه مجلس كبير مفروش بفرش فاخرة ، وفي صدره شاب بين يديه كتّاب وجهابذة ، وحساب يستوفيه عليهم ، وفي صفاف الدار وبعض مجالسها جهابذة بين أيديهم الأموال والتخوت والشواهين يقبضون ويُقبضون . وبصرت بالفتى ، فرأيت شبهي فيه ، فعلمت أنه ابني ، فجلستُ في غمار الناس ، إلى أن لم يبق في المجلس غيري ، فأقبل عليّ فقال : يا شيخ ، هل من حاجة تقولها ؟ فقلت : نعم ، ولكنه أمر لا يجوز أنه يسمعه غيرك.
فأومأ إلى الغلمان الذين كانوا قياماً حوله ، فانصرفوا ، وقال : قل – أعزك الله –
قلت : أنا أبوك
فلمّا سمع ذلك تغير وجهه ، ثم وثب مسرعاً ، وتركني مكاني ، فلم أشعر إلا بخادم جاءني ، فقال : قم يا سيدي ، قمت أسير معه ، حتى بلغت ستارة منصوبة. في دار لطيفة ، وكرسي بين يديها ، والفتى جالس على كرسي آخر .
فقال : أجلس أيها الشيخ
فجلست على الكرسي ، ودخل الخادم ، فإذا بحركة خلف الستارة
فقلت : أظنك تريد أن تختبر صدق ما قلت لك من جهة فلانة ، وذكرت اسم جاريتي أمه
قال : فإذا بالستارة قد كشفت ، والجارية قد خرجت إلي ، فوقعت عليّ تقبلني وتبكي ، وتقول : مولاي والله
قال : فرأيت الفتى قد تشوّش ، وبهت ، وتحير فقلت للجارية : ويحك ما خبرك ؟
فقالت : دع خبري ، ففي مشاهدتك مما تفضل الله – عز وجل – بذلك كفاية ، إلى أن أخبرك ، فقل ما كان من خبرك أنت ؟
فقصصت عليها خبري ، منذ يوم خروجي من عندها ، إلى يومي ذاك ، وقصّت هي علي قصتها مثل ما قال ابن البقال ، وأعجب ، وأشرح وكل ذلك بمرأى من الفتى ومسمع ، فلما استوفى الحديث ، خرج وتركني في مكاني .
قال : وإذا أنا بخادم ، قال : يا مولاي ، يسألك ولدك أن تخرج إليه
قال : فخرجت إليه. فلما رآني من بعيد ، قام قائماً على رجليه ، وقال : معذرة إلى الله ، وإليك يا أبت من تقصيري في حقك ، فإنه فاجأني من أمرك ما لم أظن أنه بكون ، والآن ، فهذه النعمة لك وأنا ولدك ، وأمير المؤمنين مجتهد بي منذ دهر ، أن أدع هذه الجهبذة ، وأتوفر على خدمته في الدار ، فلا أفعل ، طلباً للتمسك بصنعتي ، والآن ، فأنا اسأله أن يرد إليك عملي ، وأخدمه أنا في غيرها ، فقم عاجلاً ، وأصلح أمرك .
فأخذت إلى الحمام ونظفت ، وجاؤوني بخلعة ، فألبستها ، وخرجت إلى حجرة والدته ، فجلست فيها ، ثم أدخلني على أمير المؤمنين ، وحدثته بحديثي ، وخلع عليَ ورد إليَ العمل الذي كان إلى ولدي ، وأجرى علي من الرزق في كل شهر كذا ، وقلد ابني أعمالاً هي من أجل عمله ، وأضعف له أرزاقه ، وأمره بلزوم حضرته في أشياء استعمله فيها من خاص أمره.
فجئت لأشكرك على ما عاملتني به من الجميل ، وأعرفك بتجديد النعمة.
سمعت شيوخنا بالصراة ، وأهلنا يتحدثون : أن عمرو بن مسعدة ، كان مصعداً من واسط إلى بغداد ، في حر شديد وهو جالس في زلاّل ، فناداه رجل : يا صاحب الزلال ، بالله عليك إلا نظرت إليَ .
قال : فكشف سجق الزلال ، فإذا بشيخ ضعيف حاسر الرأس ، فقال له : قد ترى ما أنا عليه ، ولست أجد من يحملني ، فابتغ الأجر فيّ ، وتقدم إلى ملاحيك يطرحوني بين مجادفهم ، إلى أن أصل بلداً يطرحونني فيه .
قال عمرو بن مسعدة : فرحمته ، وقلت خذوه ، فأخذوه ، فغشي عليه ، وكاد يموت لما لحقه من المشي في الشمس .
فلما أفاق ، قلت له : يا شيخ ، ما حالك ، وما قصتك ؟
فقال : قصة طويلة ، فسكنته وطرحت عليه قميصاً ومنديلاً ، وأمرت له بدراهم ، فشكرني .
فقلت : لا بد أن تحدثني بحديثك.
