طالبة العلم
02-22-2016, 10:37 AM
تفسير قول الله تعالى
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
قول الله تعالى ذكره ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88].
"غلف" بضم الغين وسكون اللام، وبضم اللام أيضاً: جمع أغلف. وهو الذي يحيط به غلاف يمنع من وصول شيء إليه من الخارج. يريدون أن قلوبنا مقفلة دون قولك؛ ومغلقة أن يصل إليها شيء من دعوتك، فهي لا تنفذ إلى قلوبنا فلا تعقلها ولا نفقهها، فأرح نفسك ولا تكلفها عناد دعوتنا وقراءة الكتاب المنزل عليك علينا. وقال الله في سورة النساء ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [النساء: 155]، ويفسر هذا المعنى ويوضحه قول الله عن الكافرين في سورة الأنعام ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ﴾ [الأنعام: 25]، وفي سورة فصلت ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [فصلت: 5].
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج بزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافة، وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما الأجرد فقلب المؤمن فيه نور. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب المنافق، عرف ثم أنكر. وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد، فأي المادتين غلب على الأخرى غلب عليه".
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان - وقد تكلم فيها على القلوب وأمراضها وعللها ودوائها أحسن كلام وأبينة - فقوله "قلب أجرد" أي متجرد مما سوى الله ورسوله، فقد تجرد وسلم مما سوى الحق. و "فيه سراج يزهر" وهو مصباح الإيمان. فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الباطل وشهوات الغي، وبحصول السراج فيه إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان. وأشار بالقلب الأغلف إلى لقلب الكافر لأنه داخل في غلافه وغشائه فلا يصل إليه نور العلم والإيمان كما قال تعالى حاكياً عن اليهود ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ [البقرة: 88]، وهو جمع أغلف، وهو الداخل في غلافه، كقلف وأقلف، وهذه الغشاوة هي الأكنة التي ضربها الله على قلوبهم عقوبة لهم على رد الحق والتكبر عن قبوله؛ فهي أكنة على القلوب ووقر في الأسماع وعمى في الأبصار، وهي الحجاب المستور عن العيوب في قوله تعالى ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾ [الاسراء: 45-46]، فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة وإلى أصحابها على أدبارهم نفورا. وأشار بالقلب المنكوس – وهو المكبوب – إلى لقلب المنافق كما قال تعالى ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ﴾ [النساء: 88]، أي نكسهم وردهم في الباطل الذي كانوا فيه بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة. وهذا شر القلوب وأخبثها فإنه يعتقد الباطل حقاً ويوالي أصحابه، ويعتقد الحق باطلاً ويعادي أهله؛ فالله المستعان. وأشار بالقلب الذي له مادتان إلى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيه سراجه، حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله، بل فيه مادة منه ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان اقرب منه للكفر، والحكم لغالب وإليه يرجع. اهـ.
وقد روى مسلم في الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه. وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض" ففي هذا الحديث بيان سبب انتكاس القلب واسوداده حتى يكون في حجاب وغلاف عن وصول الهدى والخير إليه. فالسبب هو فتن الشبهات من العقائد الفاسدة والعبادات المبتعدة التي يُقذف بها القلب من تقليد الآباء والأجداد وطاعة السادة والشيوخ، وإلباسها ثوباً مزخرفاً من زينة التقاليد والعادات مموهاً بالوراثة والسواد الأعظم وجمهور الأتباع وكثرة المفتونين وفتن الشهوات، شهوات البطون والفروج التي يقذف بها الشيطان على القلوب مستعيناً بالنفس الأمارة والهوى. فلا تزال تلك الفتن فتنت البدع والمعاصي تترامى على القلب وتقع به واحدة تتلوها أختها تاركة فيه أثراً من مرضها وظلمتها وفسادها حتى تتراكم عليه طبقات من المرض والظلمات وتحيط به غلف ولفائف من الران فيحجب بتلك الأكنة، فلا يصل إليه من شيء من الهدى والعلم والنور، ولا يتصل هو بشيء من النفس فيعظها ويردها عن بعض غيها؛ فيتعطل اللقب ويصير كأنه غير موجود، ويفقد حياته وتتعطل في الإنسان وظيفته "ألا وإن فيا لجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
وقد قال الله سبحانه وتعالى في بيان أنواع الغلف التي تحجب القلوب عن نور الحق والهدى وأسبابها: في سورة الأعراف ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ﴾ [لأعراف: 100-101]، وفي سورة يونس ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [يونس: 74]، وفي سورة الروم ﴿ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 58-59]، وفي سورة المائدة ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ [المائدة: 13]، وفي سورة الجاثية ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ﴾ [الجاثية: 23]، وفي سورة محمد ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 16]، وفيها أيضاً ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وفي سورة التوبة ﴿ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ ﴾ [التوبة: 76-77]، وفيها أيضاً ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 93]، وفي سورة النحل ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [النحل: 107-108]، وفي سورة المنافقين ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 3]، وفي سورة المطففين ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14].
