عرض مشاركة واحدة
قديم 06-10-2017, 04:41 PM   #15
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الأميرة
الأميرة غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 30869
 تاريخ التسجيل :  May 2017
 أخر زيارة : 06-22-2017 (12:27 PM)
 المشاركات : 206 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



العدل. فهذه الأمة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق، بأن الله قد بعث نوحاً بالحق، وأنزل عليه الحق وأمره به، وأنه بلغه إلى أمته على أكمل الوجوه وأتمها، ولم يدع شيئاً مما قد ينفعهم في دينهم إلا وقد أمرهم به، ولا شيئاً مما قد يضرهم إلا وقد نهاهم عنه، وحذرهم منه.

وهكذا شأن جميع الرسل، حتى أنه حذر قومه المسيح الدجال وإن كان لا يتوقع خروجه في زمانهم؛ حذراً عليهم وشفقة ورحمة بهم.

كما قال البُخَاريّ: حَدَّثَنا عبدان، حَدَّثَنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال سالم قال ابن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: "إني لأنذرتموه، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكني أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور".

وهذا الحديث في "الصحيحين" أيضاً من حديث شيبان بن عبد الرحمن عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أحدثكم عن الدجال حديثاً ما حدث به نبي قومه؟ إنه أعور، وإنه يجيء معه بمثال الجنَّة والنار والتي يقول عليها الجنَّة هي النار، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه" لفظ البُخَاريّ.

وقد قال بعض علماء السلف: لما استجاب الله له، أمره أن يغرس شجراً ليعمل منه السفينة، فغرسه وانتظره مائة سنة، ثم نجره في مائة أخرى، وقيل في أربعين سنة. والله أعلم.

قال مُحَمْد بن إسحاق عن الثوري: وكانت من خشب الساج، وقيل من الصنوبر وهو نص التوراة.

قال الثوري: وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤا أزور يشق الماء.

وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعاً. وهذا الذي في التوراة على ما رأيته. وقال الحسن البصري: ستمائة في عرض ثلاثمائة، وعن ابن عبَّاس: ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع وقيل: كان طولها ألفي ذراع، وعرضها مائة ذراع.

قالوا كلهم: وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات كل واحد عشرة أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش، والوسطى للناس، والعليا للطيور. وكان بابها في عرضها، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.

قال الله تعالى: {
قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِي، فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} أي بأمرنا لك، وبمرأى منا لصنعتك لها، ومشاهدتنا لذلك، لنرشدك إلى الصواب في صنعتها.

{فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}.

فتقدم إليه بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه، أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها لبقاء نسلها، وأن يحمل معه أهله، أي أهل بيته، إلا من سبق عليه القول منهم، أي إلا من كان كافراً فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد، ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد. وأمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعانيه من العذاب العظيم، الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد. كما قدمنا بيانه قبل.

والمراد بالتنور عند الجمهور وجه الأرض، أي نبعت الأرض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محال النار. وعن ابن عبَّاس: التنور عين في الهند، وعن الشَّعبي بالكوفة، وعن قتادة بالجزيرة.

وقال علي بن أبي طالب: المراد بالتنور فلق الصبح وتنوير الفجر، أي إشراقه وضياؤه. أي عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين وهذا قول غريب.

وقوله تعالى: {
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} هذا أمر بأنه عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين.

وفي كتاب أهل الكتاب: أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج، وما لا يؤكل زوجين ذكر وأنثى.

وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق: "اثنين" أن جعلنا ذلك مفعولاً به، وأما إن جعلناه توكيداً لزوجين والمفعول به محذوف فلا ينافي. والله أعلم.

وذكر بعضهم - ويروى عن ابن عبَّاس: أن أول ما دخل من الطيور الدرة، وأخر ما دخل من الحيوانات الحمار. ودخل إبليس متعلقاً بذنب الحمار.

وقال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف نطمئن؟ أو كيف تطمئن المواشي ومعنا الأسد؟ فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض. ثم شكوا الفأرة، فقالوا الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا. فأوحى الله إلى الأسد فعطس، فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها. هذا مرسل.

وقوله: {
وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أي من استجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر، فكان منهم ابنه "يام" الذي غرق كما سيأتي بيانه.

{وَمَنْ آمَنَ} أي واحمل فيها من آمن بك من أمتك. قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم، ودعوتهم الأكيدة ليلاً ونهاراً، بضروب المقال، وفنون التلطفات، والتهديد والوعيد تارة، والترغيب والوعيد أخرى.

وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة:

فعن ابن عبَّاس: كانوا ثمانين نفساً معهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفساً. وقيل: كانوا عشرة. وقيل: إنما كانوا نوحاً وبنيه الثلاثة وكنائنه الأربع بامرأة "يام" الذي انخذل وانعزل، وتسلل عن طريق النجاة فما عدل إذ عدل.

وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية، بل هي نص في أنه قد ركب معه من غير أهله طائفة ممن آمن به، كما قال: {
وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}.

وقيل كانوا سبعة.

وأما امرأة نوح وهي أم أولاده كلهم: وهم حام وسام ويافث ويام، ويسميه أهل الكتاب كنعان وهو الذي قد غرق، وعابر، فقد ماتت قبل الطوفان، وقيل إنها غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها.

وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك، أو أنها أنظرت ليوم القيامة، والظاهر الأول لقوله: {
لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}.

قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}.

أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة، فنجاه بها وفتح بينه وبين قومه، وأقر عينه ممن خالفه وكذبه، كما قال تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}.

وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور: أن يكون على الخير والبركة، وأن تكون عاقبتها محمودة، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً}.

وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية وقال: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي على اسم الله ابتداء سيرها وانتهاؤه. {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي وذو عقاب أليم، مع كونه غفوراً رحيماً، لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، كما أحل بأهل الأرض الذين كفروا به وعبدوا غيره.

قال الله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطراً لم تعهده الأرض قبله ولا تمطره بعده، كان كأفواه القرب، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها. كما قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} والدسر المسامير {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بحفظنا وكلاءتنا وحراستنا ومشاهدتنا لها {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ}.

وقد ذكر ابن جرير وغيره: أن الطوفان كان في ثالث عشر من شهر آب في حساب القبط.

وقال تعالى: {
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي السفينة {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، وهو الذي عند أهل الكتاب. وقيل ثمانين ذراعاً، وعم جميع الأرض طولها والعرض، سهلها وحزنها، وجبالها وقفارها ورمالها، ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف، ولا صغير ولا كبير.

قال الإمام مالك عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان قد ملأوا السهل والجبل. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم تكن بقعة في الأرض إلا ولها مالك وحائز.

رواهما ابن أبي حاتم.

{
وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ}

وهذا الابن هو "يام" أخو سام وحام ويافث، وقيل اسمه كنعان. وكان كافراً عمل عملاً غير صالح، فخالف أباه في دينه ومذهبه، فهلك مع من هلك. هذا وقد نجا مع أبيه الأجانب في النسب، لما كانوا موافقين في الدين والمذهب.

{
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}

أي لما فرغ من أهل الأرض، ولم يبقى بها أحد ممن عبد غير الله عز وجل، أمر الله الأرض أن تبتلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر{وغيض الماء} أي نقص عما كان وقيل بعداً للقوم الظالمين {وقضي الأمر} أي وقع بهم الذي كان قد سبق في علمه وقدره؛ من إحلاله بهم ما حل بهم.

{وقيل بعداً للقوم الظالمين} أي نودي عليهم بلسان القدرة: بعداً لهم من الرحمة والمغفرة.

كما قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ}.

وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.

وقال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}.

وقال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون، ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

وقال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} وقال تعالى:{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ}.

وقال: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.

وقال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً}.

وقد استجاب الله تعالى - وله الحمد والمنة - دعوته، فلم يبق منهم عين تطرف.

وقد روى الإمامان أبو جعفر بن جرير وأبو مُحَمْد بن أبي حاتم في تفسيرهما من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن قائد مولى عبد الله بن أبي رافع، أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فلو رحم الله من قوم نوح أحداً لرحم أم الصبي!".

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة - يعني إلا خمسين عاماً - وغرس مائة سنة الشجر، فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها ثم جعلها سفينة، ويمرون عليه ويسخرون منه، ويقولون: تعمل سفينة في البر؟ كيف تجري؟ قال: سوف تعلمون.

فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حباً شديداً. فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي!"

وهذا حديث غريب. وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وغير واحد، شبيه لهذه القصة. وأحرى بهذا الحديث أن يكون موقوفاً متلقى عن مثل كعب الأحبار. والله أعلم.

والمقصود أن الله لم يبقي من الكافرين دياراً.

فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج بن عنق - ويقال ابن عناق - كان موجوداً من قبل نوح إلى زمان موسى. ويقولون كان كافراً متمرداً جباراً عنيداً. ويقولون كان لغير رشدة، بل ولدته أمه بنت آدم من زنى، وأنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار ويشويه في عين الشمس، وأنه كان يقول لنوح وهو في السفينة: ما هذه القصعة التي لك؟ ويستهزئ به. ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلثاً إلى غير ذلك من الهذيانات التي لولا أنها مسطرة في كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس، لما تعرضنا لحكايتها، لسقاطتها وركاكتها. ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول.

أما المعقول: فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره، وأبوه نبي الأمة وزعيم أهل الإيمان، ولا يهلك عوج بن عنق، ويقال عناق، وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا؟

وكيف لا يرحم الله منهم أحداً ولا أم الصبي ولا الصبي، ويترك هذا الدعى الجبار العنيد الفاجر، الشديد الكافر، الشّيْطان المريد على ما ذكروا؟

وأما المنقول فقد قال الله تعالى: {
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ } وقال: {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}.

ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالف لما في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن".

فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى {
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} أنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن، أي لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلى يوم إخباره بذلك وهلم جرا إلى يوم القيامة. وهذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه.

فكيف يترك هذا ويذهل عنه، ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب، الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها؟ فما ظنك بما هم يستقلون بنقله، أو يؤتمنون عليه، وهم الخونة والكذبة، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلاقاً من بعض زنادقتهم وفجارهم الذين كانوا أعداء الأنبياء. والله أعلم.

ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده، وسؤاله له عن غرقه على وجه الاستعلام والاستكشاف.

ووجه السؤال: إنك وعدتني بنجاة أهلي معي وهو منهم وقد غرق؟

فأجيب بأنه ليس من أهلك، أي الذين وعدت بنجاتهم، أي أنّا قلنا لك: {
وأهلك إلاّ من سبق عليهِ القول منهم} فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأنه سيغرق بكفره، ولهذا ساقته الأقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان، فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان.

ثم قال تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض وأمكن السعي فيها والاستقرار عليها، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودي، وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور، {بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ } أي اهبط سالماً مباركاً عليك، وعلى أمم ممن سيولد بعد، أي من أولادك، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلاً ولا عقباً سوى نوح عليه السلام. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم، ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة وهم: سام وحام ويافث.

قال الإمام أحمد: حَدَّثَنا عبد الوهاب، عن سعيد عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم".

ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعاً نحوه


 

رد مع اقتباس