فقال : أنا رجل ، كانت لله – عز وجل – علي نعمة جليلة ، وكنت صيرفياً ، فابتعت جارية بخمس مئة دينار ، فعشقتها عشقاً عظيماً
وكنت لا أقدر على أفارقها ساعة واحدة ، فإذا خرجت إلى الدكان ، أخذني الجنون والهيمان حتى أعود فأجلس معها يومي كله
فدام ذلك حتى تعطل دكاني وتعطل كسبي وأقبلت أنفق من رأس المال حتى لم يبق منه قليل ولا كثير ، وأنا مع ذلك لا أطيق أن أفارقها
فحبلت الجارية ، وأقبلت أنقض داري ، وأبيع نقضها ، حتى فرغت من ذلك ، فلم تبق لي حيلة فضربها الطلق ، فقالت : يا هذا ، هو ذا أموت ، فاحتل فيما تبتاع به عسلاً ، ودقيقاً ولحماً ، وإلا مت .
فبكيت وحزنت ، وخرجت على وجهي ، وجئت لأغرق نفسي في دجلة ، فذكرت حلاوة النفس ، وخوف العقاب في الآخرة ، فامتنعت.
ثم خرجت هائماً على وجهي إلى النهروان ، وما زلت أمشي من قرية إلى قرية ، حتى بلغت خراسان ، فصادفت بها من عرفني ، وتصرفت في ضياعه ، ورزقني الله 0 عز وجل – مالاً عظيماً ، فأثريت ، واتسعت حالي ، ومكثت سنين ، لا أعرف خبر منزلي ، فلم أشك أن الجارية قد ماتت . وتراخت السنون حتى حصل لي ما قيمته عشرون ألف دينار فقلت :
قد صارت لي نعمة ، فلو رجعت إلى وطني ، فابتعت بالمال كله متاعاً من خراسان وأقبلت أريد العراق ، من طريق فارس والأهواز ، فلما حصلت بينهما ، خرج على القافلة لصوص ، فأخذوا جميع ما فيها ، ونجوت بثيابي ، وعدتُ فقيراً . ودخلت الأهواز ، فبقيت بها متحيراً ، حتى كشفت خبري لبعض أهلها ممن أعرفه ، فأعطاني ما تحملت به إلى واسط .
ونفدت نفقتي ، فمشيت إلى هذا الموضع ، وقد كدت أتلف ، فاستغثت بك ، ولي منذ فارقت بغداد ثمان وعشرون سنة .
فعجبت من ذلك ، وقلت له : اذهب ، فاعرف خبر أهلك ، وصر إليّ ، فإني أتقدم بتصريفك فيما يصلح لمثلك
فشكر ، ودعا ، ودخلنا بغداد ومضت على ذلك مدة طويلة ، أنسيته فيها ، فبينا أنا يوماً قد ركبت أريد دار المأمون ، وإذا بالشيخ على بابي راكباً بغلاً فارهاً ، بمركب محلي ثقيل ، وغلام أسود بين يديه ، وثياب حسنة فلما رأيته رحبتُ به ، وقلت : ما الخبر ؟
فقال : طويل ، وها أنا آتي إليك في غد ، وأحدثك الخبر .
فلما كان من الغد ، جاءني ، فقلت له : عرفني خبرك ، فقد سررت بسلامتك ، وبظاهر حالك
فقال : إني صعدت من زلالك فقصدت داري ، فوجدت حائطها الذي يلي الطريق كما خلفته ، غير أن باب الدار كان مجلوا ، نظيفاً ، وعليه دكاكين ، وبواب ، وبقال مع شاكريه .
فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماتت جاريتي وملك الدار بعض الجيران ، فباعها من رجل من أصحاب السلطان ، ثم تقدمت إلى بقال كنت أعرفه في المحلة ، فوجدت في دكانه غلاماً حدثاً .
فقلت له: من تكون من فلان البقال ؟
فقال : أنا ابنه
فقلت : ومتى مات ؟
قال : منذ عشرين سنة
قلت : لمن هذه الدار ؟
قال : لابن داية أمير المؤمنين ، وهو الآن صاحب بيت ماله
قلت : بمن يعرف ؟
قال : بابن فلان الصيرفي ، فأسماني
قلت : فهذه الدار من باعها إليه ؟
قال : هذه دار أبيه
قلت : وأبوه يعيش ؟
قال : لا
قلت : أتعرف من حديثهم شيئاً ؟
قال : نعم حدثني أبي أن والد هذا الرجل كان صيرفياً جليلاً ، فافتقر ، وأن أم هذا الرجل ضربها الطلق ، فخرج أبوه يطلب لها شيئاً ، ففقد وهلك.
وقال أبي : جاءني رسول أم هذا يطلب لها شيئاً ، وهي تستغيث بي ، فقمت لها بحوائج الولادة ، ودفعت لها عشرة دراهم فما أنفقتها ، حتى قيل : قد ولد لأمير المؤمنين الرشيد مولود ذكر ، وقد عرض عليه جميع الدايات فلم يقبل ثديهن ، وقد طلب له الحرائر فجاؤوا بغير واحدة ، فما أخذ ثدي واحدة منهن ، وهم في طلب مرضع ، فأرشدت الذي طلب الداية إلى أم هذا ، فحملت إلى دار الرشيد ، فحين وضع فم الصبي على ثديها قبله ، فأرضعته ، وكان الصبي المأمون ، وصارت عندهم في حالة جليلة ، ووصل إليها منهم خير كثير .