فبتدبر هذه الآيات حق التجبر نفهم أن الله سبحانه يعاقب العبد على إعراضه عن آيات الله وتكذيبه لرسله وكفره بما أنزل عليهم من الهدى والعلم بالختم على القلب والطبع عليه بطابع الشقاء والطرد من رحمة الله فلا يناله منها شيء ما دام في هذا الإعراض والاستكبار والتولي عن النظر في الكتاب والتوجيه إلى طلب ما فيه من فضل الله ورحمته وشفائه لما في الصدور. وهذا المراد من قول الله سبحانه في آية البقرة هذه ﴿ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾ [البقرة: 88]، وفي آية وفي آية النساء ﴿ ٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [النساء: 155]، وفي سورة المائدة ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾ [المائدة: 13]، وغير ذلك من الآيات السابقة. وهذا جزاء عادل من الله العليم الحكيم، فإن المعرض عن الآيات النافر من الانتفاع بها المستكبر عن فضل الله ورحمته فيها، هو بلا شك مستهزئ بآيات الله محتقر لها، وإن زعم أن يجودها باللفظ والتلاوة ويكرمها بالجلد والزخرف ويحملها للتبرك والحفظ من الحسد والشيطان، فإن الله لم ينزلها إلا لإحياء القلوب وإمداد حياتها بالغذاء النافع والشفاء التام العاجل ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، في حين أنه يطلب شفاء قلبه وعافيته وحياته وغذاءه من غيرها من آراء الناس وأقواله المفتراة على الله والمنسوبة إليه كذباً، وفي حين أنه يستعوض عن هدى آيات الله ونورها بظلمات تقاليد الآباء والشيوخ والسادة والكبراء تقليداً أعمى. فعقاب الله لهؤلاء المعرضين عن آيات الله والانتفاع بموعظتها، المستعيضين عنها بما زين لهم الشيطان من سوء أعمالهم – إذا عاقبهم الله بلعن القلوب وطردها من رحمته، والحيلولة بينهم وبين قلوبهم فلا ينتفعون بها إذا أحاطت بهم الفتن التي تركتهم في ظلمات الحيرة والاضطراب، مهما حاولوا جمع تلك القلوب ليفكروا بها في الخروج والخلاص من تلك الفتن التي رماهم الله بها وبعثها عليهم من أقطار الأرض لا يجدونها ولا يقدرون عليها، فلا يزال الحليم فيهم حيراناً، ولا يزال أمرهم فرطا.
اقرأ قول الله في سورة الأنفال ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [لأنفال: 22-24].
وقد روى الدارمي في السنن عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خذوا العلم قبل أن يذهب، قالوا: وكيف يذهب العلم يا نبي الله وفينا كتاب الله؟ قال فغضب – ثم قال: ثكلتكم أمهاتكم، أولم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئاً. إن ذهاب العلم أن يذهب حملته، إن ذهاب العلم إن يذهب حملته".
وروي أيضاً عن ابن مسعود قال "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربوا فيها الصغير ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا غيرت سنة. قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخر وتفقه لغير الدين".
وعن أبي الدرداء قال "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء، فقال زياد ابن لبيد الأنصاري: يا رسول الله وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة؛ هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؛ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له ألا تسمع ما يقوله أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قاله. قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس؟ الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً".
وقوله تعالى ﴿ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ يعني لا يؤمنون إلا قليلا، كما هو في آية النساء ﴿ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ أي لا يقبلون من الدين إلا ما وافق أهواءهم، فهم يدعون الإيمان بالشريعة ظاهراً ويلبسون لباسها الظاهر ولكن لا سلطان لها على أعمالهم ولا قلوبهم ولا أخلاقهم، فهم في كل ذلك عن الشريعة المنزلة من عند الله للهدى والرحمة بمعزل، وهم لذلك يحتالون بأنواع الحيل للتخلص من الشريعة، ويسمون حيلهم - كذباً وزوراً - شريعةً، خداعاً للناس ولأنفسهم، وخيانة لله ولرسوله في أماناتهم وهم يعلمون.
