لمحاتٌ من التوجيه اللغوي للقراءات السبع
في سورة التحريم
هذه لمحاتٌ سريعةٌ لتوجيه القراءات السبع في سورة التحريم، مع محاولة ربطها بالمستوى اللغوي الذي تنتمي إليه:
1. قال تعالى: ﴿
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾
[الآية: 3]
قرأ الكسائي (
عَرَفَ ) بتخفيف الراء، وقرأ الباقون ( عَرَّفَ ) بتشديد الراء.[1]
التوجيه:
من قرأ (
عَرَفَ ) أي: "جازى النبي على بعضٍ وعفا عن بعضٍ، تكرُّما منه صلى الله عليه وسلم، وجاء التفسير فيه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- أسر إلى بعض أزواجه سرًّا فأفشته عليه، ولم تكمته، فأطلع الله نبيه على ذلك، فجازاها على بعض ما فعلت، وأعرض عن بعض، فلم يجازها عليه، ومجازاته لها هو طلاقها"[2]
وكثير من العلماء على أنَّ هذا هو المعنى المراد، ومن ثم لا يكون (عَرَفَ) هنا بمعنى (عَلِمَ)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا أظهره الله على ما أسره إليها علم جميع ذلك، ولم يجز أن يُعلَمَ من ذلك مع إظهار الله إياه عليه بعضه.[3]
ومن قرأ (
عَرَّفَ ) فعلى معنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرَّف حفصة بعض ما حدثها به، وأمسك عن بعض الحديث، على وجه التكرم والتغاضي منه صلوات ربي وتسليماته عليه.
والاختلاف هنا ينتمي إلى المستوى الصرفي، وعلى وجه التحديد: (الاختلاف بين الأفعال المجردة والمزيدة).
2. قال تعالى: ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ [الآية: 4]
في هذه الآية موضعان:
الموضع الأول:
قرأ الكوفيون (
تَظَاهَرَا ) بتخفيف الظاء، وقرأ الباقون(
تَظَّاهَرَا ) بتخفيف الظاء.[4]
التوجيه:
من قرأ ( تَظَاهَرَا ) من ظَاهَر يُظاهِر، فلا توجد فاء
تقتضي التشديد.
ومن قرأ (
تَظَّاهَرَا ) فأصلها: تتظاهر، فأدغمت التاء في الظاء، وهو مثل (تظاهرون) في أول سورة المجادلة فلنعد إليه ففيه مزيد تفصيل.
الموضع الثاني:
قرأ ابن كثير (
وَجَبْرِيلُ ) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وقرأ أبو بكر عن عاصم ( وَجَبْرَئِلُ) بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة من غير ياء.
وقرأ حمزة والكسائي ( وَجَبْرَئِيلُ) بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة بعدها ياء.
وقرأ الباقون (
وَجِبْرِيلُ ) بكسر الجيم والراء من غير همز.[5]
التوجيه:
كلمة (جبريل) أعجمية، وعندما دخلت هذه الكلمةُ العربيةَ مِن العرب مَن نطق بها على مثال كلام العرب، فــ ( جَبْرِيلُ ) على وزن (قِنديل ومِنديل)، والصيغ الأخرى (
جَبْرَئِلُ ) و(
جَبْرَئِيلُ) و (
جِبْرِيلُ ) على خلاف كلام العرب ليُعلم أنها ليست من كلام العرب.[6]
والاختلاف هنا ينتمي إلى المستوى الصرفي، وعلى وجه التحديد: (الاختلاف بين الألفاظ المعرَّبة).
3. قال تعالى: ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾ [الآية: 5]
قرأ نافع وأبو عمرو(
أَنْ يُبَدِّلَهُ ) بتشديد الدال. وقرأ الباقون ( أَنْ يُبْدِلَهُ) بتخفيف الدال.
التوجيه:
الاختلاف بين (يبدل) و(يبدِّل) هو اختلاف بين الفعل المجرد والمزيد بحرف عن طريق التشديد، وقد ذكرنا مثله.
4. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الآية: 8]
قرأ أبو بكر عن عاصم ( نُصُوحًا ) بضم النون، وقرأ الباقون (
نَصُوحًا) بفتح النون.
التوجيه:
من قرأ (
نُصُوحًا ) فعلى أنه مصدر، نَصَح نُصُوحًا، وهو قليلٌ.
ومن قرأ ( نَصُوحًا ) فعلى أنه " صفة لتوبة، وحذف الهاء؛ لأنها معدولة عن أصلها، لأن الأصل فيها ناصحة، فلما عدلت من فاعل إلى فَعُول حذفت الهاء منها دلالةً على العدْل"[7]
والاختلاف هنا ينتمي إلى المستوى الصرفي، وعلى وجه التحديد: (الاختلاف بين صيغ الأسماء).
5. قال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [الآية: 12]
قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم (
وَكُتُبِهِ ) على الجمع، وقرأ الباقون (
وَكِتَابِهِ ) على التوحيد.
التوجيه:
من قرأ ( وَكُتُبِهِ ) فعلى الجمع؛ لأن مريم آمنت بكتب الله، ولم تؤمن بكتابٍ واحدٍ، وهو موافق للسياق قبله في (بِكَلِمَاتِ) على الجمع، فوافق الجمعُ الجمعَ.
ومن قرأ ( وَكِتَابِهِ ) بالإفراد المراد به الجمع؛ وقد جاء ذلك كثيرًا، ومنه قوله تعالى: ﴿
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾
[إبراهيم: 34].
فالقراءتان على ذلك بمعنى واحدٍ، واختلافهما ينتمي إلى (المستوى الصرفي)، من حيث الاختلاف ما بين (الإفراد والجمع).
[1] ينظر: التيسير في القراءات السبع (172)
[2] الكشف (2/325)
[3] ينظر: الحجة (6/301) لأبي علي.
[4] ينظر: التيسير في القراءات السبع (64، 172)
[5] ينظر: السابق (64، 172)
[6] ينظر: الكشف (1/255)
[7] الحجة لابن خالويه (349)
الألوكة