ثم خرج المأمون إلى خراسان ، وخرجت هذه المرأة وابنها هذا معها ، ولم نعرف أخبارهم إلا منذ قريب ، لما عاد المأمون ، وعادت حاشيته ، رأينا هذا قد صار رجلاً ، ولم أكن رأيته قبل قط ، وقد كان أبي مات .
فقالوا : هذا ابن فلان الصيرفي ، وابن داية الخليفة المأمون ، فبنى هذه الدار وسواها.
فقلت : فعندك علم عن أمه أهي حية أم ميتة ؟
قال : هي حية ، تمضي إلى دار الخليفة أياماً ، وتكون عند ابنها أياماً هنا .
فحمدت الله – تعالى – على هذه الحال ، وجئت ، حتى دخلت الدار مع الناس ، فرأيت الصحن في نهاية العمارة والحسن ، وفيه مجلس كبير مفروش بفرش فاخرة ، وفي صدره شاب بين يديه كتّاب وجهابذة ، وحساب يستوفيه عليهم ، وفي صفاف الدار وبعض مجالسها جهابذة بين أيديهم الأموال والتخوت والشواهين يقبضون ويُقبضون . وبصرت بالفتى ، فرأيت شبهي فيه ، فعلمت أنه ابني ، فجلستُ في غمار الناس ، إلى أن لم يبق في المجلس غيري ، فأقبل عليّ فقال : يا شيخ ، هل من حاجة تقولها ؟ فقلت : نعم ، ولكنه أمر لا يجوز أنه يسمعه غيرك.
فأومأ إلى الغلمان الذين كانوا قياماً حوله ، فانصرفوا ، وقال : قل – أعزك الله –
قلت : أنا أبوك
فلمّا سمع ذلك تغير وجهه ، ثم وثب مسرعاً ، وتركني مكاني ، فلم أشعر إلا بخادم جاءني ، فقال : قم يا سيدي ، قمت أسير معه ، حتى بلغت ستارة منصوبة. في دار لطيفة ، وكرسي بين يديها ، والفتى جالس على كرسي آخر .
فقال : أجلس أيها الشيخ
فجلست على الكرسي ، ودخل الخادم ، فإذا بحركة خلف الستارة
فقلت : أظنك تريد أن تختبر صدق ما قلت لك من جهة فلانة ، وذكرت اسم جاريتي أمه
قال : فإذا بالستارة قد كشفت ، والجارية قد خرجت إلي ، فوقعت عليّ تقبلني وتبكي ، وتقول : مولاي والله
قال : فرأيت الفتى قد تشوّش ، وبهت ، وتحير فقلت للجارية : ويحك ما خبرك ؟
فقالت : دع خبري ، ففي مشاهدتك مما تفضل الله – عز وجل – بذلك كفاية ، إلى أن أخبرك ، فقل ما كان من خبرك أنت ؟
فقصصت عليها خبري ، منذ يوم خروجي من عندها ، إلى يومي ذاك ، وقصّت هي علي قصتها مثل ما قال ابن البقال ، وأعجب ، وأشرح وكل ذلك بمرأى من الفتى ومسمع ، فلما استوفى الحديث ، خرج وتركني في مكاني .
قال : وإذا أنا بخادم ، قال : يا مولاي ، يسألك ولدك أن تخرج إليه
قال : فخرجت إليه. فلما رآني من بعيد ، قام قائماً على رجليه ، وقال : معذرة إلى الله ، وإليك يا أبت من تقصيري في حقك ، فإنه فاجأني من أمرك ما لم أظن أنه بكون ، والآن ، فهذه النعمة لك وأنا ولدك ، وأمير المؤمنين مجتهد بي منذ دهر ، أن أدع هذه الجهبذة ، وأتوفر على خدمته في الدار ، فلا أفعل ، طلباً للتمسك بصنعتي ، والآن ، فأنا اسأله أن يرد إليك عملي ، وأخدمه أنا في غيرها ، فقم عاجلاً ، وأصلح أمرك .
فأخذت إلى الحمام ونظفت ، وجاؤوني بخلعة ، فألبستها ، وخرجت إلى حجرة والدته ، فجلست فيها ، ثم أدخلني على أمير المؤمنين ، وحدثته بحديثي ، وخلع عليَ ورد إليَ العمل الذي كان إلى ولدي ، وأجرى علي من الرزق في كل شهر كذا ، وقلد ابني أعمالاً هي من أجل عمله ، وأضعف له أرزاقه ، وأمره بلزوم حضرته في أشياء استعمله فيها من خاص أمره.
فجئت لأشكرك على ما عاملتني به من الجميل ، وأعرفك بتجديد النعمة.