قال أستاذنا السيد رشيد رضا عليه سحائب الرحمة والرضوان:
ولقد كان القوم يؤمنون بالشريعة في الجملة، وكما تعطيه ظواهر الألفاظ ولكنهم لم يلبسوها مفصلة تفصيلاً، ولم يفقهوا حكمها وأسرارها، فلم يكن لها سلطان على قلوبهم، ولم تكن هي المحركة لإرادتهم في أعمالهم، وإنما كان يحركها الهوى والشهوة، ويصرفها عامل اللذة. فالإيمان إنما كان عندهم قولاً باللسان، ورسماً بلوح في الخيال تكذبه الأعمال، وتطمه السجايا الراسخة والخلال: وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله تعالى. ومن العجيب أن ترى آيات القرآن تبطله بالحجج القيمة، والأساليب المؤثرة، وأهل القرآن عن ذلك غافلون، فقليلاً ما يعتبرون ويتذكرون اهـ.
يشير إلى أن كثيراً ممن ينتسب إلى القرآن هم على هذه الصفة التي حذر منها الله ورسوله. نسأل الله لنا ولهم الهداية.
ويفهم أيضاً من قوله ﴿ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88] أنه لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم والنور الذي انزل معه إلا قليل منهم. ويكون المراد من ذلك أن الله سبحانه وتعالى يطمعهم في الانتفاع والاستفادة، ويقول: إنه وإن كان عقاب الله للمرء الذي يعرض عن آيات الله أن يلعنه الله ويطرده ويطبع على قلبه، إلا أنه إذا توجه إلى الانتفاع بالقرآن وأقبل على الاستفادة منه والتدبر لآياته، فإن الله يهدي قلبه. ولكن ذلك النوع في أولئك الذين طبع الله على قلوبهم قليل جداً. فإن هذه العقوبة إنما تكون أسباب قوية كثيرة تستحكم حلقاتها على القلب فيقسو عليها، ويكون أشد قسوة من الحجارة ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الحديد: 16-17].
أسأل الله أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وحياة أرواحنا، وغذاء نفوسنا، وشفاء صدورنا وجلاء همنا وحزننا.
مجلة الهدي النبوي المجلد الخامس - العدد 4-5 - أول ربيع الأول سنة 1360
الالوكة
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
قول الله تعالى ذكره ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88].
"غلف" بضم الغين وسكون اللام، وبضم اللام أيضاً: جمع أغلف. وهو الذي يحيط به غلاف يمنع من وصول شيء إليه من الخارج. يريدون أن قلوبنا مقفلة دون قولك؛ ومغلقة أن يصل إليها شيء من دعوتك، فهي لا تنفذ إلى قلوبنا فلا تعقلها ولا نفقهها، فأرح نفسك ولا تكلفها عناد دعوتنا وقراءة الكتاب المنزل عليك علينا. وقال الله في سورة النساء ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [النساء: 155]، ويفسر هذا المعنى ويوضحه قول الله عن الكافرين في سورة الأنعام ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ﴾ [الأنعام: 25]، وفي سورة فصلت ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [فصلت: 5].
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج بزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافة، وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما الأجرد فقلب المؤمن فيه نور. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب المنافق، عرف ثم أنكر. وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد، فأي المادتين غلب على الأخرى غلب عليه".
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان - وقد تكلم فيها على القلوب وأمراضها وعللها ودوائها أحسن كلام وأبينة - فقوله "قلب أجرد" أي متجرد مما سوى الله ورسوله، فقد تجرد وسلم مما سوى الحق. و "فيه سراج يزهر" وهو مصباح الإيمان. فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الباطل وشهوات الغي، وبحصول السراج فيه إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان. وأشار بالقلب الأغلف إلى لقلب الكافر لأنه داخل في غلافه وغشائه فلا يصل إليه نور العلم والإيمان كما قال تعالى حاكياً عن اليهود ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ [البقرة: 88]، وهو جمع أغلف، وهو الداخل في غلافه، كقلف وأقلف، وهذه الغشاوة هي الأكنة التي ضربها الله على قلوبهم عقوبة لهم على رد الحق والتكبر عن قبوله؛ فهي أكنة على القلوب ووقر في الأسماع وعمى في الأبصار، وهي الحجاب المستور عن العيوب في قوله تعالى ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾ [الاسراء: 45-46]، فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة وإلى أصحابها على أدبارهم نفورا. وأشار بالقلب المنكوس – وهو المكبوب – إلى لقلب المنافق كما قال تعالى ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ﴾ [النساء: 88]، أي نكسهم وردهم في الباطل الذي كانوا فيه بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة. وهذا شر القلوب وأخبثها فإنه يعتقد الباطل حقاً ويوالي أصحابه، ويعتقد الحق باطلاً ويعادي أهله؛ فالله المستعان. وأشار بالقلب الذي له مادتان إلى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيه سراجه، حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله، بل فيه مادة منه ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان اقرب منه للكفر، والحكم لغالب وإليه يرجع. اهـ.
