أثر القرآن في العلوم
الحمد لله ... ليس هناك كتاب في الدنيا بأسرها منذ خَلَقَ اللهُ الأرض حتى يرثها أكثر نفعاً وأعظم أثراً في العلوم من القرآن الكريم، وقد بلغ القرآن العظيم الغايةَ في البلاغة والفصاحة، وجَمَعَ كلَّ ما يحتاج إليه البشر في المعاش والمعاد، وتنوَّعت فنون القرآن وعلومه بحسب استنباط المجتهدين وفهمهم للقرآن الكريم وما فُتح لهم في ذلك.
1-
فالقراء: اعتنوا بضبط لغاته وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها، وعدد كلماته وآياته وسُوَره وأحزابه وأَنصافه وأرباعه وعدد سجداته، وحصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أُودع فيه.
2-
والمفسرون: اعتنوا بألفاظه، فوجدوا منه لفظاً يدل على معنى واحد، ولفظاً يدل على معنيين، ولفظاً يدل على أكثر، فَأَجْرَوا الأول على حُكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني، وأَعمل كلٌّ منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره.
3-
والنُّحاة: قعَّدوا قواعد النَّحو: فاعتنوا بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأَفعال والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال، واللازم والمتعدي، حتى إنَّ بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أَعربه كلمة كلمة.
4-
وعلماء أصول الدين: اعتنوا بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنَّظرية، مثل قوله تعالى: {
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منه أدلةً على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدرته وعلمه وتنزيهه عَمَّا لا يليق به تعالى، وسمَّوا هذا العلم: بأصول الدين.
5-
وعلماء أصول الفقه: تأمَّلوا معاني خطابه، فرأوا أن منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص، وتكلموا في التَّخصيص، والنَّص، والظَّاهر، والمجمل، والمُحكم والمُتشابه، والأمر والنهي، والنَّسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء، وسمَّوا هذا الفن: بأصول الفقه.
6-
والفقهاء: أحكموا صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسَّسوا أصوله، وفَرَّعُوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطاً حسناً، وسمَّوه: بعلم الفروع، وبالفقه أيضاً.
7-
والمؤرِّخون: تلمَّحوا ما فيه من قصص القرون السالفة والأُمم الخالية، ونقلوا أخبارهم ودوَّنوا آثارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدُّنيا وأَوَّل الأشياء، وسمَّوا ذلك: بالتَّاريخ والقصص.
8-
والخطباء وأهل الوعظ: تنبَّهوا لما فيه من الحِكَم والأمثال والمواعظ التي تكاد تُدكدِك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد، والتَّحذير، والتَّبشير، وذكر الموت والمعاد، والنشر والحشر، والحساب والعقاب، والجنة والنار فصولاً من المواعظ، وأصولاً من الزواجر، فسُمُّوا بذلك: الخطباء والوعَّاظ.
9-
وعلماء الفلك: نظروا إلى ما فيه من الآيات الدَّالاَّت على الحِكَم الباهرة في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله، والنُّجوم والبروج وغير ذلك؛ فاستخرجوا منه: علم المواقيت.
10-
والكُتَّاب والشُّعراء: نظروا إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النَّظْم وحسن السِّياق، والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز وغير ذلك، فاستنبطوا منه: المعاني والبيان والبديع.
*
وقد احتوى القرآن العظيم أيضاً على علوم أُخرى من علوم الأَوائل، ومنها:
1-
الطِّب: فإن مداره على حفظ نظام الصِّحة واستحكَام القوَّة؛ وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادَّة، وقد جُمِعَ ذلك في آية واحدة وهي قوله تعالى: {
وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
2-
والهندسة: في قوله تعالى: {
انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30].
3-
والجدل: فقد حوت آيات القرآن من البراهين، والمقدِّمات، والنتائج، والقول بالموجب والمعارضة، وغير ذلك شيئاً كثيراً، ومناظرة إبراهيم نمرود، ومحاجَّتُه قومَه أصلٌ في ذلك عظيم.
*
وفي القرآن العظيم أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها، ومنها:
الخياطة في قوله: {
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} [الأعراف: 22].
والحدادة في قوله: {
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف: 96]، {
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10].
والنِّجارة: {
وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37].
والغزْل: {
نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل: 92].
والنَّسج: {
كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 41].
والفلاحة: {
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] الآيات.
والصَّيد، والبناء، والبيع والشِّراء، والكِيالة والوزن في آيات مختلفة ومتنوعة.
والغَوْص: {
كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص: 37]، {
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} [النحل: 14].
والصِّياغة: {
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا} [الأعراف: 148].
والزِّجاجة: {
صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44]، {
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35].
والفِخارة: {
فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص: 38].
والمِلاحة: {
أَمَّا السَّفِينَةُ...} [الكهف: 79].
والكِتابة: {
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4].
والخَبْز: {
أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا} [يوسف: 36].
والطَّبخ: {
بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69].
والجِزارة: {
إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].
والصِّباغة: {
جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27].
والنِّحاتة: {
وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء: 149].
والرِّماية: {
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]، {
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] [1].
وينبغي أن يُتَنَبَّه في هذا المقام إلى أمر مهم للغاية: وهو أن القرآن العظيم كتاب هداية وإرشاد ورحمة ونور للعالمين، وليس هو من كتب العلوم الطبيعية، فهذه العلوم ليست مقصودة لذاتها بل لما تحمله من عظة وعبرة، وتُبين للناس نعمة الله عليهم أن أرشدهم إلى مصالحهم الدنيوية وعلمهم إياها، فلا ينبغي أن ينصرف الناس عن مقصد القرآن الأول والأخير - وهو هدايته إلى الصراط المستقيم - إلى البحوث العلمية البحتة: كالجغرافيا، وعلم النبات، وعلم الحيوان، وعلم الطيور، وعلم الدواب،... ونحو ذلك.
[1] انظر: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (ص725-732). وقد نقله السيوطي - مُلَخَّصاً - عن ابن أبي الفضل المرسيّ في تفسيره.
الألوكة