وقد روى مسلم في الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه. وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض" ففي هذا الحديث بيان سبب انتكاس القلب واسوداده حتى يكون في حجاب وغلاف عن وصول الهدى والخير إليه. فالسبب هو فتن الشبهات من العقائد الفاسدة والعبادات المبتعدة التي يُقذف بها القلب من تقليد الآباء والأجداد وطاعة السادة والشيوخ، وإلباسها ثوباً مزخرفاً من زينة التقاليد والعادات مموهاً بالوراثة والسواد الأعظم وجمهور الأتباع وكثرة المفتونين وفتن الشهوات، شهوات البطون والفروج التي يقذف بها الشيطان على القلوب مستعيناً بالنفس الأمارة والهوى. فلا تزال تلك الفتن فتنت البدع والمعاصي تترامى على القلب وتقع به واحدة تتلوها أختها تاركة فيه أثراً من مرضها وظلمتها وفسادها حتى تتراكم عليه طبقات من المرض والظلمات وتحيط به غلف ولفائف من الران فيحجب بتلك الأكنة، فلا يصل إليه من شيء من الهدى والعلم والنور، ولا يتصل هو بشيء من النفس فيعظها ويردها عن بعض غيها؛ فيتعطل اللقب ويصير كأنه غير موجود، ويفقد حياته وتتعطل في الإنسان وظيفته "ألا وإن فيا لجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
وقد قال الله سبحانه وتعالى في بيان أنواع الغلف التي تحجب القلوب عن نور الحق والهدى وأسبابها: في سورة الأعراف ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ﴾ [لأعراف: 100-101]، وفي سورة يونس ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [يونس: 74]، وفي سورة الروم ﴿ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 58-59]، وفي سورة المائدة ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ [المائدة: 13]، وفي سورة الجاثية ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ﴾ [الجاثية: 23]، وفي سورة محمد ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 16]، وفيها أيضاً ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وفي سورة التوبة ﴿ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ ﴾ [التوبة: 76-77]، وفيها أيضاً ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 93]، وفي سورة النحل ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [النحل: 107-108]، وفي سورة المنافقين ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 3]، وفي سورة المطففين ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14].
فبتدبر هذه الآيات حق التجبر نفهم أن الله سبحانه يعاقب العبد على إعراضه عن آيات الله وتكذيبه لرسله وكفره بما أنزل عليهم من الهدى والعلم بالختم على القلب والطبع عليه بطابع الشقاء والطرد من رحمة الله فلا يناله منها شيء ما دام في هذا الإعراض والاستكبار والتولي عن النظر في الكتاب والتوجيه إلى طلب ما فيه من فضل الله ورحمته وشفائه لما في الصدور. وهذا المراد من قول الله سبحانه في آية البقرة هذه ﴿ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾ [البقرة: 88]، وفي آية وفي آية النساء ﴿ ٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [النساء: 155]، وفي سورة المائدة ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾ [المائدة: 13]، وغير ذلك من الآيات السابقة. وهذا جزاء عادل من الله العليم الحكيم، فإن المعرض عن الآيات النافر من الانتفاع بها المستكبر عن فضل الله ورحمته فيها، هو بلا شك مستهزئ بآيات الله محتقر لها، وإن زعم أن يجودها باللفظ والتلاوة ويكرمها بالجلد والزخرف ويحملها للتبرك والحفظ من الحسد والشيطان، فإن الله لم ينزلها إلا لإحياء القلوب وإمداد حياتها بالغذاء النافع والشفاء التام العاجل ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، في حين أنه يطلب شفاء قلبه وعافيته وحياته وغذاءه من غيرها من آراء الناس وأقواله المفتراة على الله والمنسوبة إليه كذباً، وفي حين أنه يستعوض عن هدى آيات الله ونورها بظلمات تقاليد الآباء والشيوخ والسادة والكبراء تقليداً أعمى. فعقاب الله لهؤلاء المعرضين عن آيات الله والانتفاع بموعظتها، المستعيضين عنها بما زين لهم الشيطان من سوء أعمالهم – إذا عاقبهم الله بلعن القلوب وطردها من رحمته، والحيلولة بينهم وبين قلوبهم فلا ينتفعون بها إذا أحاطت بهم الفتن التي تركتهم في ظلمات الحيرة والاضطراب، مهما حاولوا جمع تلك القلوب ليفكروا بها في الخروج والخلاص من تلك الفتن التي رماهم الله بها وبعثها عليهم من أقطار الأرض لا يجدونها ولا يقدرون عليها، فلا يزال الحليم فيهم حيراناً، ولا يزال أمرهم فرطا.
اقرأ قول الله في سورة الأنفال ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [لأنفال: 22-24].
وقد روى الدارمي في السنن عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خذوا العلم قبل أن يذهب، قالوا: وكيف يذهب العلم يا نبي الله وفينا كتاب الله؟ قال فغضب – ثم قال: ثكلتكم أمهاتكم، أولم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئاً. إن ذهاب العلم أن يذهب حملته، إن ذهاب العلم إن يذهب حملته".
وروي أيضاً عن ابن مسعود قال "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربوا فيها الصغير ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا غيرت سنة. قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخر وتفقه لغير الدين".
وعن أبي الدرداء قال "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء، فقال زياد ابن لبيد الأنصاري: يا رسول الله وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة؛ هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؛ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له ألا تسمع ما يقوله أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قاله. قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس؟ الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً".
وقوله تعالى ﴿ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ يعني لا يؤمنون إلا قليلا، كما هو في آية النساء ﴿ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ أي لا يقبلون من الدين إلا ما وافق أهواءهم، فهم يدعون الإيمان بالشريعة ظاهراً ويلبسون لباسها الظاهر ولكن لا سلطان لها على أعمالهم ولا قلوبهم ولا أخلاقهم، فهم في كل ذلك عن الشريعة المنزلة من عند الله للهدى والرحمة بمعزل، وهم لذلك يحتالون بأنواع الحيل للتخلص من الشريعة، ويسمون حيلهم - كذباً وزوراً - شريعةً، خداعاً للناس ولأنفسهم، وخيانة لله ولرسوله في أماناتهم وهم يعلمون.
قال أستاذنا السيد رشيد رضا عليه سحائب الرحمة والرضوان:
ولقد كان القوم يؤمنون بالشريعة في الجملة، وكما تعطيه ظواهر الألفاظ ولكنهم لم يلبسوها مفصلة تفصيلاً، ولم يفقهوا حكمها وأسرارها، فلم يكن لها سلطان على قلوبهم، ولم تكن هي المحركة لإرادتهم في أعمالهم، وإنما كان يحركها الهوى والشهوة، ويصرفها عامل اللذة. فالإيمان إنما كان عندهم قولاً باللسان، ورسماً بلوح في الخيال تكذبه الأعمال، وتطمه السجايا الراسخة والخلال: وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله تعالى. ومن العجيب أن ترى آيات القرآن تبطله بالحجج القيمة، والأساليب المؤثرة، وأهل القرآن عن ذلك غافلون، فقليلاً ما يعتبرون ويتذكرون اهـ.
يشير إلى أن كثيراً ممن ينتسب إلى القرآن هم على هذه الصفة التي حذر منها الله ورسوله. نسأل الله لنا ولهم الهداية.
ويفهم أيضاً من قوله ﴿ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88] أنه لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم والنور الذي انزل معه إلا قليل منهم. ويكون المراد من ذلك أن الله سبحانه وتعالى يطمعهم في الانتفاع والاستفادة، ويقول: إنه وإن كان عقاب الله للمرء الذي يعرض عن آيات الله أن يلعنه الله ويطرده ويطبع على قلبه، إلا أنه إذا توجه إلى الانتفاع بالقرآن وأقبل على الاستفادة منه والتدبر لآياته، فإن الله يهدي قلبه. ولكن ذلك النوع في أولئك الذين طبع الله على قلوبهم قليل جداً. فإن هذه العقوبة إنما تكون أسباب قوية كثيرة تستحكم حلقاتها على القلب فيقسو عليها، ويكون أشد قسوة من الحجارة ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الحديد: 16-17].
أسأل الله أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وحياة أرواحنا، وغذاء نفوسنا، وشفاء صدورنا وجلاء همنا وحزننا.
مجلة الهدي النبوي المجلد الخامس - العدد 4-5 - أول ربيع الأول سنة 1360
الالوكة